القسم الأول
في مجمل العلوم وأصولها
العقائد
- الأصل الأول : في الذات ( ذات الله سبحانه وتعالى ) .
- الأصل الثاني : في التقديس.
- الأصل الثالث : في القدرة.
- الأصل الرابع : في العلم
- الأصل الخامس : في الإرادة.
- الأصل السادس : في السمع والبصر.
- الأصل السابع : في الكلام.
- الأصل الثامن : في الأفعال
- الأصل التاسع: في اليوم الآخر.
- الأصل العاشر : في النبؤة.
القسم الأول
في جمل علوم وأصولها
العقائد
الأصل الأول : في الذات
فنقول : الحمد لله الذي تعرف إلى عباده بكتابه المنزل ، على لسان نبيه المرسل ، بأنه في ذاته واحد لا شريك له . فرد لا يمثل له . صمد لا ضد له . منود لا يد له . وأنه قديم لا أول له . أزلي لا بداية له . مستمر الوجود لا آخر له . أبدي لا نهاية له . قيوم لا انقطاع له . دائم لا انصرام له . لم يزل ولا يزال موصوفا بنعوت الجلال . لا يقضى عليه بالانقضاء والانفصال ، بتصرم الآماد . وانقضاء الآجال . بل هو الأول والأخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم .
الأصل الثاني : في التقديس
وأنه ليس بجسم مصؤر . ولا جوهر محدود مقدر . و أنه لا يماثل الأجسام لا في التقدير ولا في قبول الانقسام . وأنه ليس بجوهر ولا تحله الجواهر ، ولا بعرض ولا تحله الأعراض ، بل لا يمائل موجودة ولا يمائله موجود ، وليس كمثله شيء ولا هو مثل شيء. وأنه لا يحده المقدار ، ولا تحويه الأقطار ولا تحيط به الجهات ، ولا تكتنفه السموات ، وأنه مستو على العرش على الوجه الذي قاله ، وبالمعنى الذي أراده ، استواء منها عن المماسة والاستقرار ، والتمكن و الحلول والانتقال .
لا يحمله العرش ، بل العرش وحمله محمولون بلطف قدرته ، ومقهورون في قبضته ، وهو فوق العرش وفوق كل شيء إلى تخوم الثرى فوقية لا تزيده قربا إلى العرش والسماء ، بل هو رفيع الدرجات على العرش ، كما أنه رفيع الدرجات على الثرى .
- (۱) التقديس: التنزيه
- (۲) الجوهر: ما قام بنفسه وكان له حد و مقدار .
- (۳) العرض: ما يقوم بغيره، كصفات الأشياء، كالألوان وغيرها .
- (4) قال تعالي : ثم استوى على العرش [الفرقان : 59]، والتعبير القرآني بــــــــ (ثم) يشعر أن الاستواء حدث بعد إذ لم يكن فهو من صفات الأفعال كالخلق والرزق ، وليس من صفات الذات القديمة ، فلا مجال لما يتوهمه المشبهة والمجسمة من استواء على العرش الحادث ، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرة .
- (5) في المطبوعة : التحول.
- (6) هذه الفوقية ليست كما يتوهم بعضهم فوقية حسية مكانية، فالله سبحانه منزه عن المكان والزمان ، فكما أنه سبحانه ليس كمثله شىء [الشوری : ۱۱) ، فكذلك كل صفة من صفاته لا تشبه صفات الخلق .
وهو مع ذلك قريب من كل موجود ، وهو أقرب إلى العبيد من حبل الوريد ، وهو على كل شيء شهيد ، إذ لا يماثل قربه قرب الأجسام ، كما لا يماثل ذاته ذات الأجسام . وأنه لا يحل في شيء ، ولا يحل فيه شيء ، تعالی عن أن يحويه مكان ، كما تقدس عن أن يحده زمان ، بل كان قبل أن يخلق الزمان والمكان ، وهو الآن ، علی ما عليه كان . وأنه بائن بصفاته من خلقه ، ليس في ذاته سواه ، ولا في سواه ذاته ، و أنه مقدس عن التغـير، والانتقال ، لا تحله الحوادث ، ولا تعتريه العوارض ، بل لا يزال في بنعوت جلاله منها عن الزوال ، وفي صفات كماله مستغنيا عن زيادة الاستكمال . وأنه في ذاته معلوم الوجود بالعقول ، مرئي الذات بالأبصار ، نعمة منه ولطفا بالأبرار في دار القرار ، وإنماما للنعيم بالنظر إلى وجهه الكريم .
الأصل الثالث : في القدرة
وانه حي قادر جبار قاهر . لا يعتريه قصور ولا عجز ، ولا تأخذه سنة ولا نوم ، ولا يعارضه فناء ولا موت . وأنه ذو الملك والملكوت ، والعزة والجبروت ، له القدرة والسلطان والقهر ، والخلق والأمر ، والسموات مطويات بيمينه ، والخلائق مقهورون في قبضته . وأنه المتفرد بالخلق والاختراع . المتوحد بالإيجاد والإبداع ، خلق الخلق وأعمالهم ، وقدر أرزاقهم وآجالهم ، لا يشذ عن قبضته مقدور ، ولا يعزب عن قدرته تصاريف الأمور ، لا تحصى مقدوراته ولا تتناهی معلوماته .
الأصل الرابع : في العلم
وأنه عالم بجميع المعلومات ، محيط بما يجري من تخوم الأرضين إلى أعلى السموات ، لا يعزب (۲) عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ، بل يعلم دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء ، في الليلة الظلماء، ويدرك حركة الذر في جو الهواء . ويعلم السر وأخفى ، ويطلع على(۳) هواجس الضمائر وحركات الخواطر وخفيات السرائر ، بعلم قديم أزلي ، لم يزل موصوفا به في أزل الآزال ، لا بعلم متجدد حاصل في ذاته بالحلول والانتقال .
- (1) التخوم و الخم: الحد الفاصل بين أرضين، والمعالم يهتدى بها في الطريق .
- (۲) عزب: عزوبة، بعد وخفي
- (۳) على ما في هواجس (کما في مخطوطة مركز جمعة الماجد).
- (4) في المطبوعة : التحول .
الأصل الخامس : في الإرادة
وأنه مريد للكائنات ، مدبر للحادثات ، فلا يجري في الملك والملكوت قليل ولا كثير ، ولا صغير ولا كبير ، خير أو شر، نفع أو ضر ، إيمان او کفر، عرفان أو نگر، فوز أو خسر، زيادة أو نقصان، طاعة أو عصیان ، إلا بقضائه وقدره ، وحكمه ومشيئته . فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن
لا يخرج عن مشيئته لفته ناظر ولا قلته خاطر ، بل هو المبدئ المعيد ، الفعال لما يريد، لا راد لحكمه ، ولا معقب لقضائه ، ولا تهرب لعبد عن معصيته إلا بتوفيقه ورحمته ، ولا قوة له على طاعته إلا بمعونته وإرادته ، لواجتمع الإنس والجن والملائكة والشياطين ، على أن يحركوا في العالم ذرة أو سكنوها دون إرادته ومشيئته عجزوا عن ذلك .
وأن إرادته قائمة بذاته في جملة صفاته . لم يزل كذلك موصوفا بها ، مریدا في أزله لوجود الأشياء في أوقاتها التي قدرها ، فوجدت في أوقاتها كما أراد في ازله ، من غير تقدم ولا تأخر ، بل وقعت على وفق عليه وإرادته ، من غير تبدل ولا تغير .
دبر الأمور بلا ترتيب أفكار وتربص زمان فلذلك لا يشغله شأن عن شان سبحانه و تعالی .
اعلم أن هذا المقام مل الأقدام ، ولقد زلت فيه أقدام الأكثرين، لأن تمام تحقيقه مستمد من تیار بحر عظيم وراء بحر التوحيد ، وهم يطلبونه بالبحث والجدال . ولقد قال رسول الله : اما ضل قوم بعد هدى إلا أوتوا الجدل »(۱) ، ويستدلون بآيات القرآن مؤولين وليسوا من أهل التأويل ، ولو نال كل واحد مقام التأويل ، لما قال لة داعيا لابن عباس رضي عنهما : « اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل»(2). ولما قال يعقوب ليوسف علی نبینا وعليهما السلام في وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحادیث [يوسف : 6].
قال صاحب (الكشاف) في تفسيرها : يعني معاني كتب الله ، وسنن الأنبياء عليهم السلام – وما غمض واشتبه على الناس من أغراضها و مقاصدها فتراها لهم و تشرحها، وتدلهم على مودعات حكمها .
وإنما زلت أقدام الأكثرين في هذا المقام، لأنهم يتبعون الذين يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم. وهؤلاء ليسوا براسخين فيه، بل هم قاصرون عاجزون ، فلقصورهم لم يطيقوا ملاحظة وهذا الأمر . فألجموا عما لم يطيقوا خوض غمراته بلجام المنع مع سائر القاصرين، فقيل لهم اسكتوا ، فما لهذا ځلقتم ( لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون ) [الأنبياء : ۲۳]، عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال : خرج علينا رسول الله * ونحن نتنازع في القدر . فغضب عليه السلام حتى أحمر وجهه الشريف . فقال : «أبهذا أمرتم أم بهذا أرسلث إليكم؟ إنما هلك من كان قبلكم ، حين تنازعوا في هذا الأمر. عزمت عليكم ، في هذا الأمر أن لا تنازعوا فيه (۳) .
وعن أبي جعفر قال : قلت ليونس بن عبيد : مررت بقوم يختصمون القدر ، فقال : لو همتهم ذنوبهم ما اختصموا في القدر ، وامتلا مشكاة بعضهم نورا مقتبسا من نور الله ، وكان زيتهم صافية حتى يكاد يضيء ولو لم
- (1) رواه ابن ماجه والترمذي وقال : حسن صحيح.
- (۲) رواه البخاري، دون قوله: اوعلمه التاويل، وهو بهذه الزيادة عند أحمد وابن ماجه والحاكم وقال صحيح الإسناد
- (۳) رواه الترمذي . وللحديث شواهد من حديث أنس أخرجه ابو یعلی، وحديث عبد الله بن عمرو، أخرجه أحمد في المسند، وابن ماجه
تمسسه نار، فاشتعل نورة على نور، فاشرقت أقطار الملكوت بين أيديهم بنور ربها، فأدركوا الأمور كما هي عليه ، فقيل لهم : تأدبوا بآداب الله واسكتوا ، وإذا ذكر القدر فأمسكوا ، فلذلك أمسك عمر لما سئل عن القدر ، فقال للسائل : بحر عميق لا تلجه . ولما كرر السؤال قال : طريق مظلم لا تسلكه. ولما كرر ثالثة قال : الله قد خفي عليك فلا تفتشه .
ومن أراد معرفة أسرار الملكوت فليلازم بابهم بالمحبة والإخلاص والصدق والإعراض عن أعدائهم ، والامتثال بأوامرهم والسعي فيما يرضيهم وكذلك من أحب معرفة أسرار الربوبية ، فليلازم باب الله عز وجل بالمحبة والإخلاص، والصدق والتعظيم ، والحياء والامتثال بالأوامر، والانتهاء عن المعاصي، والمجاهدة والإقبال بکنه الهمة، والتعرض لنفحاته لقوله : إن لربكم في أيام دهر کم نفحات ، ألا فتعرضوا لها)، والسعي فيما يرضي .وإن لم يطق ذلك، فعليه أن يعتقد في هذا البحث ما عليه أبو حنيفة –
رحمه الله – وأصحابه ، حيث قالوا: إحداث الاستطاعة في العبدة و استعمال الاستطاعة المخدثة فعل العبد حقيقة لا مجازة. والقدرية أنكروا قضاء الله، ورأوا الخير والشر من أنفسهم. أرادوا بذلك تنزيه الله عن الظلم وفعل القبيح، ولكنهم ضلوا إذ نسبوا العجز إلى الله تعالى في ضمن ذلك، ولم يذروا. والجبرية اعتمدوا على القضاء، ورأوا الخير والشر من الله ولم يروا من أنفسهم فعلا، كما لم يروا من الجمادات. أرادوا بذلك تنزيه الله تعالی
- (1) أخرجه الحكيم الترمذي في النوادر، والطبراني في الأوسط عن محمد بن مسلمة ، ورواه ابن أبي الدنيا في كتاب الفرج عن أبي هريرة واختلف في إسناده، وله شاهد ورد بلفظ : افعلوا الخير دهركم وتعرضوا لنفحات رحمة الله ، فإن الله نفحات من رحمته)، وسنده حسن .
عن العجز فضلوا ، إذ نسبوا الظلم إليه تعالى في ضمن ذلك وأضلوا سفهاءهم. فكانوا يعصون الله، وينسبون إلى الله، ويبرئون أنفسهم عن الذم واللوم كالشيطان حيث قال : ( ما أغويتني لأقعد لهم صراط المستقيم ) [الأعراف:۱۹] فالحاصل أن
القدرية أثبتوا الاختيار الكلي للعبد في جميع افعال العباد ، وأنكروا قضاء الله تعالى وقدره بالكلية في الأفعال الاختيارية .
والجبرية نفوا الاختيار بالكلية في أفعال العباد ، واعتمدوا على القضاء والقدر ، فينبغي للباحث معهم أن يضربهم ، ويمزق ثيابهم ،وعمائمهم ، ويخدش وجوههم، وينتف أشعارهم وشواربهم ولحاهم ، ويعتذر بما اعتذر هؤلاء السفهاء في سائر أفعالهم القبيحة الصادرة منهم .
والمعتزلة أضافوا الشر فقط إلى أنفسهم ،وأثبتوا لأنفسهم الاختيار الكلي تحرزا عن نسبة القبح والظلم إلى الله ، ولكن نسبوا إلى الله تعالی العجز في ضمن ذلك ولم يدروا ، فتعالى الله عن ذلك علوا كبيرة.
وأما أهل السنة والجماعة ، فتوسطوا بينهم، فلم ينفوا الاختبار عن أنفسهم بالكلية ، ولم ينفوا القضاء والقدر عن الله تعالى بالكلية ، بل قالوا :
أفعال العباد من الله من وجه ، ومن العبد من وجه . وللعبد اختيار في إيجاد أعماله .
واعلم أن قضاء الله تعالى على أربعة أوجه : قضاء الطاعات ، وقضاءالمعاصي ، وقضاء النعم ، وقضاء الشدائد .
والمذهب المستقيم في ذلك، إذا قضى للعبد الطاعة فعليه أن يستقبله بالجهد والإخلاص حتى يكرمه الله بالتوفيق والهداية ، لقوله تعالى:
و الذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا [العنكبوت: 69] يعني الذين جاهدوا في طاعتنا و في ديننا لنوفقهم لذلك .
وإذا قضى المعصية ، فعليه أن يستقبله بالاستغفار والتوبة والندامة من صميم الفؤاد. لقوله تعالى : ( الله يحب التوابين ويحب المتطهرين) [البقرة: ۲۲۲]۔
وإذا قضى النعمة ، فعليه أن يستقبله بالشكر والسخاء حتى يكرمه بالزيادة لقوله تعالى : ( ولئن شكرتم لأزيدنكم )[إبراهيم: 7]
وإذا قضى الشدة ، فعليه أن يستقبله بالصبر والرضاء حتى يعطيه الكرامة في الدار الآخرة ، لقوله تعالى : ( والله يحب الصابرين [آل عمران :146]. وقال : هو إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب [الزمر: ۱۰).
وذكر الفاضل الإمام مولانا علاء الدين في شرحه للمصابيح :
الفرق بين القضاء والقدر : هو أن القضاء وجود جميع الموجودات في اللوح المحفوظ ، إجمالا لا تفصيلا ، والقدر هو تفصيل قضائه السابق بإيجادها في المواد الخارجية واحدة بعد واحد .
وقيل : القضاء هو الإرادة الأزلية ، والعناية الإلهية المقتضية لنظام الموجودات على ترتيب خاص . والقدر تعلق تلك الإرادة بالأشياء في أوقاتها الخاصة .
ثم إن المسلمين في القدر على اختلاف ، منهم من ذهب إلى أن كل ما يجري في العالم من الخير والشر والأفعال والأقوال بقضاء الله وقدره ، ولا اختیار للعباد فيه ، ويسمى هذا القول جبرية . والجبر هو القهر والإكراه .
فيقولون : أجبر الله عباده على أقوالهم وأفعالهم من غير اختيار منهم فيها ، ويزعمون أن إضافتها إليهم إضافتها إلى الجمادات . في مثل قولنا : دارت
الرحا وجرى الميزاب . وهذا المذهب باطل ، لأنهم إن قالوا هذا القول ليسقطوا عن أنفسهم التكاليف ، وشبهوا أنفسهم بالصبيان والمجانين في عدم جریان الخطاب بهم ، فقد كفروا ، لأن مذهبهم يفضي إلى إبطال الكتب والرسل . وإن قالوا ذلك لتعظيم الله و تحقیر انفسهم وعجزهم عن دفع قضاء الله ، فهم مبتدعون لمخالفتهم الإجماع .
ومنهم من ذهب إلى أن كل ما يصدر عن العباد عقيب قصدهم وإرادتهم يكون واقعا بقدرتهم واختيارهم ، ولا يتعلق بها بخصوصها قدرة الله وإرادته ، ويسمى هؤلاء قدرية لتفيهم القدر لا لإثباتهم . وهذا المذهب أيضا باطل لأنهم إن قالوا هذا القول عن اعتقاد جواز العجز عن التقدير لله تعالى ، فهم كافرون ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرة ،
وإن قالوا عن خطأ اجتهاداتهم وتنزيه الحق عن تقدير أفعالهم القبيحة وخلقها ، فهم مبتدعون لمخالفتهم الإجماع .
ومن هذه الطائفة من يقول : الخير بتقدير الله، والشر ليس بتقديره .
والمذهب الحق هو أن المؤثر مجموع القدرتین : قدرة الله ، وقدرة العباد ، فالأفعال الصادرة عن العباد كلها بقضاء الله وقدره ولكن للعباد اختيار ، فالتقدير من الله و الكسب من العباد ، وهذا المذهب وسط بين الجبر والقدر، وعليه أهل السنة والجماعة . انتهى كلامه .
وذكرنا في كتاب (المقصد الأقصى) : تدبير رب الأرباب ومسبب الأسباب ، أصل وضع الأسباب ، ليتوجه إلى المسببات (محکمه). ونصبه
الأسباب الكلية الأصلية الثابتة المستقرة التي لا تزول ولا تحول کالأرض والسموات السبع والكواكب والأفلاك وحركاتها المتناسبة الدائمة التي لا تتغير ولا تنعدم إلى أن يبلغ الكتاب أجله (قضاؤه) ، كما قال : فقضاهن سبع سنوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها) [فصلت : ۱۲].
وتوجيهه هذه الأسباب – بحركاتها المناسبة المحدودة المقدرة المحسوبة إلى مسببات الحادثة منها لحظة بعد لحظة (قده).
فالحكم : هو التدبير الأول الكلي ، والأمر الأزلي الذي هو كلمح البصر .
والقضاء : هو الوضع الكلي للأسباب الكلية الدائمة .
والقدر: هو توجيه الأسباب الكلية بحركاتها المقدرة المحسوبة إلى مسبباتها المعدودة المحدودة بقدر معلوم لا يزيد ولا ينقص ، ولذلك لا يخرج شيء عن قضائه وقدره .
- (1) مقصود الشيخ يفسره ما ذكره الإمام الغزالي في الأحياء في توضيح معنى قدرة العباد حيث قال بعد الحديث عن انفراد الله سبحانه بخلق أفعال العباد : (الاقتصاد في الاعتقاد هو أنها مقدورة بقدرة الله تعالی اختراعا، وبقدرة العبد على وجه آخر من التعلق يعبر عنه بالاكتساب).
- (۲) بندا، خبژه حكمه .
ولا تفهم ذلك إلا بمثال : ولعلك شاهدت صندوق الساعات التي بها تتعرف أوقات الصلوات وإن لم تشاهده ، فجملة ذلك أنه لا بد فيه من آلة على شكل اسطوانة تحوي مقدار من الماء معلومة ، وآلة أخرى مجوفة موضوعة فيها فوق الماء ، وخيط مشدود أحد طرفيه في هذه الآلة المجوفة ، وطرفه الآخر في أسفل ظرف صغير موضوع فوق الآلة المجوفة، وفيه رة وتحته طاس، بحيث لو سقطت الكرة وقعت في الطاس وسمع طنينها ، ثم تثقب أسفل الآلة الأسطوانية ثقبا بقدر معلوم ينزل الماء منه قليلا قليلا فإذا انخفض الماء انخفضت الآلة المجوفة الموضوعة على وجه الماء، فامتد الخيط المشدود بها فحرك الطرف الذي فيه الكرة تحريكا يقربه من الانتكاس إلى أن ينتكس ، فتتدحرج منه الكرة وتقع في الطاس وتط، وعند انقضاء كل ساعة تقع واحدة ، وإنما يتقدر الفصل بين الوقعتين بتقدير خروج الماء وانخفاضه وذلك بتقدير سعة الثقب الذي يخرج منه الماء ، ويعرف ذلك بطريق الحساب. فيكون نزول الماء بمقدار مقدر معلوم، بسبب تقدير سعة الثقبة بقدر معلوم، ويكون انخفاض أعلى الماء بذلك المقدار و به تقدر ، وانخفاض الآلة المجوفة وانجرار الخيط بها المشدود، وتولد الحركة في الظرف الذي فيه الكرة، وكل ذلك يتقدر بتقدر سببه ، لا يزيد ولا ينقص . ويمكن أن يجعل وقوع الكرة في الطاس سببا لحركة أخرى، وتكون الحركة الأخرى سببة لحركة ثالثة. وهكذا إلى درجات كثيرة، حتى تتولد منها حرکات عجيبة مقدرة بمقادير محدودة. وسببها الأول نزول الماء بمقدار معلوم .
فإذا تصورت هذه الصورة ، فاعلم أن واضعها يحتاج إلى ثلاثة أمور :
أولها : التدبير وهو الحكم بأنه ما الذي ينبغي أن يكون من الآلات والأسباب والحركات حتى يؤدي إلى حصول ما ينبغي أن يحصل ؟ وذلك هوالحكم ). والثاني: إيجاد هذه الآلات التي هي الأصول، وهي الآلة الأسطوانية لتحوي الماء، والآلة المجوفة لتوضع على وجه الماء و الخيط المشدود بها والظرف الذي فيه الكرة والطاس الذي تقع فيه الكرة وذلك هو (القضاء).
الثالث : تضب سبب بوجب حركة مقدرة محسوبة محدودة . وهو ثقب أسفل الآلة ثقبة مقدرة الشعة، ليحدث بنزول الماء منها حركة في الماءتؤدي إلى حركة وجه الماء بنزوله ، ثم إلى حركة الآلة المجوفة الموضوعة على وجه الماء بنزوله ، ثم إلى حركة الخيط، ثم إلى حركة الظرف الذي فيه الكرة، ثم إلى حركة الكرة، ثم إلى الصدمة بالطاس – إذا وقع – ثم إلى الطنين الحاصل منها، ثم إلى تنبيه الحاضرين واستماعهم، ثم إلى حركتهم في الاشتغال بالصلوات والأعمال عند معرفتهم بانقضاء الساعة، وكل ذلك يكون بقذر معلوم و مقدار مقدر، بسبب تقدر جميعها بقذر الحركة الأولى، وهي حركة الماء .
فإذا فهمت أن هذه الآلات أصوك لا بد منها للحركة، وأن الحركة لا بد من تقدرها ليتقدر ما يتولد منها ، فكذلك فافهم حصول الحوادث المقدرة التي لا يتقدم منها شيء ولا يتأخر، إذا جاء أجلها، أي حضر سببها. وكل ذلك بمقدار معلوم ( إن الله بالغ آمره ، قد جعل الله لكل شيء قدرا ) [الطلاق : ۳]
فالسموات والأفلاك والكواكب والأرض والبحر والهواء، وهذه الأجسام العظام في العالم كتلك الآلات ، والسبب المحرك للأفلاك والكواكب والشمس والقمر بحساب معلوم، كتلك الثقبة الموجبة لنزول الماء بقدر معلوم ، وإفضاء حركة الشمس والقمر والكواكب إلى حصول الحوادث في الأرض، كإفضاء حركة الماء إلى حصول تلك الحركات المفضية إلى سقوط الكرة المعرفة لانقضاء الساعة، ومثال تداعي حرکات السماء إلى تغيير الأرض، هو أن الشمس بحركتها إذا بلت إلى المشرق
- (۱) فیما يظهر لنا.
فاستضاء العالم ، وتيسر على الناس الإبصار ، فيتيسر عليهم الانتشار في الاشتغال ، فإذا بلغت المغرب تعذر عليهم ذلك، فيرجعوا إلى المساكن . وإذا قربت من وسط السماء وسامتت رؤوس أهل الأقاليم حمي الهواء واشتد القيظ وحصل نضج الفواكه ، وإذا بدت حصل الشتاء واشتد البرد، وإذا توسطت حصل الاعتدال فظهر الربيع وأنبتت الأرض وظهرت الخضرة.
وقس بهذه المشهورات التي تعرفها الغرائب التي لا تعرفها،
فاختلاف هذه الفصول كلها مقدرة بقدر معلوم، لأنها منوطة بحركات الشمس والقمر، ( الشمس والقمر بحسبان ) [الرحمن: 5]، أي حركتها بحساب معلوم فهذا هو التقدير . ووضع الأسباب الكلية ، هو (القضاء) ، والتدبير الأول الذي هو كلمح البصر ، هو ( الحكم ) . وكما أن حركة الآلة والخيط والكرة ليست خارجة عن مشيئة واضع الآلة ، بل ذلك هو الذي أراده بوضع الآلة ، فكذلك كل ما يحدث في العالم من الحوادث ، شرها وخيرها ، نفعها وضرها ، غير خارج عن مشيئة الله تعالى ، بل ذلك مراد الله تعالى ولأجله دبر اسبابه ، وهو المعني بقوله :
(ولذلك خلقهم) [هود: ۱۱۹] و تفهيم الأمور الإلهية بالأمثلة العرفية عسير. ولكن المقصود من الأمثلة التنبيه ، فدع المثال و تنبه للغرض، واحذر
من التمثيل والتشبيه.
- (۱) سامنت: قابلت وقربت .
- (۲) من قوله : (اعلم ص ۲۲ السطر قبل الأخير وحتى هنا غير موجود في مخطوطة جمعة الماجد)
الأصل السادس: في السمع والبصر
وأنه تعالى سميع بصير، يسمع ويرى، لا يعرب عن سمعه مسموع وإن خفي، ولا يغيب عن رؤيته مرئي وإن دق، ولا يحجب سمعه بعد، ولا يدفع رؤيته ظلام، يرى من غير حدقة ولا أجفان، ويسمع من غير أصمخة (1) ولا آذان ، كما يعلم من غير قلب، ويبطش بغير جارحة، ويخلق
بغير آلة، إذ لا تشبه صفاته صفات الخلق كما لا تشبه ذاته ذات الخلق .
(1) أصمخة : جمع صمخ ، وهو باطن الأذن المفضي إلى الرأس .
الأصل السابع : في الكلام
وأنه متكلم آمر ناه ، واعد متوعد بكلام أزلي قديم ، قائم بذاته ، لا يشبه كلامه كلام الخلق ، كما لا يشبه ذاته ذوات الخلق . فليس بصوت يحدث من انسلال هواء واصطكاك (1) أجرام ، ولا حرف ينقطع بإطباق شفة أو تحريك لسان .
وأن القرآن والتوارة والإنجيل والزبور كتبه المنزلة على رسله ، وأن القرآن مقروء بالألسنة ، مكتوب في المصاحف ، محفوظ في القلوب ، وأنه مع ذلك قديم قائم بذات الله تعالى ، لا يقبل الانفصال والافتراق بالانتقال إلى القلوب والأوراق .
وأن موسى – عليه السلام – سمع كلام الله بغير صوت ولا حرف ، كما يرى الأبرار ذات الله – سبحانه – في الآخرة من غير جوهر ولا شكل ولا لون ولا عَرَضْ . وإذا كانت له هذه الصفات ، كان حياً عالماً قادراً مريداً سميعاً بصيراً متكلماً ، بالحياة والعلم والقدرة والإرادة ، والسمع والبصر والكلام
لا بمجرد الذات (۲) .
***
(1) اصطك الشيئان : صك أحدهما الآخر ، أي دفعه بقوة، أو ضربه (الوسيط).
(۲) وهذا اعتقاد المعتزلة إذ ينفون صفات المعاني العلم، والقدرة والإرادة …)، ويثبتون الصفات المعنوية (كونه سبحانه عليماً، قديراً مريداً . .)، ومذهبهم مردود بالأدلة من القرآن والسنة .
الأصل الثامن: في الأفعال
وأنه لا موجود سواه إلا وهو حادث بفعله ، وفائض من عدله ، على أحسن الوجوه وأكملها ، وأتمها وأعدلها .
وأنه حكيم في أفعاله ، عادل في أقضيته ، لا يقاس عدله بعدل العباد .
إذ العبد يتصور منه الظلم بتصرفه في ملك غيره ولا يتصور الظلم من الله تعالى – سبحانه – فإنه لا يُصادف لغيره ملكاً حتى يكون تصرفه فيه ظلماً .
فكل ما سواه من إنس وجن ، وشيطان وملك ، وسماء وأرض ، وحيوان ونبات ، وجوهر وعَرَضِ ، ومُدرَك ومحسوس ، حادث اخترعه بقدرته بعد العدم اختراعاً وإنشاء ، بعد أن لم يكن شيئاً ، إذ كان في الأزل موجوداً وحده ، ولم يكن معه غيره . فأحدث الخلق إظهاراً لقدرته وتحقيقاً لما سبق من إرادته ولما حق في الأزل من كلمته ، وهي قوله : كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أعرف (١) لا لافتقاره إليه ، ولا لحاجته .
وأنه متفضل بالخلق والاختراع والتكيف، لا عن وجوب ومتطول (۲) بالإنعام والإصلاح لا عن لزوم ، فله الفضل والإحسان والنعمة والامتنان ، إذ كان قادراً على أن يصب على عباده أنواع العذاب ، ويبتليهم بضروب الآلام والأوصاب (۳). ولو فعل ذلك لكان منه عدلاً ولم يكن (٤) منه قبيحاً ولا ظلماً.
وأنه يثيب (5) عباده على الطاعات بحكم الكرم والعدل لا يحكم الاستحقاق واللزوم، إذ لا يجب عليه فعل، ولا يتصور منه ظلم، ولا يجب
لأحد عليه حق .
وإن حقه في الطاعات واجب على الخلق بإيجابه على لسان أنبيائه ، لا بمجرد العقل، ولكنه بعث الرسل وأظهر صدقهم بالمعجزات الظاهرة فبلغوا أمره ونهيه، ووعده ووعيده، فوجب على الخلق تصديقهم فيما
جاؤوا به .
(۱) قال جماعة من الحفاظ ليس بحديث، وقال القاري : معناه صحيح. وهو غير موجود في المخطوطة .
(۲) متطول : متفضل متمنن.
(۳) الأوصاب : جمع وصب وهو المرض الدائم وقد يطلق على التعب .
(٤) في المخطوطة : ولم يكن ذلك في حقه تعالى قبحاً وظلماً.
(5) يجزي ويعطي
الأصل التاسع: في اليوم الآخر
وأنه تعالى يفرق بالموت بين الأرواح والأجسام ، ثم يعيدها إليها عند الحشر والنشور فيبعث من في القبور ويُحصل ما في الصدور فيرى كل مكلف ما عمله من خير أو شر محضراً، ويصادف دقيق ذلك وجليه مسطراً ، في كتاب ، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ، ويُعرفُ كل واحد مقدار عمله ، خيره وشره بمعيار صادق ، يعبر عنه بالميزان وإن كان لا يساوي ميزان الأعمال ميزان الأجسام الثقال ، كما لا يساوي الأسطرلاب (1) الذي هو ميزان المواقيت والمسطرة التي هي ميزان المقادير، والعروض الذي هو ميزان الأشعار ، سائر الموازين.
ثم يحاسبهم على أفعالهم وأقوالهم ، وسرائرهم وضمائرهم ، ونياتهم وعقائدهم ، مما أبدوه أو أخفوه ، فإنهم يتفاوتون فيه إلى مناقش في الحساب ، وإلى مسامح فيه ، وإلى من يدخل الجنة بغير حساب .
وأنهم يساقون إلى الصراط وهو جسر ممدود بين منازل الأشقياء ومنازل السعداء ، أحد من السيف ، وأدق من الشعرة ، يخف عليه من استوى في الدنيا على الصراط المستقيم الذي يوازيه في الخفاء والدقة ، ويتعثر به من عدل عن سواء السبيل المستقيم إلا من عفي عنه بحكم الكرم .
وأنهم عند ذلك يُسألون ، فَيَسْأَلُ الله تعالى (۲) من شاء من الأنبياء عن تبليغ الرسالة ، ومن شاء من الكفار عن تكذيب المرسلين ، ومن شاء من المبتدعة عن السنة ، ومن شاء من المسلمين عن أعمالهم، فيسأل الصادقين عن صدقهم، والمنافقين عن نفاقهم .
ثم يُساق السعداء إلى الرحمن وفداً، والمجرمون إلى جهنم ورداً، ثم يأمر بإخراج الموحدين من النار بعد الانتقام حتى لا يبقى في النار من في قلبه مثقال ذرة من الإيمان، ويخرج بعضهم قبل تمام العقوبة والانتقام بشفاعة الأنبياء والعلماء والشهداء ومن له رتبة الشفاعة .
ثم يستقر أهل السعادة في الجنة منعمين أبد الآبدين، مستعين بالنظر
إلى وجه الله تعالى . ويستقر أهل الشقاوة في النار مرددين تحت أنواع العذاب ، مبعدين عن النظر بالحجاب إلى وجه الله تعالى ، ذي الجلال والإكرام .
(1) الأسطرلاب : جهاز استعمله المتقدمون في تعيين ارتفاعات الأجرام السماوية ومعرفة الوقت والجهات الأصلية. (وسيط) (۲) زيادة من المخطوطة .
الأصل العاشر: في النبوة
وأنه تعالى خلق الملائكة وبعث الأنبياء ، وأيدهم بالمعجزات . وأن الملائكة كلهم عباده لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ ، وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (1) يُسَبِّحُونَ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتَرُونَ (٢) ﴾ [الأنبياء : ٢٠] وأن الأنبياء رسله إلى خلقه وينتهى إليهم وحيه بواسطة الملائكة فينطقون عن وحي يوحى لا عن الهوى .
وأنه بعث النبي الأمي القرشي محمداً برسالته إلى كافة العرب والعجم ، والجن والإنس ، فنسخ بشرعه الشرائع ، وجعله سيد البشر ، ومنع كمال الإيمان بشهادة التوحيد ، وهو قول : (لا إله إلا الله) ما لم يقترن بها شهادة الرسول ، وهو قول : محمد رسول الله
وألزم الخلق تصديقه في جميع ما أخبر به عنه في أمر الدنيا والآخرة ، وألزمهم اتباعه والاقتداء به فقال : ﴿ وَمَا ءَاتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ
فانتهوا ﴾ [الحشر : ٧]. فلم يغادر شيئاً يقربهم من الله سبحانه ، إلا أمرهم به ، ودلهم على سبيله . ولا شيئاً يقربهم إلى النار ، ويبعدهم عن الله تعالى إلا نهاهم عنه ، وعرفهم طريقه. وإن ذلك أمور لا يُرشد إليها مجرد العقل والرأي والذكاء ، بل هي أسرار يكاشف بها من حظيرة القدس قلوب الأنبياء .
والحمد لله على ما أرشد وهدى وأظهر من أسمائه الحسنى وصفاته العليا، والصلاة والسلام على محمد المصطفى، خاتم الأنبياء،
وعلى آله وأصحابه، وسلم كثيراً.
(۱) يستحسرون : يتعبون ويكلون . (۲) فَتَرَ فُتوراً : لان بعد شدة، أو سكن بعد حدة ونشاط ( الوسيط ) .
خاتمة في التنبيه على الكتب التي تطلب فيها حقيقة هذه العقيدة
اعلم أن ما ذكرناه هو الحاصل من علوم القرآن ، أعني جمل ما يتعلق منها بالله واليوم الآخر . وهي ترجمة العقيدة التي لا بد أن ينطوي عليها قلب كل مسلم ، بمعنى أنه يعتقده ويصدق به تصديقاً جزماً، ووراء هذه العقيدة الظاهرة رتبتان :
إحداهما : معرفة أدلة هذه العقيدة الظاهرة من غير خوض على أسرارها .
والثانية : معرفة أسرارها ولباب معانيها وحقيقة ظواهرها .
والرتبتان جميعاً ليستا واجبتين على جميع العوام، أعني أن نجاتهم في الآخرة غير موقوفة عليهما، ولا فوزهم موقوف عليها، وإنما الموقوف عليهما كمال السعادة. وأعني بالنجاة الخلاص من العذاب، وأعني بالفوز الحصول على أصل النعيم، وأعني بالسعادة نيل غايات النعيم .
فالسلطان إذا استولى على بلدة وفتحها عنوة، فالذي لم يقتله ولم يعذبه فهو ناج وإن أخرجه عن البلدة، والذي لم يعذبه ومع ذلك مكنه من المقام في بلدته مع أهله وأسباب معيشته فهو مع ذلك فائز بالنجاة، والذي خلع عليه وأشركه في ملكه واستخلفه في مملكته وإمارته فهو مع النجاة والفوز سعيد . ثم زيادة درجات السعادات لا تنحصر .
واعلم أن الخلق في الآخرة ينقسمون إلى هذه الأصناف، بل إلى أصناف أكثر منها، وقد شرحنا ما أمكن من شرحها في كتاب التوبة فاطلبه فيه ، في كتاب إحياء علوم الدين) .
والرتبة الأولى من الرتبتين ، وهي معرفة أدلة هذه العقيدة، وقد أحد فصول كتاب أودعناها الرسالة القدسية) في قدر عشرين ورقة، وهي قواعد العقائد من كتاب الإحياء .
وأما أدلتها مع زيادة تحقيق وزيادة تأنق في إيراد الأسئلة والإشكالات، فقد أودعناها في كتاب الاقتصاد في الاعتقاد في مقدار مئة ورقة، فهو كتاب مفرد برأسه، يحتوي لباب علم المتكلمين . ولكنه أبلغ في التحقيق، وأقرب إلى فرع أبواب المعرفة من الكلام الرسمي الذي يصادف في كتب المتكلمين. وكل ذلك يرجع إلى الاعتقاد لا إلى المعرفة، فإن المتكلم لا يفارق العامي إلا في كونه عارفاً. وكون العامي معتقداً. بل هو أيضاً معتقد عرف مع اعتقاده أدلة الاعتقاد، ليؤكد الاعتقاد ويُسمره (۱) ، عن تشويش المبتدعة ، لا ليحل عقدة (۲) الاعتقاد إلى انشراح المعرفة . ويحرسه
فإن أردت أن تستنشق شيئاً من روائح المعرفة صادفت منها مقداراً يسيراً مبثوثاً في كتاب الصبر والشكر وكتاب المحبة وباب التوحيد من أول کتاب التوكل وجملة ذلك من كتاب الإحياء وتصادف منها قدراً صالحاً يعرفك كيفية قرع باب المعرفة في كتاب المقصد الأسنى في معاني أسماءالله الحسنى) لا سيما في الأسماء المشتقة من الأفعال .
وإن أردت صريح المعرفة بحقائق هذه العقيدة من غير مجمجة (۳) ولا مراقبة، فلا تصادفه إلا في بعض كتبنا المضنون بها على غير أهلها . وإياك أن تغتر وتحدث نفسك بأهليته، فتشرئب (٤) لطلبه، فتستهدف للمشافهة بصريح الرد، إلا أن تجمع ثلاث خصال :
إحداها : الاستقلال في العلوم الظاهرة ونيل رتبة الإمامة فيها .
والثانية : انقلاع القلب عن الدنيا بالكلية بعد محو الأخلاق الذميمة، حتى لا يبقى فيك تعطش إلا إلى الحق، ولا اهتمام إلا به ، ولا شغل إلا فيه،
ولا تعريج إلا عليه .
والثالثة : أن يكون قد أتيح لك السعادة في أصل الفطرة، بقريحة (5) صافية، وفطنة بليغة، لا تكل عن درك غوامض العلوم ومشكلاتها على سبيل البديهة والمبادرة. فإن البليد إذا أتعب خاطره وأكد نفسه ، ربما أدرك بعض الغوامض أيضاً، ولكن يدرك منها شيئاً يسيراً في مدة طويلة، فلم يصلح لاقتباس المعرفة الحقيقية إلا قلب صاف كأنه مرأة مجلوة وإنما يصير كذلك بقوة الفطرة وصحة القصد، ثم بإزالة كدورات الدنيا عن وجهه فإنه الرين (6) والطبع الذي يمنع الله به القلوب عن معرفته وأَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ
الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ ﴾ [الأنفال : ٢٤].
(1) في المطبوعة يستمره والتصحيح من المخطوطة ومعنى يُسمره أي : يشده (كما في
القاموس المحيط).
(۲) في المطبوعة : ولا تنحل عقيدة والتصحيح من المخطوطة .
(۳) مجمجمة : مَجْمَعَ الكلام : لم يبينه .
(٤) اشراب للشيء : مد عنقه لينظر إليه .
(5) القريحة : الطبع . (المحيط)
(6) الرين : ران الثوب ريناً : تطبع وتدنس، وران على قلبه الذنب : فسا قلبه لاقتراف الذنب
بعد الذنب والران والرين : الغطاء والحجاب الكثيف، والدنس، وما غطى القلب من
القسوة. (الوسيط).
السلام عليكم