بسم الله الرحمن الرحيم
أيها الولد
خطبة الرسالة
الحمد لله رب العالمين ، و العاقبة للمتقين ، و الصلاة و السلام على نبيه محمد و آله أجمعين .
أعلم ، أن واحداً من الطلبة المتقدمين لازم خدمة الشيخ الإمام زين الدين حجّة الإسلام أبي حامد بن محمد الغزالي قدس الله روحه ، و اشتغل بالتحصيل ، وقراءة العلم عليه حتى جمع من دقائق العلوم ، و استكمل من فضائل النفس ، ثم إنه فكر يوماً حال نفسه و خطر على باله ، فقال : إني قرأت أنواعاً من العلوم ، و صرفت ريعان عمري على تعلمها و جمعها . فالآن ينبغي أن أعلم أي نوعها ينفعني غداً و يؤنسني في قبري وأيها لا ينفعني حتى أتركه ، فقد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ” اللهم إن أعوذ بك من علم لا ينفع ” ، فاستمرت له هذه الفكرة حتى كتب إلى حضرة الشيخ حجة الإسلام محمد الغزالي رحمة الله تعالى عليه استفتاءً، و سأل عنه مسائل و التمس منه نصيحة و دعاء ، و قال : و إن كان مصنفات الشيخ كالإحياء و غيره يشتمل على جواب مسائلي لكن مقصودي أن يكتب الشيخ حاجتي في ورقات تكون معي مدة حياتي و أعمل بما فيها مدى عمري إن شاء الله تعالى ، فكتب الشيخ هذه الرسالة إليه في جوابه ، و الله أعلم .
اعلم أيها الولد المحب أطال الله بقاءك بطاعته ، و سلك بك سبيل أحبائه أن منشور النصيحة يكتب من معادن الرسالة عليه السلام إن كان قد بلغك منه نصيحة فأي حاجة لك في نصيحتي ، و إن لم يبلغك منه فقل لي ماذا حصلت في هذه السنين الماضية .
أيها الولد: من جملة ما نصح به رسول الله صلى الله عليه و سلم أمته قوله : ” علامة إعراض الله عن العبد اشتغاله بما لا يعنيه و إن امرأ ذهبت ساعة من عمره في غير ما خلق له لجدير أن تطول عليه حسرته ومن جاوز الأربعين و لم يغلب خيره شره فليتجهز إلى نار ” ، و في هذه النصيحة كفاية لأهل العلم .
أيها الولد : النصيحة سهلة و المشكل قبولها لأنها في مذاق متبعي الهوى مرة إذ المناهي محبوبة في قلوبهم وعلى الخصوص لمن كان طالب العلم الرسمي مشتغل في فضل النفس و مناقب الدنيا ، فإنه يحسب أن العلم المجرد له سيكون نجاته و خلاصه فيه ، و إنه مستغن عن العمل . و هذا اعتقاد الفلاسفة سبحان الله العظيم لا يعلم هذا القدر أنه حين حصل العلم إذا لم يعمل به تكون الحجة عليه آكد ، كما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ” أشد الناس عذاباً يوم القيامة عالم لا ينفعه الله بعلمه ” . و روي أن الجنيد قدس الله سره رأى في المنام موته ، فقيل له : ما الخبر يا أبا القاسم ؟ قال : طاحت تلك العبارات ، و فنيت تلك الإشارات و ما نفعنا إلا ركيعات ركعناها في جوف الليل .
أيها الولد: لا تكن من الأعمال مفلساً، و لا من الأحوال خالياً و تيقن أن العلم المجرد لا يأخذ اليد، مثاله: لو كان على رجل في برية عشرة أسياف هندية مع أسلحة أخرى، و كان الرجل شجاعاً و أهل حرب فحمل عليه أسد عظيم مهيب فما ظنك هل تدفع الأسلحة شره عنه بلا استعمالها و ضربها؟ فمن المعلوم أنها لا تدفع إلا بالتحريك و الضرب، فكذا لو قرأ رجل مائة ألف مسألة علمية و تعلمها و لم يعمل بها لا تفيده إلا بالعمل، و مثله أيضاً لو كان لرجل حرارة و مرض صفراوي يكون علاجه بالسكنجبين و الكشكاب فلا يحصل البرء إلا باستعمالها (شعر):
كرمي دواهزار رطل همي بيمائي
تامي نخوري نباشدت شيبدائي
و لو قرأت العلم مائة سنة و جمعت ألف كتاب، لا تكون مستعداً لرحمة الله تعالى إلا بالعمل: ” وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى ” ( النجم: 39)، ” فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا ” [الكهف: 110]، ” جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ” [التوبة: 82]. ” إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلا(107) خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلا “
ص 276
[الكهف: 107، 108]، “إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا ” [الفرقان: 70]. و ما تقول في هذا الحديث: “بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله و أن محمد رسول الله، و إقام الصلاة، و إيتاء الزكاة، و صوم رمضان، و حج البيت من استطاع إليه سبيلاً”. و الإيمان قول باللسان و تصديق بالجنان و عمل بالأركان، و دليل الأعمال أكثر من أن يحصى إن كان العبد يبلغ الجنة بفضل الله تعالى و كرمه، لكن بعد أن يستعد بطاعته و عبادته لأن رحمة الله قريب من المحسنين، و لو قيل أيضاً يبلغ بمجرد الإيمان، قلنا: نعم، لكن متى يبلغ؟ و كم من عقبة كؤود يقطعها إلى أن يصل؟ فأول تلك العقبات عقبة الإيمان، و انه هل يسلم من سلب الإيمان أم لا؟ و إذا وصل، هل يكون خائناً مفلساً؟ و قال الحسن البصري: يقول الله تعالى لعبادة يوم القيامة: ادخلوا يا عبادي الجنة برحمتي و اقتسموها بأعمالكم.
أيها الولد: ما لم تعمل لم تجد الأجر.
حكي أن رجلاً من بني إسرائيل عبد الله تعالى سبعين سنة فأراد الله تعالى أن يجلوه على الملائكة فأرسل الله إليه ملكاً يخبره أنه مع تلك العبادة لا يليق به دخول الجنة، فلما بلغه قال العابد: نحن خلقنا للعبادة فينبغي لنا أن نعبده، فلما رجع الملك قال: إلهي أنت أعلم بما قال، فقال الله تعالى: ” إذا هو لم يعرض عن عبادتنا فنحن مع الكرم لا نعرض عنه، اشهدوا يا ملائكي أني قد غفرت له”، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ” حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أعمالكم قبل أن توزنوا”. و قال على رضي الله عنه: ” من ظن أنه بدون الجهد يصل فهو متمن، و من ظن أنه يبذل الجهد يصل فهو مستغن”. و قال الحسن رحمة الله تعالى: (طلب الجنة بلا عمل ذنب من الذنوب). و قال: علامة الحقيقة ترك ملاحظة العمل لا ترك العمل. و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: ” الكيس من دان نفسه و عمل لما بعد الموت و الأحمق من اتبع هواه و تمنى على الله الأماني”.
أيها الولد: كم من ليال أحييتها بتكرار العلم و مطالعة الكتب و حرمت على نفسك النوم، لا أعلم ما كان الباعث فيه إن كان نيل عرض الدنيا و جذب حطامها و تحصيل مناصبها و المباهاة على الأقران و الأمثال فويل لك ثم ويل لك. و إن كان قصدك فيه إحياء شريعة النبي صلى الله عليه و سلم و تهذيب أخلاقك و كسر النفس الأمّارة بالسوء، فطوبي لك ثم طوبي لك. و لقد صدق من قال شعراً:
سهر العيون لغير وجهك ضائع
و بكاؤهن لغير فقدك باطل
أيها الولد: عش ما شئت فإنك ميت، و أحبب من شئت فأنك مفارقه، و اعمل ما شئت فإنك مجزي به.
ص 277
أيها الولد: أي شيء حاصل لك من تحصيل علم الكلام، و الخلاف و الطب و الدواوين و الأشعار و النجوم و العروض و النحو و التصريف غير تضييع العمر بخلاف ذي الجلال، إني رأيت في إنجيل عيسى الصلاة و السلام، قال: من ساعة أن يوضع الميت على الجنازة إلى أن يوضع على شفير القبر يسأل الله بعظمته منه أربعين سؤالاً، لله أوله يقول عبدي طهرت منظر الخلق سنين و ما طهرت منظري ساعة و كل يوم ينظر في قلبك يقول: ما تصنع لغيري و أنت محفوف بخيري، أما أنت أصم لا تسمع.
أيها الولد: العلم بلا عمل جنون، و العمل بغير علم لا يكون.
و أعلم أن العلم لا يبعدك اليوم عن المعاصي، و لا يحملك على الطاعة، و لن يبعدك غداً عن نار جهنم، و إذا لم تفعل اليوم و لم تدرك الأيام الماضية تقول غداً يوم القيامة، فارجعنا نعمل صالحاً، فيقال: يا أحمق أنت من هناك تجيء.
أيها الولد: أجعل الهمة في الروح، و الهزيمة في النفس، و الموت في البدن لأن منزلك القبر، و أهل المقابر ينتظرونك في كل لحظة متى تصل إليهم، إياك إياك أن تصل إليهم بلا زاد، و قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: هذه الأجساد قفص الطيور، و اصطبل الدواب، فتفكر في نفسك من أيهما أنت، إن كنت من الطيور العلوية فحين تسمع طنين طبل ارجعي إلى ربك تطير صاعداً إلى أن تقعد في أعالي بروج الجنان، كما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :”اهتز عرش الرحمن من موت سعد بن معاذ”. و العياذ بالله إن كنت من الدواب، كما قال الله تعالى: ” أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ” [الأعراف: 179]. فلا تأمن انتقالك من زاوية الدار إلى هاوية النار، و روي أن الحسن البصري رحمة الله تعالى أعطى شربة ماء بارد فأخذ القدح و غشي عليه و سقط من يده، فلما أفاق قيل له: مالك يا أبا سعيد؟ قال: ذكرت أمنية أهل النار حين يقولون لأهل الجنة أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله.
أيها الولد: لو كان العلم المجرد كافياً لك و لا تحتاج إلى عمل سواه، لكان نداء: هل من سائل، هل من مستغفر، هل من تائب ضائعاً، بلا فائدة. و روي أن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين ذكروا عبد الله بن عمر عند رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال: ” نعم الرجل هو، لو كان يصلي بالليل” و قال عليه السلام لرجل من أصحابه: ” يا فلان لا تكثر النوم بالليل، فإن كثرة النوم بالليل يدع صاحبه فقيراً يوم القيامة”.
أيها الولد: و من الليل فتهجد به: أمر، و بالأسحار هم يستغفرون شكر، و المستغفرون بالأسحار ذكر، قال عليه السلام: ” ثلاثة أصوات الذي يقرأ القرآن، و صوت المستغفرين بالأسحار”. قال سفيان الثوري، رحمة الله تعالى عليه: إن الله تبارك و تعالى خلق ريحاً بالأسحار تحمل الأذكار و الاستغفار إلى الملك الجبار،
ص 278
و قال أيضاً: إذا كان أولّ الليل ينادي مناد من تحت العرش: ألا ليقيم العابدون فيقومون و يصلون ما شاء الله، ثم ينادي مناد في شطر الليل: ألا ليقيم القانتون، فيقومون و يصلون إلى السحر، فإذا كان السحر نادي مناد: ألا يقيم المستغفرون، فيقومون و يستغفرون، فإذا طلع الفجر نادي مناد: ألا ليقيم الغافلون، فيقومون من فروشهم كالموتى نشروا من قبورهم.
أيها الولد: روي في وصايا لقمان الحكيم لابنه أنه قال: يا بني لا يكونن الديك أكيس منك ينادي بالأسحار و أنت نائم، و لقد أحسن من قال شعراً:
لقد هتفت في جنح ليل حمامة … على فنن و هنا و إني لنائم
كذبت و بيت الله لو كنت عاشقاً … لنا سبقتني بالبكاء الحمائم
و أزعم أني هائم ذو صبابة … لربي فلا أبكي، و تبكي البهائم
أيها الولد: خلاصة العلم أن تعلم أن الطاعة و العبادة ما هي.
اعلم: أنا الطاعة و العبادة متابعة الشارع في الأوامر و النواهي، بالقول و الفعل. يعني كل ما تقول و تفعل و تترك و يكون باقتداء الشرع، كما لو صمت يوم العيد و أيام التشريق تكن عاصياً، أو صليت في ثوب مغصوب و إن كانت صورة عبادة تأثم.
أيها الولد: ينبغي لك أن يكون قولك و فعلك موافقاً للشرع إذ العلم و العمل بلا اقتداء الشرع ضلالة، و ينبغي لك أن لا تغتر بالشطح و طامات الصوفية لأن سلوك هذا الطريق يكون بالمجاهدة و قطع شهوة النفس و قتل هواها بسيف الرياضة لا بالطامات و التراهات.
و اعلم، أن اللسان المطلق و القلب المطبق المملوء بالغفلة و الشهوة علامة الشقاوة، حتى لا تقتل النفس بصدق المجاهدة لن يحيي قلبك بأنوار المعرفة.
و اعلم أن بعض مسائلك التي سألتني عنها لا يستقيم جوابها بالكتابة و القول إن لم تبلغ تلك الحالة تعرف ماهي، و إلا فعلمها من المستحيلات لأنها ذوقية، و كل ما يكون ذوقياً لا يستقيم وصفه بالقول كحلاوة الحلو و مرارة المر لا يعرف إلا بالذوق. كما حكي أن عنينا كتب إلا صاحب له أن عرفني لذة المجامعة كيف تكون، فكتب له في جوابه: يا فلان إني كنت حسبتك عنيناً فقط. الآن عرفت أنك عنين أحمق. لأن هذه اللذة ذوقية إن تصل إليها تعرف، و إلا لا يستقيم وصفها بالقول و الكتابة.
ص 279
أيها الولد: بعض مسائلك من هذا القبيل، و أما البعض الذي يستقيم له الجواب فقد ذكرناه في إحياء العلوم و غيره. و تذكر ههنا نبدأ منه و نشير إليه فنقول: قد وجب على السالك أربعة أمور:
الأمر الأول: اعتقاد صحيح لا يكون فيه بدعة.
و الثاني: توبة نصوح لا يرجع بعدها إلى الزلة.
و الثالث: استرضاه الخصوم حتى لا يبقى لأحد عليك حقّ.
الرابع: تحصيل علم الشريعة قدر ما تؤدي به أوامر الله تعالى. ثم من العلوم الآخرة ما يكون به النجاة.
حكي أن الشبلي رحمة الله خدم أربعمائة أستاذ، و قال: قرأت أربعة آلاف حديث، ثم اخترت منها حديثاً واحداً و عملت به و خليت ما سواه لأني تأملته فوجدت خلاصي و نجاتي فيه. و كأن علم الأولين و الآخرين كله مندرجاً فيه فاكتفيت به، و ذلك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لبعض أصحابه: ” أعمل لدنياك بقدر مقامك فيها، و اعمل لآخرتك بقدر بقائك فيها، و اعمل لله بقدر حاجتك إليه، و اعمل للنار بقدر صبرك عليها”.
أيها الولد: إذا علمت هذا الحديث لا حاجة إلى العلم الكثير، و تأمل في حكاية أخرى: و ذلك أن حاتماً الأصم كان من أصحاب الشقيق البلخي رحمة الله تعالى عليهما، فسأله يوماً قال: صاحبتني منذ ثلاثين سنة ما حصلت فيها؟ قال: حصلت ثماني فوائد من العلم و هي تكفيني منه لأني أرجو خلاصي و نجاتي فيها، فقال شقيق: ماهي! قال حاتم الأصم:
الفائدة الأولى: إني نظرت إلى الخلق فرأيت لكل منهم محبوباً و معشوقاً يحبه و يعشقه و بعض ذلك المحبوب يصاحبه إلى مرض الموت و بعضه إلى شفير القبر، ثم يرجع كله و يتركه فريداً وحيداً و لا يدخل معه في قبره منهم أحد، فتفكرت و قلت: أفضل محبوب المرء ما يدخل معه في قبره و يؤانسه فيه فما وجدت غير الأعمال الصالحة فأخذتها محبوباً لي لتكون سراجاً لي في قبري، و تؤانسني فيه و لا تتركني فريداً.
الفائدة الثانية: إني رأيت الخلق يقتدون بأهوائهم و يبادرون إلى مرادات أنفسهم فتأملت قوله تعالى: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) [النازعات: 40،41] و تيقنت أن القرآن حق صادق فبادرت إلى خلاف نفسي و تشمرت بمجاهدتها و ما متعتها بهواها حتى رضيت بطاعة الله سبحانه و تعالى و انقادت.
الفائدة الثالثة: إني رأيت كل واحد من الناس يسعى في جمع حطام الدنيا ثم يمسكها قابضاً يده عليه، فتأملت في قوله تعالى: (مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ) [النحل: 96].
ص 280
فبذلت محصولي من الدنيا لوجه الله تعالى , ففرقته بين المساكين ليكون ذخراً لي عند الله تعالى .
الفائدة الرابعة : إني رأيت بعض الخلق ظن شرفه وعزه في كثرة الأقوام والعشائر فاغتر بهم , وزعم آخر أنه في ثروة الأموال وكثرة الأولاد فافتخروا بها , وحسب بعضهم الشرف والعز في غصب الأموال الناس وظلمهم وسفك دمائهم , واعتقدت طائفة أنه في إتلاف المال وإسرافه وتبذيره , وتأملت في قوله تعالى : (( إن أكرمكم عند الله أتقاكم )) الحجرات : 13 . فاخترت التقوى واعتقدت أن القرآن حق صادق وظنهم وحسابهم كلها باطل زائل.
الفائدة الخامسة : إني رأيت الناس يذم بعضهم بعضاً ويغتاب بعضهم بعضاً , فوجدت ذلك من الحسد في المال والجاه والعلم , فتأملت في قوله تعالى : (( نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا )) الزخرف : 32 . فعلمت أن القسمة كانت من الله تعالى في الأزل فما حسدت أحداً ورضيت بقسمة الله تعالى .
الفائدة السادسة : إني رأيت الناي يعادي بعضهم بعضاً لغرض وسبب فتأملت قوله تعالى : (( إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً )) فاطر : 6 . فعلمت أنه لا يجوز عداوة آخر غير الشيطان .
والفائدة السابعة : إني رأيت كل أحد يسعى بجد ويجتهد بمبالغة لطب لطلب القوت والمعاش بحيث يقع به في شبهة وحرام , ويذل نفسه , وينقص قدره , فتأملت في قوله تعالى : (( وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها )) هود : 6 . فعلمت أن رزقي على الله تعالى , وقد ضمنه فاشتغلت بعبادته وقطعت طمعي عمن سواه .
الفائدة الثامنة : إني رأيت كل واحدا معتمداً على شيء مخلوق بعضهم إلى الدينار مثله , فتأملت قوله تعالى : (( ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا )) الطلاق :3 . فتوكلت على الله تعالى فهو حسبي ونعم الوكيل , فقال شقيق : وفقك الله تعالى إني قد نظرت التوراة والإنجيل والزبور والفرقان , فوجدت الكتب الأربعة تدور على هذه الفوائد الثمانية , فمن عمل بها كان عاملاً بهذه الكتب الأربعة .
أيها الولد : قد علمت من هاتين الحكايتين أنك لا تحتاج إلى تكثير العلم , والآن أبين ما يجب على سالك سبيل الحق .
فاعلم أنه ينبغي للسالك شيخ مرشد مربى ليخرج الأخلاق السيئة منه بتربيته ويجعل مكانها خلقاً حسناً . ومعنى التربية يشبه فعل الفلاح الذي يقلع الشوك ويخرج النباتات
ص 281
الأجنبية من بين الزرع ليحسن بناته ويكمل ريعه , ولا بد للسالك من شيخ يؤديه ويرشده إلى سبيل الله تعالى , لأنه الله أرسل للعباد رسولاً للإرشاد إلى سبيله , فإذا ارتحل صلى الله عليه وسلم فقد خلف الخلفاء في مكانه حتى يرشدوا إلى الله تعالى , وشرط الشيخ الذي يصلح أن يكون نائباً لرسول الله صلوات الله وسلامه عليه أن يكون عالماً , ولكن لا كل عالم يصلح للخلافة , وإني أبين لك بعض علامته على سبيل الإجمال حتى لا يدعى كل أحد أنه مرشد .
فنقول : من يعرض عن حب الدنيا وحب الجاه , وكان قد تابع لشخص بصير يتسلسل متابعته إلى سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم وكان محسناً رياضة نفسه من قلة الأكل والقول والنوم , وكثرة الصلوات والصدقة والصوم , وكان بمتابعته الشيخ البصير جاعلاً محاسن الأخلاق له سيرة كالصبر والصلاة والشكر والتوكل واليقين والقناعة وطمأنينة النفس والحلم والتواضع العلم والصدق والحياء والوفاء والوقار ولسكون والتأني وأمثالها , فهو إذاً نور من أنوار النبي صلى الله عليه وسلم يصلح الاقتداء به , ولكن وجود مثله نادر أعز من الكبريت الأحمر , ومن ساعدته السعادة فوجد شيخاً كما ذكرنا وقبله الشيخ ينبغي أن يحترمه ظاهراً وباطناً . أما احترام الظاهر فهو أن لا يجادله ولا يشتغل بالاحتجاج معه في كل مسألة وإن علم خطأه , ولا يلقى بين يديه سجادته إلا وقت أداء الصلاة فإذا فرغ يرفعها , ولا يكثر نوافل الصلاة بحضرته , ويعمل ما يأمره الشيخ من العمل بقدر وسعه وطاقته . وأما احترام الباطن فهو أن كل ما يسمع ويقبل منه في الظاهر لا ينكره في الباطن لا فعلاً ولا قولاً لئلا يتسم بالنفاق , وإن لم يستطع يترك صحبته إلى أن يوافق باطنه وظاهره , ويحترز عن مجالسة صاحب السوء ليقصر ولا ية شياطين الجن والإنس من صحن قلبه فيصفى عن لوث الشيطنة , وعلى كل حال يختار الفقر على الغنى . ثم اعلم , أن التصوف له خصلتان : الاستقامة والسكون عن الخلق , فمن استقام وأحسن خلقه بالناس وعاملهم بالحلم فهو صوفي . والاستقامة أن يفدي حظ نفسه لنقسه , وحسن الخلق مع الناس أن لا تحمل الناس على مراد نفسك بل تحمل نفسك على مرادهم ما لم يخالفوا الشرع , ثم إنك سألتني عن العبودية , وهي ثلاثة أشياء أحدها : محافظة أمر الشرع , وثانيها : الرضاء بالقضاء والقدر وقسمة الله تعالى , وثالثها : ترك رضاء نفسك في طلب رضاء الله تعالى , وسألتني عن التوكل هو أن تستحكم اعتقادك بالله تعالى فيما وعد يعني تعتقد أن ما قدر لك سيصل إليك لا محالة وإن اجتهد كل من في العالم على صرفه عنك , وما لم يكتب لن يصل إليك وإن ساعدك جميع العالم . وسألتني عن الإخلاص , وهو أن تكون أعمالك كلها لله تعالى ولا يرتاح قلبك بمحامد الناس ولا تبالي بمذمتهم . واعلم , أن الرياء من تعظيم
ص 282
الخلق , وعلاجه أن تراهم مسخرين تحت القدرة وتحسبهم كالجمادات في عدم قدرة إيصال الراحة والمشقة لتخلص من مراءاتهم , ومتى تحسبهم ذوي قدرة وإرادة لن يبعد عنك الرياء .
أيها الولد : والباقي من مسائلك بعضها مسطور في مصنفاتي فاطلبه منه وكتابة بعضها حرام , اعمل أنت بما تعمل ليكشف لك مالك تعلم .
أيها الولد : بعد اليوم لا تسألني ما أشكل عليك إلا بلسان الجنان قوله تعالى : (( ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيراً لهم )) الحجرات : 5 . واقبل نصيحة الخضر عليه السلام حين قال : (( فلا تسألني عن شيء حتى احدث لك منه ذكرا )) الكهف:7 . ولا تستعجل حتى تبلغ أو انه يكشف لك وتراه : (( سأريكم آياتي فلا تستعجلون )) الأنبياء : 37 . فلا تسألني قبل الوقت : وتيقن أنك لا تصل إلا بالسير لقوله تعالى : (( أو لم يسيروا في الأرض فينظروا )) الروم : 9 , غافر: 21 .
أيها الولد : بالله إن تسر تر العجائب في كل منزل , وابذل روحك فإن رأس هذا الأمر بذل الروح كما قال ذو النون المصري رحمه الله تعالى لأحد من تلامذته : عن قدرت على بذل الروح فتعال وإلا فلا تشتغل بترهات الصوفية .
أيها الولد : إني أنصحك بثمانية أشياء اقبلها مني لئلا يكون علمك خصماً عليك يوم القيامة , تعمل منها أربعة , وتدع منها أربعة أما اللواتي تدع :
أحدها : أن لا تناظر أحداً في مسألة ما استطعت لأن فيها آيات كثيرة فإثمها أكبر من نفعها , إذ هي منبع كل خلق ذميم كالرياء والحسد والكبر والحقد والعداوة والمباهاة وغيرها , نعم لو وقع مسألة بينك وبين شخص أو قوم كانت إرادتك فيها أن تظهر الحق ولا يضيع جاز البحث لكن لتلك الإرادة علامتان : إحداهما : أن لا تفرق بين أن ينكشف الحق على لسانك أو على غيرك , والثانية : أن يكون البحث في الخلاء أحب إليك من أن يكون في الملأ , واسمع إني أذكر لك ههنا فائدة . واعلم أن السؤال عن المشكلات عرض مرض القلب إلى الطبيب والجواب له سعى لإصلاح مرضه . واعلم : أن الجاهلين المرضى قلوبهم والعلماء الأطباء والعالم الناقص لا يحسن المعالجة والعالم الكامل لا يعالج كل مريض بل يعالج من يرجو فيه قبول المعالجة والصلاح . وإذا كانت العلة مزمنة أو عقيما لا تقبل العلاج فحذاقة الطبيب فيه أن يقول هذا لا يقبل العلاج فلا تشتغل فيه بمداواته لأن فيه تضييع العمر , ثم اعلم , أن مرض الجعل على أربعة أنواع :
أحدها : يقبل العلاج والباقي لا يقبل أما الذي لا يقبل ( أحدها ) من كان سؤاله واعتراضه عن حسده وبغضه فكلما تجيبه بأحسن وأفصحه وأوضحه فلا يزيد له ذلك إلا بغضاً وعداوة وحسداً , فالطريق أن لا تشغل بجوابه فقد قيل:
ص 283
كل العداوة قد ترجى إزالتها
إلا عداوة من عاداك عن حسد
فينبغي أن تعرض عنه وتتركه مع مرضه , قال الله تعالى : (( فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا )) النجم: 29 . والحسود بكل ما يقول ويفعل أوقد نار في زرع علمه , الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب .
والثاني : أن تكون علته من الحماقة وهو أيضاً لا يقبل العلاج , كما قال عيسى عليه السلام : إني ما عجزت عن إحياء الموتى وقد عجزت عن معالجة الأحمق , وذلك رجل يشتغل بطلب العلم زمناً فليلاً ويتعلم شيئاً من العلم العقلي والشرعي فيسأل ويعترض من حماقته على العالم الكبير الذي مضى عمره في العلوم العقلية والشرعية , وهذا الأحمق لم يعلم ويظن أن ما أشكل عليه هو أيضاً مشكل للعالم الكبير , فإذا لم يعلم هذا القدر يكون سؤاله من الحماقة , فينبغي أن لا يشتغل بجوابه .
والثالث : أن يكون مسترشداً وكل ما لا يفهم من كلام الأكابر يحمل على قصور فهمه وكان سؤاله للاستفادة لكن يكون بليداً لا يدرك الحقائق فلا ينبغي الاشتغال بجوابه أيضاً , كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( نحن معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم )) . وأما المرض الذي يقبل العلاج فهو أن يكون مسترشداً عاقلاً فهماً لا يكون مغلوب الحسد والغضب وحب الشهوة والجاه والمال , ويكون طالب الطريق المستقيم ولم يكن سؤاله واعتراضه عن حسد وتعنت وامتحان , وهذا يقبل العلاج فيجوز أن تشتغل بجواب سؤاله بل يجب عليك إجابته .
والرابع : مما تدع وهو أن تحذر أن تكون واعظاً ومذكراً لأن فيه آفة كثيرة إلا أن تعمل بما تقول أولاً , ثم تعظ به الناس فتفكر فيما قيل لعيسى عليه السلام : يا ابن مريم عظ نفسك فإن اتعظت فعظ الناس وإلا فاستحي من ربك . وإن ابتليت بهذا العمل فاحترز عن خصلتين :
الأولى : عن التكلف في الكلام بالعبارات والإشارات والطامات والأبيات والأشعار لأن الله تعالى يبغض المتكلفين , والمتكلف المتجاوز عن الحد يدل على خراب الباطن وغفلة القلب , ومعنى التذكير أن يذكر العبد نار الآخرة وتقصير نفسه في خدمة الخالق , ويتفكر في عمره الماضي الذي أفناه فيما لا يعنيه , ويتفكر فيما بين يديه من العقبات من عدم الإيمان في الخاتمة وكيفية حاله في قبض ملك الموت , وهل يقدر على جواب منكر ونكير , ويهتم بحاله في القيامة وموابقها , وهل يعبر عن الصراط سالماً أم يقع في الهاوية , ويستمر ذكر هذه الأشياء في قلبه فيزعجه عن قراره , فغليان هذه النيران وتوجه هذه المصائب يسمى
ص 284
تذكيراً وإعلامهم الخلق وإطلاعهم على هذه الأشياء وتنبيههم على تقصيرهم و تفطيرهم وتبصيرهم بعيوب أنفسهم التمس حرارة هذه النيران أهل المجلس وتجزعهم تلك المصائب ليتداركوا العمر الماضي بقدر الطاقة , وينحسروا على الأيام الخالية في غير طاعة الله تعالى , هذه الجملة على هذا الطريق يسمى وعظاً كما لو رأيت أن السيل قد هجم على دار أحد وكان هو وأهله فيها فتقول : الحذر الحذر , فروا من السيل وهل يشتهي قلبك في هذه الحالة أن تخبر صاحب الدار خبرك بتكليف العبارات والنكت والإشارات فلا تشتهي البتة فكذلك حال الواعظ فينبغي أن يجتنبها .
والخصلة الثانية : أن لا تكون همتك في وعظك أن ينفر الخلق في مجلسك ويظهروا الوجد ويشقوا الثياب ليقال نعم المجلس هذا , لأن كله ميل للدنيا وهو يتولد من الغفلة , بل ينبغي أن يكون عزمك وهمتك أن تدعو الناس من الدنيا إلى الآخرة , ومن المعصية إلى الطاعة ومن الحرص إلى الزهد , ومن البخل إلى السخاء , ومن الغرور إلى التقوى وتحبب إليهم الآخرة وتبغض إليهم الدنيا , وتعلمهم علم العبادة والزهد لأن الغالب في طباعهم الزيغ عن منهج الشرع والسعي فيما لا يرضي الله تعالى به , والاستشعار بالأخلاق الردية فالق في قلوبهم الرعب وروعهم وحذرهم عما يستقبلون من المخاوف , ولعل صفات باطنهم تتغير ومعاملة ظاهرهم تتبدل , وينظروا الحرص والرغبة في الطاعة , والرجوع عن المعصية , وهذا طريق الوعظ والنصيحة , وكل وعظ لا يكون هكذا فهو وبال على من قال ويسمع , بل قيل إنه غول وشيطان يذهب بالخلق عن طريق ويهلكهم . فيجب عليهم أن يفروا منه لأن مايفيد هذا القائل من دينهم لا يستطيع يمله الشيطان , ومن كانت له يد وقدوة يجب عليه أن ينزله عن منابر المواعظ ويمنعه عما باشر , فإنه من جملة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
والثالث : مما تدع لا تخالط الأمراء والسلاطين , ولا تراهم لأن رؤيتهم ومجالسهم ومخالطتهم آفة عظيمة , ولو ابتليت بها دع عنك مدحهم وثناءهم لأن الله تعالى يغضب إذا مدح الفاسق والظالم , ومن دعا بطول بقائهم فقد أحب أن يعصي الله في أرضه .
والرابع : مما تدع أن لا تقبل شيئاً من عطاء الأمراء وهداياهم وإن علمت أنها من الحلال لأن الطمع منهم يفسد الدين لأنه يتولد منه المداهنة ومراعاة جانبهم والموافقة في ظلمهم , وهكذا كله فساد في الدين وأقل مضرته أنك إذا قبلت عطاياهم وانتفعت من دنياهم أحببته ومن أحب أحداً يحب طول عمره وبقائه بالضرورة , وفي محبة بقاء الظالم إرادة في الظلم على عباد الله تعالى وإرادة خراب العالم , فأي شيء يكون أضر من هذا الدين والعاقبة , وإياك وإياك أن يخدعك استهواء الشياطين أو قال بعض الناس لك بأن الأفضل
ص 285
والأولى أن تأخذ الدينار والدرهم منهم وتفرقها بين الفقراء والمساكين , فإنهم ينفقون في الفسق والمعصية , وإنفاقك على ضعفاء الناس خير من إنفاقهم , فإن اللعين قد قطع أعناق كثيرة من الناس بهذه الوسوسة . وقد ذكرناه في إحياء العلوم فاطلبه ثمة .
وأما الأربعة التي ينبغي لك أن تفعلها :
الأول : أن تجعل معاملتك مع الله تعالى بحيث لو عامل معك بها عبدك ترضى بها منه ولا يضيق خاطرك عليه ولا تغضب , والذي لا ترضى لنفسك من عبدك المجازي فلا ترضى أيضاً لله تعالى وهو سيدك الحقيقي .
الثاني: كلما عملت الناس اجعله كما ترضى لنفسك منهم لأنه لا يكمل إيمان عبد حتى يحب لسائر الناس ما يحب لنفسه .
والثالث : إذا قرأت العلم أو طالعته ينبغي أن يكون علمك يصلح قلبك ويزكي نفسك , كما لو علمت أن عمرك ما يبقى غير أسبوع , فبالضرورة لا تشتغل فيها بعلم الفقه والأخلاق والأصول والكلام وأمثالها لأنك تعلم أن هذه العلوم لا تغنيك , بل تشتغل بمراقبة القلب ومعرفة صفات النفس , والإعراض عن علائق الدنيا , وتزكي نفسك عن الأخلاق الذميمة وتشتغل بمحبة الله تعالى وعبادته , والاتصاف بالأوصاف الحسنة . ولا يمر على عبد يوم وليلة إلا ويمكن أن يكون موته فيه .
أيها الولد : اسمع مني كلاماً آخر وتفكر فيه حتى تجد خلاصاً لو أنك أخبرت أن السلطان بعد أسبوع يختارك وزيراً . اعلم أنك في تلك المدة لا تشتغل إلا بإصلاح ما علمت أن نظر السلطان سيقع عليه من الثياب والبدن والدار والفراش وغيرها , والآن تفكر إلى ما أشرت به فإنك فهم والكلام الفرد يكفي , أليس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أعمالكم , ولكن ينظر إلى قلوبكم ونياتكم )) . وإن أردت علم أحوال القلب فانظر إلى الإحياء وغيره من مصنفاتي . وهذا العلم فرض عين وغيره فرض كفاية إلا مقدار ما يؤدي به فرائض الله تعالى وهو يوفقك حتى تحصله .
والرابع : أن لا تجمع من الدنيا أكثر من كفاية السنة , كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعد ذلك لبعض حجراته , وقال : (( اللهم اجعل قوت آل محمد كفافاً )) . ولم يكن يعد ذلك لكل حجراته بل كان يعده لمن علم أن في قلبها ضعفاً , وأما من كانت صاحبة يقين ما كان يعد لها أكثر من قوت يوم ونصف .
أيها الولد : إني كتبت في هذا الفصل ملتمساتك فينبغي لك أن تعمل بها ولا تنساني فيه من أن تذكرني في صالح دعائك , وأما الدعاء الذي سألت منى فاطلبه من دعوات الصحاح واقرأ هذا الدعاء في أوقاتك خصوصاً أعقاب صلواتك , اللهم إني أسألك من
ص 286
النعمة تمامها , ومن العصمة دوامها , ومن الرحمة شمولها , ومن العافية حصولها , ومن العيش أرغده , ومن العمر أسعده , ومن الإحسان أثمه , ومن الإنعام أعمه , ومن الفضل أعذبه , ومن اللطف أقربه , اللهم كن لنا ولا تكن علينا , اللهم أختم بالسعادة آجالنا , وحقق بالزيادة آمالنا , واقرن بالعافية غدونا وآصالنا , واجعل إلى رحمتك مصيرنا ومآلنا , واصبب سجال عفوك على ذنوبنا , ومنَ علينا بإصلاح عيوبنا , واجعل التقوى زادنا , وفي دينك اجتهادنا , وعليك توكلنا واعتمادنا , اللهم ثبتنا على نهج الاستقامة , وأعذنا في الدنيا من موجبات الندامة يوم القيامة , وخفف عنا ثقل الأوزار , وارزقنا عيشة الأبرار , واكفنا واصرف عنا شر الأشرار , واعتق رقابنا ورقاب آبائنا وأمهاتنا وإخواننا وأخواتنا من النار برحمتك يا عزيز يا غفار يا كريم يا ستار يا عليم يا جبار يا الله يا الله يا الله برحمتك يا أرحم الراحمين , ويا أول الأولين , ويا آخر الآخرين ويا ذا القوة المتين , ويا راحم المساكين , ويا أرحم الراحمين , لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين , وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين .