لاشك أن الغذاء الأساسي للروح هو ذكر الله عزوجل .. هكذا انتظر اجابة كل من يدخل هنا .. لكن الروح دائما تمل وتحتاج إلى ما يخرجها عن عادتها .. بفسحة مشروعة في هذا الكون .. ولذلك خلق الله عزوجل لها ما يذهب عنها الملل .. فجعل لكل حاسة من حواس الإنسان ما يحركها ويمتعها ويستثيرها ويخرج بها جواهر نفسه .. فالعين تحب الصورة الجميلة ، والأنف يحب الرائحة الطيبة ، وهكذا الحال بالنسبة للأذن .
يقول الإمام الغزالي رحمه الله :
القلوب والسرائر خزائن الأسرار ومعادن الجواهر وقد طويت فيها جواهرها كما طويت النار في الحديد والحجر كما اخفى الماء تحت التراب والمدر ولا سبيل إلى استثارة خفاياها إلا بقوادح السماع ولا منفذ إلى القلوب إلا من دهليز الأسماع .. فالنغمات الموزونة المستلذة تخرج ما فيها وتظهر محاسنها أو مساويها فلا يظهر من القلب عند التحريك إلا ما يحويه .. كما لا يرشح الإناء إلا بما فيه .. فالسماع للقلب محك صادق ومعيار ناطق فلا يصل نفس السماع إليه إلا وقد تحرك فيه ما هو الغالب عليه .
فالإستماع إلى الموسيقى والغناء بالصورة التي لايصاحبها شىء من المحرمات وبغير إسراف .. هو لون من ألوان الغذاء الروحي .. والطقس اليومي الذي نمارسه ولو للحظة .. فالغناء المحترم والموسيقى المحترمة .. غذاء حقيقي لايستغني عنه الإنسان .. فكل الناس تسمع .. حتى الذين يحرمون الغناء يستمعون وينكرون .. فكثير من القصائد والأغاني والأناشيد تثير الكثير من المشاعر الطيبة في النفس .. ولكن بشرط ألا يكثر الإنسان منه حتى لاتفسد ذائقتهم القرآنية .. كما يفسد كثرة الملح الطعام .
ورحم الله الشيخ محمد الغزالي الذي كان يطرب لسماع فيروز .. ويرحم الله الشيخ الشعرواي الذي كان يتسمع الغناء .
ولقد دام الجدل حول قضية الغناء والموسيقى أربعة عشر قرنا من الزمان دون حسم .. وسيظل كذلك إلى أن يشاء الله .
فالغناء والموسيقى هو جزء لايتجزأ من هذا الكون .. نسمعه من الطائر ومن الحيوان ومن الحشرة ومن حركة الرياح والأشجار .. حتى الحيوانات والطيور تتحرك مشاعرها للموسيقى الجميلة .
قال النبي صلى الله عليه وسلم: “ياأنجشة ، رفقاً بالقوارير” وكان يقصد
الصحابيات اللاتي يركبن الجمال ، وكان يقود قافلة الابل رجل جميل الصوت يدعى أنجشة ، كانت الجمال تهتز طرباً لسماع صوته .
فخاف النبي على النساء وقال للرجل ( ياأنجشة رفقاً بالقوارير ) .. ولم يقل إنك ملعون أو فاسق .
فسبحان من خلق الكون على هذه الهيئة الموسيقية الجميلة .. وجعل الأرواح تطرب لها .
واقرأ ما ذكره الإمام الشوكاني في نيل الأوطار عن هذا الموضوع تحت عنوان: باب ما جاء في آلة اللهو فقد أسهب في عرض حججهما وناقشها.. فقال بعد ذكر الأحاديث الواردة في التحريم وشرحها وكلام أهل العلم حولها
قال : وقد اختلف في الغناء مع آلة من آلات الملاهي وبدونها، فذهب الجمهور إلى التحريم مستدلين بما سلف. وذهب أهل المدينة ومن وافقهم من علماء الظاهر وجماعة من الصوفية إلى الترخيص في السماع ولو مع العود واليراع ،
وقد حكى الأستاذ أبو منصور البغدادي الشافعي في مؤلفه في السماع أن عبد الله بن جعفر كان لا يرى بالغناء بأسا ويصوغ الألحان لجواريه ويسمعها منهن على أوتاره، وكان ذلك في زمن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه .
وحكى الأستاذ المذكور مثل ذلك أيضا عن القاضي شريح وسعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح والزهري والشعبي ، وقال إمام الحرمين في النهاية وابن أبي الدم نقل أثبات المؤرخين أن عبد الله بن الزبير كان له جوار عوادات ، وأن ابن عمر دخل عليه والي جنيه عود فقال ما هذا يا صاحب رسول الله فناوله إياه فتأمله ابن عمر فقال هذا ميزان شامي قال ابن الزبير يوزن به العقول .
وروى الحافظ أبو محمد بن حزم في رسالته في السماع سنده إلى ابن سيرين قال : إن رجلا أتى المدينة بجوار فنزل على عبد الله بن عمر وفيهن جارية تضرب فجاء رجل فساومه فلم يهو منهن شيئا ، قال انطلق إلى رجل هو أمثل لك بيعا من هذا قال من هو قال عبد الله بن جعفر فعرضهن عليه فأمر جارية منهن فقال لها خذي العود فأخذته فغنت فبايعه ، ثم جاء إلي ابن عمر إلى آخر القصة .
وأما المانعون من ذلك فاستدلوا بأدلة منها حديث أبي مالك وأبي عامر المذكور في أول الباب وأجاب عنها المجوزون بأجوبة طويلة. لا يتسع المقام لذكرها
ثم عقب الإمام الشوكاني على ذلك بقوله : وإذا تقرر جميع ما حررناه من حجج الفريقين فلا يخفى على الناظر أن محل النزاع إذا خرج عن دائرة الحرام لم يخرج عن دائرة الاشتباه والمؤمنون وقافون عند الشبهات كما صرح به الحديث الصحيح ومن تركها فقد استبرأ لعرضه ودينه ، ومن حال حول الحمى يوشك أن يقع فيه .