الأجوبة الغزالية

Spread the love

بسم الله الرحمن الرحيم

الأجوبة الغزالية في المسائل الأخروية

المضنون الصغير

 

سئل الشيخ الإمام الأجل الزاهد السيد حجة الإسلام زين الدين مقتدى الأمة قدوة الفريقين أبو حامد محمد بن محمد الغزالي قدس الله روحه ونور ضريحه عن معنى قوله تعالى : ” فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي “.

 ما التسوية وما النفخ وما الروح؟

فقال : التسوية فعل في المحل القابل للروح , وهو الطين في حق آدم صلى الله عليه وسلم , والنطفة في حق أولاده بالتصفية وتعديل المزاج , فإنه كما لايقبل النار يابس محض كالتراب والحجر ولا رطب محض كالماء , بل لا تتعلق النار إلا بمركب من يابس ورطب ولا كل مركب , فإن الطين مركب ولاتشتعل فيه النار , بل لابد بعد تركيب الطين الكثيف من تردد في أطوار الخلقه حتى يصير نباتا لطيفا , فثبت فيه النار وتشتعل فيه , وكذلك الطين بعد أن ينشئه الله خلقا بعد خلق في أطوار متعاقبة يصير نباتا , فيأكله الآدمي فيصير دما فتنتزع القوة المركبة في كل حيوان صفوة الدم الذي هو أقرب إلى الاعتدال , فيصير نطفة فيقبلها الرحم ويمتزج بها مني المرأة فتزداد عند ذلك اعتدالا , ثم ينضجها الرحم بحرارته فتزداد تناسبا حتى تنتهي في الصفاء .

واستواء نسبة الأجزاء إلى الغاية فتستعد لقبول الروح وإمساكها , كالفتيلة التي تستعد عند شرب الدهن لقبول النار وإمساكها , فالنطفة عند تمام الاستواء والصفاء تستحق باستعدادها روحا يدبرها ويتصرف فيها , فتفيض إليها من جود الجواد الحق الواهب لكل مستحق مايستحقه, ولكل مستعد مايقبله على قدر قبوله واحتماله من غير منع ولابخل فالتسويه عبارة عن هذه الأفعال المرددة لأصل النطفة في الأطوار السالكة بها إلى صفة الاستواء والاعتدال .

فصل

وسئل ما النفخ ؟

فقال : النفخ عبارة عما أشعل نور الروح في فتيلة النطفة وللنفخ صورة ونتيجة أما صورته , فإخراج الهواء من جوف النافخ إلى جوف المنفوخ فيه حتى يشتعل الحطب القابل للنار , فالنفخ سبب الاشتعال , وصورة النفخ الذي هو سبب في حق الله تعالى محال والمسبب غير محال , وقد يكنى بالسبب عن الفعل الذي يحصل المسبب عنه على سبيل المجاز ,  وإن لم يكن الفعل المستعار له على صورة الفعل المستعار منه كقوله تعالى : ” غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم ” (المجادلة 14). “فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ ” (الأعراف 136) . والغضب عبارة عن نوع تغير في الغضبان يتأذى به ونتيجته الهلاك للمغضوب عليه وإيلامه فعبر عن نتيجة الغضب بالغضب , وعن نتيجة الانتقام بالانتقام , وكذلك عبر عما ينتج نتيجة النفخ بالنفخ وإن لم يكن على صورة النفخ .

فقيل له : فما السبب الذي اشتعل به نور الروح في فتيلة النطفة ؟

قال : هو صفة في الفاعل وصفة في المحل القابل . أما صفة الفاعل فالجود الإلهي الذي هو ينبوع للوجود على ماله قبول الوجود فهو فياض بذاته على كل حقيقة أوجدها , ويعبر عن تلك الصفة بالقدرة ومثالها فيضان نور الشمس على كل قابل للاستنارة عند ارتفاع الحجاب بينهما , فالقابل للاستنارة وهي الملونات دون الهواء الذي لا لون له وأما صفة القابل فالاستواء والاعتدال الحاصل بالتسوية , كما قال : سويته , ومثاله صقالة الحديد , فإن المرآة التي ستر الصدأ وجهها لاتقبل الصورة وإن كانت محاذية لوحاتها الصورة واشتعل الثقيل بتصقيلها فكلما حصل الصقال حدثت فيها الصورة المحاذية من ذي الصور المحاذية , فكذلك إذا حصل الاستواء في النطفة حدث فيها الروح من خالق الروح من غير تغير في الخالق, بل إنما حدث الروح الآن لاقبله لتغير المحل بحصول الاستواؤ الآن لا قبله, كما أن الصور فاضت من ذي الصورة على المرآة في حكم الوهم من غير حدث في الصورة, ولكن كان لايحصل من قبل لا لأن الصورة ليست مهيأة لأن تطبع في المرآة,لكن لأن المرآة لم تكن صقلية قابلة للصور.

فقيل له: فما الفيض؟

قال: لاينبغي أن تفهم من الفيض هنا ماتفهم من فيضان الماء من الإناء على اليد, فإن ذلك عبارة عن انفصال جزء من الماء عن الإناء واتصاله باليد, بل افهم منه ماتفهمه من فيضان نور الشمس على الحائط, ولقد غلط قوم في نور الشمس أيضا, فظنوا أنه ينفصل شعاع من جرم الشمس ويتصل بالحائطوينبسط عليه وهو خطأ, بل نور الشمس سبب لحدوث شيء يناسبه في النوربة وإن كان أضعف منه في الحائط المتلون كفيضان الصور على المرآة من ذي الصورة, فإنه ليس بمعنى انفصال جزء من صورة الإنسان واتصاله بالمرآة  بل على معنى أن صورة الإنسان مثلا سبب لحدوث صورة تماثلها في المرآة المقابلة وليس فيهما اتصال وانفصال إلا السببية المجردة وكذلك الوجود الإلهي سبب لحدوث نور الوجود في كل ماهية قابلة وجود فيعبر عنه بالفيض.

فصل

قيل له:قد ذكرت التسوية والنفخ, فما الروح وماحقيقته, وهل هو حالٌّ في البدن حلول الماء في الإناء, أو حلول العرض في الجوهر, أم هو جوهر, قائم بنفسه؟ فإن كان جوهرا قائما بنفسه فمتحيز هو أم غير متحيز؟وإن كان متحيزا فما مكانه أهو القلب أو الدماغ أو موضع آخر؟ وإن لم يكن متحيزا فكيف يكون جوهرا غير متحيز؟ فقال:هذا سؤال عن سر الروح الذي لم يؤذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم في كشفه لمن ليس أهلا له,فإن كنت من أهله فاسمع واعلم أن الروح ليس بجسم يحل البدن حلول الماء في إناء, ولاهو عرض يحل القلب والدماغ حلول السواد في الأسود, والعلم في العالم, بل هو جوهر وليس بعرض لأنه يعرف نفسه وخالقه ويدرك المعقولات, وهذه علوم والعلوم أعارض ولو كان موضوعا والعلم قائم به, لكان قيام العرض بالعرض, وهذا خلاف

ص384

المعقول ولأن العرض الواحد لايفيد إلا واحدا فما قام به والروح يفيد حكمين متغايرين, فإنه حين ما يعرف خالقه يعرف نفسه, فدل على أن الروح ليس بعرض والعرض لايتصف بهذه الصفات ولاهو جسم, لأن الجسم قابل للقسمة والروح لاينقسم, لأنه لو انقسم لجاز أن يقوم بجزء منه علم بالشيء الواحد وبالجزء الآخر منه جهل بذلك الشيء الواحد بعينه فيكون في حالة واحدة عاملا بالشيء جاهلا به فيتناقص لأنه في محل واحد وإلا فالسواد والبياض في جزأين من العين متناقض, والعلم والجهل بشيء واحد في شخص واحد محال وفي  شخصين غير محال, فدل على أنه واحد وهو باتفاق العقلاء جزء لايتجزأ أي شيء لاينقسم إذ لفظ جزء لائق به, لأن الجزء إضافة إلى الكل ولا كل هنا. فلا جزء إلا أن يراد به مايريد القائل بقوله الواحد جزء من العشرة, فإنك إذا أخذت جميع الأجزاء التي بها قوام العشرة في كونها عشرة كان الواحد من جملتها وكذلك إذا أخذت جميع الموجودات أو جميع مابه قوام الإنسان في كونه إنسانا كان الروح واحدا من جملتها, فإذا فهمت أنه شيء لاينقسم فلا يخلو إما أن يكون متحيزا أو غير متحيز, وباطل أن يكون متحيزا إذ كل متحيز منقسم, الجزء الذي لايتجزأ باطل أن يكون منقسما بأدلة هندسية وعقلية أقربها أنه لو فرض جوهر بين جوهرين لكان كل واحد من الطرفين يلقى من الوسط غير مايلقى الآخر, فيجوز أن يقوم بالوجه الذي يلقاه هذا الطرف علم وبالوجه الآخر جهل, فيكون عالما جاهلا في حالة واحدة بشيء واحد, وكيف لا ولو فرض بسيط مسطح من أجزاء لاتتجزأ لكان الوجه الذي يحاذينا ونراه غير الوجه الآخر الذي لانراه, فإن الواحد لايكون مرئيا وغير مرئي في حالة واحدة, ولكانت الشمس إذا حاذت أحد وجهيه استنار بها ذلك الوجه دون الوجه الآخر, فإذا ثبت أنه لاينقسم وأنه لا يتجزأ ثبت أنه قائم بنفسه وغير متحيز أصلا.

فصل

فقيل له: وماحقيقة, وماصفة هذا الجوهر, وماوجه تعلقه بالبدن؟ أهو داخل فيه أو خارج عنه أو متصل به أو منفصل عنه؟ قال رضي الله عنه: لاهو داخل ولاهو خارج ولاهو منفصل ولامتصل, لأن مصحح الاتصاف بالاتصال والانفصال الجسمية والتحيز قد انتفيا عنه فانفك عن الضدين,كما أن الجماد لاهو عالم ولاهو جاهل لأن مصحح العلم والجهل الحياة, فإذا انتفت انتفى الضدان. فقيل له: هل هو في جهة؟ فقال له: هو منزه عن الحلول في المحال والاتصال بالأجسام والاختصاص بالجهات,

ص385

فإن كل ذلك صفات الأجسام وأعراضها والروح ليس بجسم ولا عرض في جسم, بل هو مقدس عن هذه العوارض. فقيل له: لم منع الرسول صلى الله عليه وسلم عن إفشاء هذا السر وكشف حقيقة الروح بقوله تعالى:” قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي “(الإسراء:85). فقال: لأن الأفهام لاتحتمله لأن الناس قسمان عوام وخواص. أما من غلب على طبعه العامية فهذا لايقبله ولايصدقه في صفات الله تعالى فكيف يصدقه في حق الروح لإنسانية, ولهذا أنكرت الكرامية والحنبلية ومن كانت العامية أغلب عليه ذلك وجعلوا الإله جسما إذ لم يعلقوا موجودا إلا جسما مشارا إليه, ومن ترقى عن العامية قليلا نفى الجسمية وما أطاق أن ينفى عوارض الجسمية فأثبت الجهة وقد ترقى عن هذه العامية الأشعرية  والمعتزلة, فأثبتوا موجودا لافي جهة.فقيل له: ولم لايجوز كشف هذا السر مع هؤلاء؟ فقال: لأنهم أحالوا أن تكون هذه الصفات لغير الله تعالى, فإذا ذكرت هذا لبعضهم كفروك وقالوا إنك تصف نفسك بما هو صفة الإله على الخصوص, فكأنك تدعى الإلهية لنفسك. فقيل له: فلم أحالوا أن تكون هذه الصفة لله ولغير الله تعالى أيضا؟ فقال : لأنهم قالوا كما يستحيل في ذوات المكان أن يجتمع اثنان في مكان واحد يستحيل أيضا أن يجتمع اثنان لا في مكان, لأنه إنما استحال اجتماع جسمين في مكان واحد, لأنه لو اجتمعا لم يتميز أحدهما عن الآخر, فكذلك لو وجد اثنان كل واحد منهما ليس في مكان فبما يحصل التمييز والعرفان؟ ولهذا أيضا قالوا: لايجتمع سوادان في محل واحد حتى قيل المثلان يتضادان. فقيل: هذا إشكال قوي فما جوابه؟ قال: جوابه أنهم أخطئوا حيث ظنوا أن التمييز لايحصل بالمكان بل يحصل التميزبثلاثة أمور: أحدهما بالمكان كجسمين في مكانين, والثاني بالزمان كسوادين في جوهر واحد في زمانين, والثالث بالحد والحقيقة كالأعراض المختلفة في محل واحد مثل اللون والطعم والبرودة والرطوبة في جسم واحد, فإن المحل واحد والزمان واحد, ولكن هذه معان مختلفة الذوات بحدودها وحقائقها, فيتميز اللون عن الطعم بذاته لابمكان وزمان ويتميز العلم عن القدرة والإرادة بذاته وإن كان الجميع شيئا واحدا, فإذا تصور أعراض مختلفة الحقائق فبأن يتصور أشياء مختلفة الحقائق بذواتها في غير مكان أولى.

ص386

فصل

فقيل: هنا دليل آخر على إحالة ما ذكرتموه أظهر من طالب التفرقة وهو أن هذا تشبيه وإثبات لأخص وصف الله تعالى في حق الروح.فقال: هيهات, فإن قولنا الإنسان حي عالم قادر سميع بصير متكلم وإنه تعالى كذلك ليس فيه تشبيه لأنه ليس ذلك أخص الوصف , فكذلك البراءة عن المكان والجهة ليس أخص وصف الإله,بل أخص وصفه أنه قيوم أي هو قائم بذاته, وكل ماسواه قائم بذاته, وكل ماسواه قائم به, وأنه موجود بذاته لابغيره فكل ماسواه موجود به لابذاته, بل ليس للأشياء من ذواتها إلا العدم, وإنما لها الوجود من غيرها على سبيل العارية, والوجود لله تعاى ذاتي ليس بمستعار, هذه الحقيقة أعني القيومية ليست إلا لله.فقيل له: ذكرت معنى التسوية والنفخ والروح ولم تذكر معنى النسبة في الروح وأنه لم قال من روحي ولم نسبه إلى نفسه, فإنه كان لأن وجوده به فجميع الأشياء أيضا كذلك وقد نسب البشر إلى الطين فقال:”إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ” (ص:71) ثم قال: “فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي “(ص72) وإن كان معناه جزء من الله تعالى فاض على القلب كما يفيض المال على السائل فيقول: أفضت عليه من مالي فهذه تجزئة لذات الله, وقد أبطلتم هذا وذكرتم أن إفاضته ليست بمعنى انفصال جزء منه.فقال: هذا كقول الشمس لو نطقت وقالت : أفضت على الأرض من نوري,فيكون صدقا ويكون معنى النسبة أن النور الحاصل من جنس نور الشمس بوجه من الوجوه, وإن كان في غاية الضعف بالإضافة إلى نور الشمس, وقد عرفت أن الروح منزه عن الجهة والمكان وفي قوته العلم بجميع الأشياء والاطلاع عليها, وهذه مضاهاة ومناسبة فلذلك خص بالإضافة وهذه المضاهاة ليست للجسمانيات أصلا. فقيل له: مامعنى قوله تعالى:” قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ” (الإسراء:85) ومامعنى عالم الأمر وعالم الحق؟ فقال: كل مايقع عليه مساحة وتقدير وهو عالم الأجسام وعوارضها يقال إنه من عالم الخلق, والخلق هنا بمعنى التقدير لا بمعنى الإيجاد والإحداث يقال: خلق الشيء أي قدره قال الشاعر: ولأنتَ تفرِي ما خلقتَ وبعض     القوم يخلق ثم لايفري

أي تقدر ثم تقطع الأديم وما لا كمية له ولا تقدير, فيقال: إنه أمر رباني وذلك

ص387

للمضاهاة التي ذكرناها وكل ما هو من هذا الجنس من أرواح البشر وأرواح الملائكة يقال إنه من عالم الأمر, فعالم الأمر عبارة عن الموجودات الخارجة عن الحس والخيال والجهة والمكان والتحيز, وهو مالايدخل تحت المساحة والتقدير لانتفاء الكمية عنه. فقيل له: أتتوهم أن الروح ليس مخلوقا وإن كان كذلك فهو قديم؟ فقال: قد توهم هذا جماعة وهو جهل, بل نقول: إن الروح غير مخلوق بمعنى إنه غير مقدر بكمية ولامساحة, فإنه لاينقسم ولايتحيز ونقول أنه مخلوق, لكنه بمعنى أنه حادث وليس بقديم. وبرهان حدوثه طويل ومقدماته كثيرة, ولكن الحق أن الروح البشرية حدثت عند استعداد النطفة للقبول كما حدثت الصور في المرآة بحدوث الصقالة, وإن كانت الصور سابقة الوجود على الصقالة وإيجاد هذا البرهان أنه إن كانت الأرواح موجودة قبل الأبدان لكانت إما كثيرة أو واحد وباطل وحدتها وكثرتها فباطل وجودها, وإنما استحال وحدتها بعد التعلق بالأبدان لعلمنا ضرورة بأن مايعلمه زيد يجوز أن يجهله عمرو ولو كان الجوهر العاقل منهما واحدا لاستحال اجتماع المتضادين فيه, كما يستحيل في زيد وحده, ونعني بالجوهر العاقل الروح ومحال كثرتها لأن الواحد محال أن لا يثنى ولاينقسم إذا كان ذا مقدار كالأجسام, فالجسم ينقسم فإنه ذو مقدار وذو بعض فيتبعض, أما ما ليس له بعض ولا مقدار فكيف ينقسم وأما تقدير كثرتها قبل التعلق بالبدن فمحال لأنها إما أن تكون متماثلة أو مختلفة, وكل ذلك محال, وإنما استحال التماثل لأن وجود المثلين محال في الأصل, ولهذا يستحيل وجود سوادين في محل, وجسمين في مكان واحد  لأن الاثنين يستدعي مغايرة ولا مغايرة هنا وسوادان في محلين جائز لأن هذا يفارق ذلك في المحل إذا اختص بمحل لا يختص به الآخر, وكذلك يجوز محل واحد في زمانين إذ لهذا وصف ليس للآخر وهو الاقتران بهذا الزمان الخاص, فليس في الوجود مثلان مطلقا, بل بالإضافة كقولنا: زيد وعمرو هما مثلان في الإنسانية والجسمية, وسواد الحبر والغراب مثلان في السوادية, ومحال تغايرهم لأن التغاير نوعان: أحدهما باختلاف النوع والماهية كتغاير الماء والنار وتغاير السواد والبياض, والثاني بالعوارض التي لا تدخل في الماهية كتغاير الماء الحار والماء البارد, فإن كان تغاير الأرواح البشرية بالنوع والماهية فمحال لأن الأرواح البشرية متفقة بالحد والحقيقة وهي نوع واحد, وإن كانت متغايرة بالعوارض فمحال أيضا لأن الحقيقة الواحدة إنما يتغاير عوارضها إذا كانت متعلقة بالأجسام منسوبة إليها بنوع ما إذ الاختلاف في أجزاء الجسم ضرورة ولو في القرب من السماء والبعد عنها مثلا, أما إذا لم يكن كذلك كان الاختلاف محالا وهذا ربما يحتاجون في تحقيقه إلى مزيد تقدير لكن هذا القدر ينبه عليه.

ص388

فقيل له: كيف يكون حال الأرواح بعد مفارقة الأجسام ولاتعلق لها بالأجسام فكيف تكثرت وتغيرت؟

فقال: لأنها اكتسبت بعد التعلق بالأبدان أوصافا مختلفة من العلم والجهل والصفاء والكدورة وحسن الأخلاق وقبحها, فبقيت منها متغايرة فعقلت كثرتها بخلاف ما قبل الأجساد فإنه لا سبب لتغايرها.

فصل

فقيل له: مامعنى قوله عليه السلام: ” إن الله تعالى خلق آدم على صورته” وروي “على صورة الرحمن”؟  فقال: الصور اسم مشترك قد يطلق على ترتيب الأشكال ووضع بعضها على بعض واختلاف تركيبها, وهي الصورة المحسوسة, وقد يطلق على ترتيب المعاني التي ليست محسوسة, بل للمعاني ترتيب أيضا وتركيب وتناسب, ويسمى ذلك صورة, فيقال: صورة المسألة كذا وكذا, وصورة الواقعة وصورة المسألة الحسابية والعقلية كذا, والمراد بالتسوية في هذه الصورة هي الصورة المعنوية, والإشارة به إلى المضاهاة التي ذكرناها ويرجعه ذلك إلى الذات والصفات والأفعال, فحقيقة ذات الروح أنه قائم بنفسه ليس بعرض ولابجسم ولاجوهر متحيز ولايحل المكان والجهة ولا و متصل بالبدن والعالم, ولا هو منفصل, ولا هو داخل في أجسام العالم والبدن, ولا هو خارج, وهذا كله في حقيقة ذات الله تعالى, وأما الصفات فقد خلق حيّا عالما قادرا مريدا سميعا بصيرا متكلما, والله تعالى كذلك. وأما الأفعال فمبدأ فعل الآدمي إرادة يظهر أثرها في القلب أولا فيسري منه أثر بواسطة الروح الحيواني الذي هو بخار لطيف في تجويف القلب, فيتصاعد منه أثر بواسطة الروح إلى الأعصاب الخارجة من الدماغ, ومن الأعصاب إلى الأوتار والرباطات المتعلقة بالعضل, فتنجذب الأوتار فيتحرك بها الأصابع, ويتحرك بالأصابع القلم, وبالقلم المداد مثلا, فيحدث منه صورة مايريد كتبه على وجه القرطاس على الوجه المتصور في خزانة التخيل, فإنه لم يتصور في خياله صورة المكتوب أولا لايمكن إحداثه على البياض ثانيا, ومن استقرأ أفعال الله تعالى وكيفية إحداثه النبات والحيوان على الأرض بواسطة تحريك السموات والكواكب, وذلك بطاعة الملائكة له في تحريك السموات علم أن تصرف الآدمي في عالمه أعني بدنه يشبه تصرف الخالق في العالم الأكبر وهو مثله, وانكشف له أن نسبة شكل القلب إلى تصرفه نسبة العرش ونسبة الدماغ نسبة الكرسي والحواس كالملائكة الذين يطيعون الله طبعا ولايستطيعون خلافا, والأعصاب والأعضاء كالسموات, والقدرة

ص389

في الأصابع كالطبيعة المسخرة المركوزة في الأجسام, والقرطاس والقلم والمداد كالغناصر التي هي أمهات المركبات في قبول الجمع والتركيب والتفرقة ومرآة التخيل كاللوح المحفوظ  فمن اطلع بالحقيقة على هذه الموازنة عرف معنى قوله عليه السلام: ” إن الله تعالى خلق آدم على صورته” ومعرفة ترتيب أفعال الله تعالى معرفة غامضة يحتاج فيها إلى تحصيل علوم كثيرة وما ذكرناه إشارة إلى جملة منها. قيل له: فما معنى قوله عليه السلام:”من عرف نفسه فقد عرف ربه”؟ قال: لأن الأشياء تعرف بالأمثلة المناسبة, ولولا المضاهات المذكورة لم يقدر الإنسان على الترقي من معرفة نفسه إلى معرفة الخالق, فلولا أن الله تعالى جمع في الآدمي ماهو مثال جملة العالم حتى كأنه نسخة مختصرة من العوالم, وكأنه رب في عالمه متصرف لما عرف العالم والتصرف والربوبية والعقل والقدرة والعلم وسائر الصفات الإلهية, فصارت النفس بمضاهاتها وموازناتها مرقاة إلى معرفة خالق النفس, وفي استكمال المعرفة بالمسألة التي قبل هذه ما ينكشف الغط    وجه هذه المسألة. فقيل له: إن كانت الأرواح حادثة مع الأجساد فما معنى قوله عليه السلام:”خلق الله الأرواح قبل الأجساد بألفي عام” وقوله عليه السلام:”أنا أول الأنبياء خلقا وآخرهم بعثا” وقوله:”كنت نبيا وآدم بين الماء والطين”؟فقال: ليس في هذا مايدل على قدم الروح, بل يدل على حدوثه, وكونه مخلوقا. نعم ربما دل بظاهره على تقدم وجوده على الجسد وأمر الظواهر هيّن فإن تأويلها ممكن والبرهان القاطع لايدرء بالظواهر بل يسلط على تأويل الظواهر كما في ظواهر التشبيه في حق الله تعالى. أما قوله عليه السلام:”خلق الله الأرواح قبل الأجساد” فلعله أراد بالأرواح الملائكة, وبالأجساد أجساد العالم من العرش والكرسي والكواكب والهواء والأرض والماء, وكما أن أجساد الآدميين بجملتهم صغيرة بالإضافة إلى جرم الأرض وجرم الأرض أصغر من جرم الشمس بكثير, ثم لانسبة لجرم الشمس إلى فلكها ولا لفلكها إلى السموات التي فوقه, ثم كل ذلك اتسع له الكرسي إذ وسع كرسيه السموات والأرض, والكرسي صغير بالإضافة إلى العرش, فإذا تفكرت في جميع ذلك استحقرت أجساد الآدميين ولم تفهمها من مطلق لفظ الأجساد, فكذلك فاعلم وتحقق أن أرواح البشر بالإضافة إلى أرواح الملائكة كأجسادهم بالإضافة إلى أجساد العالم, ولو انفتح لك باب معرفة الأرواح لرأيت الأرواح البشرية بالإضافة إلى أرواح الملائكة كسرج اقتبست من نار عظيم طبق العالم, وتلك النار العظيمة هي أرواح الملائكة ولأرواح الملائكة ترتيب وكل واحد منفرد برتبته, ولايجتمع

ص 390

فى مرتبة واحدة اثنان بخلاف الأرواح البشرية المتكثرة مع اتحاد النوع والرتبة. أما الملائكة, فكل واحد نوع برأسه هو كل ذلك النوع وإليه الإشارة بقوله تعالى : ( وما منا إلا له مقام معلوم [164] وإنا لنحن الصافون) [الصافات: 164, 165]

وبقوله عليه السلام: الراكع منهم لا يسجد والقائم لا يركع, وإنه ما من واحد منهم إلا له مقام معلوم, فلا يفهم إذا من الأرواح والإجساد المطلقة إلا أرواح الملائكة وأجساد العالم.

وأما قوله عليه السلام: “أنا أول الأنبياء خلقا وآخرهم بعثا “, فالخلق هنا هو التقدير دون الإيجاد, فإنه قبل أن ولدته أمه لم يكن مولودا مخلوقا, ولكن الغايات والكمالات سابقة فى التقدير لاحقة فى الوجود, وهو معنى قولهم: أول الفكر آخر العمل. بيانه أن المهندس المقدر للدار أول ما يمثل فى نفسه صورة الدار, فيحصل فى تقديره دار كاملة, وآخر ما يوجد من أثر أعماله هى الدار الكاملة وهى أول الأشياء فى حقه تقديرا وآخرها وجودا, لأن ما قبلها من ضرب اللبن وبناء الحيطان وتركيب الجذوع وسيلة إلى غاية وكمال وهى الدار, ولأجلها تقدمت الآلات والأعمال, فإذا عرفت هذا فاعلم أن المقصود فطرة الآدميين إدراكهم بسعادة القرب من الحضر الإلهية, ولم يكن ذلك إلا بتعريف الأنبياء وكانت النبوة مقصودة بالإيجاد, والمقصود كمالها وغايتها لا أولها, وإنما تكمل بحسب سنة الله تعالى بالتدريج كما تكمل عمارة الدار بالتدريج لتمهيد أصل النبوة بآدم عليه السلام, ولم يزل ينمو ويكمل حتى بلغ الكمال بمحمد عليه السلام, وكان المقصود كمال النبوة وغايتها وتمهيد أوائلها وسيلة إليها كتأسيس البنيان وتمهيد أصول الحيطان, فإمه وسيلة إلى كمال صورة الدار ولهذا السر كان خاتم النبيين فأن الزيادة على الكمال نقصان وكمال شكل الآلة الباطشة كف عله خمس أصابع, فكما أن ذا الأصابع الأربعة ناقص فذو الأصابع الستة ناقص, لأن السادسة زيادة على الكفاية فهو نقصان فى الحقيقة, وإن كانت زيادة فى الصور, وإليه الإشارة بقوله عليه السلام: مثل النبوة كمثل دار معمورة لم يبق فيها إلا موضع لبنة, فكنت أنا موضع تلك اللبنة أو لفظ هذا معناه, فإذا عرفت أن كونه خاتم النبيين ضرورة لا يتصور خلافة إذا بلغ به الغاية والكمال, والغاية أول التقدير, آخر فى الوجود.

وأما قوله عليه السلام: “كنت نبيا وآدم بين الماء والطين”. فهو أيضا إشارة إلى ما ذكرناه, وأنه كان نبيا فى التقدير قبل تمام خلقه آدم عليه السلام, لأنه لم يشأ خلق آدم إلا لينتزع الصافى من ذريته, ولا يستصفى تدريجا إلى أن بلغ كملا الصفاء, فقيل الروح القدسى النبوى المحمدى ولا تفهم هذه الحقيقة إلا بأن تعلم أن للدار, مثلا وجودين وجود

ص 391

فى ذهن المهندس ودماغه حتى كأنه ينظر إلى صورة الدار, ووجودها خارج الذهن فى الأعيان. والوجود الذهنى سبب الوجود الخارجى العينى فهو سابق لا محالة, فكذلك فأعلم أن الله تعالى يقدر أولا ثم يوجد على وفق التقدير ثانيا وإنما التقدير يرسم فى اللوح المحفوظ كما يرسم تقدير المهندس أولا فى اللوح أو فى القرطاس, فتصير الدار موجودة بمكال صورتها نوعا من الوجود, فيكون هو سببا للوجود الحقيقى, كما أن هذه الصورةترسم فى لوح المهندس بواسطة القلم والقلم يجرى على وفق العلم بل العلم مجريه, فكذلك تقدير صورة الأمور الإلهية ترسم أولا فى اللوح المحفوظ, وإنما ينتقش اللوح المحفوظ من القلم والقلم يجرى على وفق العلم, واللوح عبارة عن موجود قابل لنقش الصورة فيها, والقلم عبارة عن وجود منه تفيض الصور على اللوح المنقوش, فإن حد القلم هو الناقش لصور, وليس من شرطهما أن يكون قصبا أو خشبا المعلومات فى اللوح, واللوح هو المنتقش بتلك الصور, بل من شرطهما أن لا يكونا جسمين فالجسمية لا تدخل فى حد القلمية واللوحية هو ما ذكرنا والزائد عليه صورته لا معناه, فلا يبعد أن يكون قلم الله تعالى ولوحه لائقا بأصبعيه ويده, وكل ذلك على ما يليق بذاته وإلهيته فتقدس عن حقيقة الجسمية, بل جملتها جواهر روحانية. عالية بعضها معلم كالقلم, وبعضها متعلم كاللوح, فإن الله تعالى علم بالقلم, فإذا تعلمت نوعية الوجود فقد كان نبيا قبا آدم عليه السلام بمعنى الوجود الأول التقديرى دون الوجود الثانى الحسى العينى, والحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيد المرسلين وآله وصحبه أجمعين آمين.

Related posts

Leave a Comment