بسم الله الرحمن الرحيم
فصل التفرقة
خطبة الرسالة
قال الإمام العالم العامل أبو حامد محمد بن محمد الغزالي رحمة الله عليه : أحمد الله تعالى استسلامًا لعزته واستتمامًا لنعمته ، واستغنامًا لتوفيقه ومعونته وطاعته ، واستعصامًا من خذلانه ومعصيته ، واستدرارًا لسوابغ نعمته وأصلي على محمد عبده ورسوله وخير خليقته ، انقيادًا لنبوته ، واستجلابًا لشفاعته ، وقضاءً لحق رسالته ، واعتصامًا بيمين سريرته ونقيته ، وعلى آله وصحبه وعترته.
أما بعد :
فإني رأيتك أيها الأخ المشفق ، والصديق المتعصب موغر الصدر ، منقسم الفكر لما قـرع سمعك من طعن طائفة من الحسدة على بعض كتبنا المصنفة في أسرار معاملات الدين ، وزعمهم أن فيها ما يخالف مذهب الأصحاب المتقدمين ، والمشايخ المتكلمين ، وأن العدول على مذهب الأشعري ، ولو في قيد شبر كفر واهجرهم هجرًا جميلًا ، واستحقر من لا يحسد ولا يقـذف ، واستصغر من بالكفر أو الضلال لا يعرف .. فأي داع أكمل وأعقل من سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم ، وقد قالوا: إنه مجنون من المجانين ، وأي كلام أجل وأصدق من كلام رب العالمين ، وقد قالوا : إنه أساطير الأولين ، وإياك أن تشتغل بخصامهم وتطمع في إفحامهم فتطمع في غير مطمع ، وتصوت في غير مسمع ، أما سمعت ما قيل :
كل العداوة قد ترجى سلامتــها
إلا عداوة من عاداك عن حسد
ولو كان فيه مطمع لأحد من الناس ، لما تلى على أجلهم رتبة آيات اليأس ، أو ما سمعت قوله تعالى : { وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاء فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ } [ الأنعام: 35 ] . وقوله تعالى : { وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السَّمَاء فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ } [الحجر: 14، 15]. وقوله تعالى : { وْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } [الأنعام: 7] . وقوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ } [الأنعام: 111] .
واعلم أن الفكر والإيمان وحدهما ، والحق والضلال وسرهما .. لا ينجلي للقلوب المدنسة بطلب الجاه ، والمال وحبهما ، بل إنما ينكشف دون ذلك لقلوب طهرت عن وسخ أوزار الدنيا أولًا ، ثم ثقلت بالرياضة الكاملة ثانيًا ، ثم نورت بالذكر الصافي ثالثًا ، ثم عذبت بالفكر الصائب رابعًا ، ثم زينت بملازمة حدود الشرع خامسًا ، حتى فاض عليها النور من مشكاة النبوة ، وصارت كأنها مرآة مجلوة ، وصار مصباح الإيمان في زجاجة قلبه مشرق الأنوار ، يكاد زيته يضيء ولو لم تمسسه نار . وأنى تتجلى أسرار الملكوت لقوم إلههم هواهم ومعبودهم سلاطينهم ، وقبلتهم دراهمهم ودنانيرهم ، وشريعتهم رعونتهم ، وإرادتهم جاههم وشهواتهم ، وعبادتهم خدمتهم أغنياءهم ، وذكرهم وساوسهم ، وكنزهم سواسهم ، وفكرهم استنباط الحيل لما تقتضيه حشمتهم ، فهؤلاء من أين تتميز لهم ظلمة الكفر من ضياء الإيمان ، أبإلهام إلهي ولم يفرغوا القلوب عن كدورات الدنيا لقبولها أم بكمال علمي ، وإنما بضاعتهم في العلم مسألة النجاسة وماء الزعفران وأمثالهما ؟ هيهات هيهات هذا المطلب أنفس أعز من أن يدرك بالمنى ، أو ينال بالهوينا ؟ فاشتغل أنت بشأنك ولا تضيع فيهم بقية زمانك : { فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى } [النجم: 29، 30].
فصل في حقيقة الكفر والإيمان
فأما أنت إن أردت أن تنتزع هذه الحسكة من صدرك ، وصدر من هو في حالك ، ممن لا تحركه غواية الحسود ، ولا تقيده عماية التقليد ، بل تعطشه إلى الاستبصار لحزازة إشكال آثارها فكر، وهيجها نظر، فخاطب نفسك وصاحبك وطالبه بحد الكفر فإن زعم أن حد الكفر ما يخالف مذهب الأشعري ومذهب المعتزلي أو مذهب الحنبلي أو غيرهم … فاعلم أنه غـر بليد ، قد قيده التقليد فهو أعمى من العميان ، فلا تضيع بإصلاحه الزمان ، وناهيك حجة في إفحامه ، مقابلة دعواه بدعوى خصومه ، إذ لا يجد بين نفسه وبين سائر المقلدين المخالفين له فرقًا وفصلًا ، ولعل صاحبه يميل من سائر المذاهب إلى الأشعري ، ويزعم أن مخالفته في كل ورد وصدر كفر من الكفر الجلي ، فاسأله من أين يثبت له أن يكون الحق وقفا عليه حتى قضى بكفر الباقلاني إذا خالفه في صفة البقاء لله تعالى ، وزعم أنه ليس هو وصفًا لله تعالى زائدًا على الذات ولم صار الباقلاني أولى بالكفر بمخالفته الأشعري من الأشعري بمخالفته الباقلاني ؟ ولم صار الحق وقفا على أحدهما دون الثاني ؟ أكان ذلك لأجل السبق في الزمان ؟ فقد سبق الأشعري غيره من المعتزلة فليكن الحق للسابق عليه ! أم لأجل التفاوت في الفضل والعلم ؟ فبأي ميزان ومكيال قدر درجات الفضل حتى لاح له أن لا أفضل في الوجود من متبوعه ومقلده ؟ فإن رخص للباقلاني في مخالفته فلم حجر على غيره ؟ وما الفرق بين الباقلاني والكرابيسي والقلانسي وغيرهم ؟ وما مدرك التخصيص بهذه الرخصة ؟ وإن زعم أن خلاف الباقلاني يرجع إلى لفظ لا تحقيق وراءه كما تعسف بتكلفه بعض المتعصبين زاعمًا أنهما جميعًا متوافقان على دوام الوجود ، والخلاف في أن ذلك يرجع إلى الذات أو إلى وصف زائد عليه خلاف قريب لا يوجب التشديد ، فما باله يشدد القول على المعتزلي في نفيه الصفات وهو معترف بأن الله تعالى عالم محيط بجميع المعلومات قادر على جميع الممكنات ، وإنما يخالف الأشعري في أنه عالم وقادر بالذات أو بصفة زائدة ، فما الفرق بين الخلافين ، فإن قال : إنما أكفر المعتزلي لأنه يزعم أن الذات الواحدة تصدر منها فائدة العلم والقدرة والحياة وهذه صفات مختلفة بالحد والحقيقة ، والحقائق المختلفة تستحيل أن توصف بالاتحاد أو تقوم مقامها الذات الواحدة فما باله لا يستبعد من الأشعري قوله : إن الكلام صفة زائدة قائمة بذات الله تعالى ومع كونه واحدًا وهو توراة وإنجيل وزبور وقرآن ، وهو أمر ونهي وخبر واستخبار ، وهذه حقائق مختلفة كيف لا وحد الخبر ما يتطرق إليه التصديق والتكذيب ولا يتطرق ذلك غلى الأمر والنهي فكيف تكون حقيقة واحدة يتطرق إليها التصديق والتكذيب ولا يتطرق فيجتمع النـفي والإثبات على شئ واحد فإن تخير جواب هذا أو عجز عن كشف الغظاء فيه ، فاعلم انه ليس من أهل النظر وإنما هو وشرط المقلد أن يسكت يسكت عنه لأنه قاصر عن سلوك طريق الحجاج ، ولو كان أ كان مستتبعًا لا تابعًا ، وإمامًا لا مأمومًا ، فإن خاض المقلد في المحاجة فلذلك منه والمشتغل به صار كضارب في حديد بارد وطالب لصلاح الفاسد . وهل يصلح العـطارما أفسد الدهر. ولعلك إن أنصفت علمت أن من جعل الحق وقفًا على واحد من النظار فهو إلى الكفر والتناقض اقرب .. أما الكفر، فلأنه نزله منزلة النبي المعصوم من الزلل لا يثبت الإيمان إلا بموافقته ولا يلزم الكفر إلا بمخالفته ، وأما التناقض فهو أن كل واحد من النظار يوجب النظر وأن لا ترى في نظرك إلا ما رأيت وكل ما رأيته حجة ، وأي فرق بين من يقول قلدني في مجرد مذهبي ، وبين من يقول قلدني في مذهبي ودليلي جميعًا هذا إلا التناقض .
فصل في الكفر
لعلك تشتهي أن تعرف حد الكفر بعد أن تتناقض عليك حدود أحد المقلدين ، فاعلم أن شرح ذلك طويل ومدركه غامض ، ولكني أعطيك علامة صح فتطردها وتعكسها لتتخذها مطمح نظرك وترعوي بسببها عن تكفير الفرق، وتطويل ا في أهل الإسلام وإن اختلفت طرقهم ما داموا متمسكين بقول لا إله إلا الله محمد رسول الله صادقين بها غير مناقضين لها فأقول :
الكفر هو تكفير الرسول عليه الصلاة والسلام في شئ مما جاء به ، والإيمان تصديق في جميع ما جاء به ، فاليهودي والنصراني كافران لتكذيبهما للرسول عليه الصلاة والسلام والبرهمي كافر بالطريق الأولى لأنه أنكر مع رسولنا المرسل سائر الرسل ، وهذا لأن حكم شرعي كالرق والحرية مثلًا إذ معناه إباحة الدم والحكم بالخلود في النار ، ومدركه فيدرك إما بنص وإما بقياس على منصوص . وقد وردت النصوص في اليهود والنصارى والتحق بهم بالطريق الأولى البراهمة والثنوية والزنادقة والدهرية ، وكلهم مشركون مكذبون للرسول فكل كافر مكذب للرسول ، وكل كافر مكذب فهو كافر فهذه هي ال المطردة المنعكسة .
فصل
اعلم أن الذي ذكرناه مع ظهوره تحته غور بل تحته كل الغور لأن كل فرقة تكفر مخالفها وتنسبه إلى تكذيب الرسول عليه الصلاة والسلام ، فالحنبلي يكفر الأشعري زاعمًا أنه كذب الرسول في إثبات الفوق لله تعالى ، وفي الاستواء على العرش ، والأشعري يكفره زاعمًا أنه مشبه وكذب الرسول في أنه ليس كمثله شئ، ، والأشعري يكفر المعتزلي زاعمًا أنه كذب الرسول في جواز رؤية الله تعالى وفي إثبات العلم والقدرة والصفات له ، والمعتزلي يكفر الأشعري زاعمًا أن إثبات الصفات تكفير للقدماء وتكذيب للرسول في التوحيد ، ولا ينجيك من هذة الورطة إلا أن تعرف حد التكذيب والتصديق وحقيقتهما فيه فينكشف لك علو هذة الفرق وإسرافها في تكفير بعضها بعضًا .
فأقول :
التصديق إنما يتطرق إلى الخبر بل إلى المخبر ، وحقيقة الاعتراف بوجوه ما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن وجوده إلا أن للوجود خمس مراتب ولأجل الغفلة عنهما نسبت كل فرقة مخالفها إلى التكذيب فإن الوجود ذاتي وحسي وخيالي وعقلي وشبهي ، فمن اعترف بوجود ما أخبر الرسول عليه الصلاة والسلام عن وجوده بوجه من هذه الوجوه الخمسة فليس بمكذب على الإطلاق . فلنشرح هذه الأصناف الخمسة ولنذكر مثالها في التأويلات .
أما الوجود الذاتي : فهو الوجود الحقيقي الثابت خارج الحس والعقل ، ولكن يأخذ الحس والعقل عنه صورة فيسمى أخذه إدراكًا وهذا كوجود السماوات والأرض والحيوان والنبات وهو ظاهر بل هو المعروف الذي لا يعرف الأكثرون للوجود معنى سواه .
وأما الوجود الحسي : فهو ما يتمثل في القوة الباصرة من العين مما لا وجود له خارج العين فيكون موجودًا في الحس ويختص به الحاس ، ولا يشاركه غيره ، وذلك كما يشاهده النائم بل كما يشاهده المريض المتيقظ إذ قد تتمثل له صورة ولا وجود لها خارج حسه حتى يشاهدها كما يشاهد سائر الموجودات الخارجة عن حسه ، بل قد تتمثل للأنبياء والأولياء في اليقظة والصحة صورة جميلة محاكية لجواهر الملائكة ، وينتهي إليهم الوحي والإلهام بواسطتها فيتلقون من أمر الغيب في اليقظة ما يتلقاه غيرهم في النوم وذلك لشدة صفاء باطنهم ، كما قال تعالى : { فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا } [مريم: 17] . وكما أنه عليه الصلاة والسلام رأى جبريل عليه السلام كثيرًا، ولكن ما رآه في صورته إلا مرتين وكان يراه في صور مختلفة يتمثل بها وكما يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام ، وقد قال : ” من رآني في النوم فقد رآني حقًّا، فإن الشيطان لا يتمثل بي ” ، ولا تكون رؤيته بمعنى انتقال شخصه من روضة المدينة إلى موضع النائم ، بل هي على سبيل وجود صورته في الحس النائم فقط ، وسبب ذلك وسره طويل ، وقد شرحناه في بعض الكتب فإن كنت لا تصدق به فصدق عينك، فإنك تأخذ قبسًا من نار كأنه نقطة ثم تحركه بسرعة حركة مستقيمة فتراه خطًا من نار، وتحركه حركة مستديرة فتراه دائرة من نار، والدائرة والخط مشاهدان وهما موجودان في حسك لا فى خارج عن حسك , لأن الموجود فى الخارج هى نقطة فى كل حال , وانما تصير خطا فى اوقات متعاقبة فلا يكون الخط موجودا فى حالة واحدة وهو ثابت فى مشاهدتك فى حالة واحدة.
وأما الوجود الخيالى : فهو صورة هذه المحسوسات إذا غابت عن حسك فإنك تقدر على ان تخترع فى خيالك صورة فيل وفرس , وإن كنت مغمضا عينيك حتى كأنك تشاهده وهو موجود بكمال صورته فى دماغك لا فى الخارج .
وأما الوجود العقلى : فهو يكون للشىء روح وحقيقة ومعنى فيتلقى العقل مجرد معناه دون أن يثبت صورته فى خيال أو حس أو خارج كاليد مثلا , فإن لها صورة محسوسة ومتخيلة ولها معنى هو حقيقتها وهى القدرة على البطش , والقدرة على البطش هى اليد العقلية ,
وللقلم صورة , ولكن حقيقته ماتنقش به العلوم , وهذا يتلقاه العقل من غير ان يكون مقرونا بصورة قصب وخشب وغير ذلك من الصور الخيالية والحسية.
وأما الوجود الشبهى : فهو أن يكون نفس الشىء موجودا لا بصورته ولا بحقيقته , لا فى الخارج , ولا فى الحس ولا فى الخيال , ولا فى العقل , ولكن يكون الموجود شيئا آخر يشبهه فى خاصة من خواصه , وصفة من صفاته , وستفهم هذا إذا ذكرت لك مثاله فى
التأويلات . فهذا مراتب وجود الأشياء.
فصل
اسمع الآن أمثلة هذه الدرجات فى التاويلات .أما الوجود الذاتى فلا يحتاج إلى مثال وهو الذى يجرى على الظاهر ولا يتأول , وهو الوجود المطلق الحقيقى , وذلك كإخبار الرسول صلى اللهعليه وسلم عن العرش والكرسى والسموات السبع فإنه يجرى على ظاهره ولا يتأول إذ هذه أجسام موجودة فى أنفسها أدركت بالحس والخيال أو لم تدرك . وأما الوجود الحسى فأمثلته فى التأويلات كثيرة , واقنع منها بمثالين:
أحدهما : قول رسول الله صلى الله عليه وسلم :(( يؤتى بالموت يوم القيامة فى صورة كبش أملح فيذبح بين الجنة والنار )), فإن من قام عنده البرهان على أن الموت عرض الموت عرض أو عدم عرض , وأن قلب العرض جسما مستحيل غير مقدور ينزل الخير على ان أهل القيامة يشاهدون ذلك ويعتقدون أنه الموت , ويكون ذلك موجودا فى حسهم لا فى الخارج , ويكون سببا لحصول اليقين باليأس عن الموت بعد ذلك إذ المذبوح ميئوس منه . ومن يقم عنده هذا البرهان فعساه يعتقد أن نفس الموت ينقلب كبشا فى ذاته ويذبح.
المثال الثانى : قول رسول صلى الله عليه وسلم :((عرضت على الجنة فى عرض هذا الحائط )) , من قام عنده البرهان على أن الاجسام لا تتداخل , وأن الصغير لا يسع الكبير حمل ذلك على أن نفس الجنة لم تنقل إلى الحائط , لكن تمثل للحس صورتها فى الحائط حتى كأنه يشاهدها ولا يمتنع أن يشاهد مثال شىء كبير فى جرم صغير , كما نشاهد السماء فى مرآة صغيرة ويكون ذلك إبصارا مفارقا لمجرد تخيل صورة الجنة إذ تدرك التفرقة بين أن ترى صورة السماء فى المرآة وبين أن تغمض عينيك فتدرك صورة السماء فى المرآة على سبيل التخيل .
وأما الوجود الخيالى : فمثاله قوله صلى الله عليه وسلم : (( كأنى أنظر إلى يونس بن متى عليه عباءتان قطوانيتان يلبى وتجيبه الجبال والله تعالى يقول له : لبيك يايونس )) والظاهر أن هذا إنباء عن تمثيل الصورة فى خياله إذ كان وجود هذه الحالة سابقا على وجود رسول الله صلى الله عليه وسلم , وقد انعدم ذلك فلم يكن موجودا فى الحال , ولا يبعد أن يقال أيضا , تمثل هذا فى حسه حتى صار يشاهده النائم الصور, ولكن قوله : كأنى أنظر , يشعر بإنه لم يكن حقيقة النظر بل كالنظر , والغرض التفهيم بالمثال لا عين هذه الصورة وعلى الجملة فكل ما يتمثل فى محل الخيال فيصور أن يتمثل فى محل الإبصار فيكون ذلك مشاهدة وقل مايتميز بالبرهان استحالة المشاهدة فيما يتصور فيه التخيل.
وأما الوجود العقلى : فامثلته كثيرة , فاقنع منها بمثالين :
أحدهما : قوله صلى الله عليه وسلم : ((آخر من يخرج من النار يعطى من الجنة عشرة أمثال هذه الدنيا )) فإن ظاهر هذا يشير إلى أنه عشرة أمثالها بالطول والعرض والمساحة وهو التفاوت الحسى والخيال , ثم قد يتعجب فيقول : إن الجنة فى السماء كما دلت عليه ظواهر الأخبار فكيف تتسع السماء لعشرة أمثال الدنيا والسماء أيضا من الدنيات ,وقد يقطع المتأول هذا التعجب فيقول المراد به تفات معنوى عقلى لا حسى ولا خيالى , كما يقال مثلا هذه الجوهرة أضعاف الفرس أى فى روح المالية , ومعناها المدرك دون مساحتها المدركة بالحس والتخيل .
المثال الثانى : قوله صلى الله عليه وسلم ((إن الله تعالى خمر طينة آدم بيده أربعين صباحا )) فقد أثبت لله تعالى يدا ومن قام عنده البرهان على استحالة يد الله تعالى هى جارحة محسوسة أو متخيلة , فإنه يثبت لله سبحانه يدا روحانيه عقلية أعنى أنه يثبت معنى اليد وحقيقتها وروحها دون صورتها .إن روح اليد ومعناها مابه يبطش ويفعل ويعطى ويمنع , والله تعالى يعطى ويمنع بواسطة ملائكته , كما قال عليه الصلاة والسلام : (( أول ما خلق الله العقل فقال بك اعطى وبك امنع )) ولا يمكن ان يكون المراد بذلك العقل عرضا كما يعتقده المتكلمون إذ لا يمكن أن يكون العرض أول مخلوق بل يكون عبارة عن ذات ملك من الملائكة يسمى عقلا من حيث يعقل الاشياء بجوهره وذاته من غير حاجة إلى تعليم وربما يسمى قلمًا
260
باعتبار أنه تنقش به حقائق العلوم في ألواح قلوب الأنبياء والأولياء وسائر الملائكة وحياً واٍلهاماً فاٍنه قد ورد في حديث أخر : (( اٍن أول ما خلق الله تعالي القلم) . فاٍن لم يرجع ذلك اٍلي العقل تناقض الحديثان, ويجوز أن يكون لشئ واحد أسماء كثيرة باعتبارات مختلفة فيسمي عقلاً بختبار ذاته وملكاً باعتبار نسبته اٍلي الله تعالي في كونه واسطة بينه وبين الخلق , وقلما باعتبار اٍضافته اٍلي مصدر منه نقش العلوم بالٍالهام والوحي , كما يسمي جبريل روحا باعتبار ذاته وأمنيا ً باعتبار ما أودع من الأسرار, وذا مرة باعتبار قدرته ,وشديد القوي باعتبار كمال قوته ,ومكنباُ عند ذي العرش باعتبار قرب منزله , ومطاعاُ باعتباره كونه متبوعاُ في حق بعض الملائكة , وهذا القائل يكون قد أثيت قلماُ ويداُ عقلياُ لا حسياً ولا خيالياً وكذلك من ذهب اٍلي أن اليد عبارة عن صفة لله تعالي اٍما القدرة أو غيرها كما اختلف فيه المتكلمون .
وأما الوجود الشبهي : فمثاله الغضب والشوق والفرح والصبر وغيرذلك مما ورد في حق الله تعالي, فاٍن الغضب مثلاً حقيقته أنه غليان دم القلب لاٍرادة التشفي وهذا لا ينفك عن نقصان وألم, فمن قام عنده البرهان علي استحالة ثبوت نفس الغصب لله تعالي ثبوتاً ذاتياً وحسياً وخيالياً وعقلياً نزله علي ثبوت صفة أخري يصدر منها ما يصدر من الغضب كاٍرادة العقاب, والاٍرادة لا تناسب الغضب في حقيقة ذانه ولكن في صفة من الصفات وتقارنها وأثر من الأثار يصدر عنها وهو الٍيلام . فهذه درجات التأويلات.
فصل في المصدقين
اعلم أن كل من نزل قولاً من أقوال صاحب الشرع علي درجة من هذه الدرجات فهو من المصدقين , واٍنما التكذيب أن ينفي جميع هذه المعاني , ويزعم أن ما قاله لا معني , واٍنما هو كذب محض وغرضه فيما قاله التلبيس أو مصلحة الدنيا وذلك هو الكفر المحض والزندقة , ولا يلزم كفر المؤولين ما داموا يلازمون قانون التأويل كما سنشير اٍليه وكيف يلزم الكفر بالتأويل , وما من فريق من أهل الاٍسلام اٍلا وهو مضطر اٍليه . فأبعد الناس عن التأويل أحمد بن حنبل رحمة الله عليه , وأبعد التأويلات عن الحقيقة وأغريها أن تجعل الكلام مجازاً أو أستعارة هو الوجود العقلي والوجود الشبهي , والحنبلي مضطر اٍليه وقائل به, فقد سمعت الثقات من أئمة الحنابلة ببغداد يقولون اٍن أحمد بن حنبل رحمه الله صرح بتأويل ثلاث أحاديث فقط:
أحدهما : قوله صلي الله عليه وسلم : (( الحَجَرُ الأُسْوَدُ يَمينُ الله في الأرض)) .
والثاني : قوله صلي الله عليه وسلم : (( قَلبُ الُمومِنِ بين أصبعين مِنْ أصابعِ الرحمْنِ)) .
والثالث: قوله صلي الله وعليه وسلم : ((اٍنَي لأجد نفس الرحمن من قبل اليمن )) .
فانظر الأن كيف أول هذا حيث قام البرهان عنده علي استحالة ظاهرة , فيقول: اليمن تقبل في العادة تقريباً اٍلي صاحبها , والحجر الأسود يقبل أيضا تقرباً اٍلي الله تعالي فهو مثل اليمن لا في ذاته لا في صفات ذاته , ولكن في عارض من عوارضه فسمي لذلك يميناً . وهذا الوجود هو الذي سميناه الوجود الشبهي وهو أبعد وجود التأويل .فانظر كيف اضطر اٍليه أبعد الناس عن الـتأويل . وكذلك لما استحال عند وجود الأصبعين لله حساَ ٍذ من فتش عن صدره لم يشاهد فيه أصبعين فتأوله علي روح الأصبعين وهي الأصبع العقلية والروحانية . أعني أن روح الأصبع ما به يتيسر تقلي الأشياء . وقلب الأنسان بين لمة الملك ولمة الشيطان , وبهما يقلب الله تعالي القلوب , فكني الأصبعين عنهمل . واٍنما اقتصر أحمد لن حنبل رضي الله عنه علي تأويل هذه الأحاديث الثلاثة لأنه لم تظهر عنده الأستحالة اٍلا في هذا القدر , لأنه لم يكن ممنعًا في النظر العقلي ولو أمعن لظهر له ذلك في الأختصاص بجهة فوق وغيره مما لم يتأوله والأشعري والمعتزلي لزيادة بحثهما تجاوزا اٍلي تأويل ظواهر كثيرة , وأقرب الناس اٍلي الحنابلة في أمور الأخرة الأشعرية وفقهم الله فاٍنهم قرروا فيها أكثر الظواهر اٍلا يسيراً , والمعتزلةه أشد منهم توغلاً في التأويلات وهم مع هذا –أعني الأشعرية- يضطرون أيضاً اٍلي تأويل أمور كما ذكرناه من قوله:اٍني يؤتي بالموت في صورة كبش أملح , وكما ورد من وزن الأعمال بالميزان , فاٍن الأضعري أول من وزن الأعمال فقال: توزن صحائف الأعمال ويخلق الله فيها أوزانًا بقدر درجات الأعمال , وهذا ردُ اٍلي الوجود الشبهب البعيد فاٍن الصحائف أجسام كتب فيهارقوم تدل بالصطلاح علي أعمال هي أغراض , فليس الموزون اٍذاً العمل بل محل نقش يدل بالصطلاح علي العمل .
والمعتزلي تأول نفس الميزان وجعله كناية عن سبب به ينكشف لكل واحد مقدار عمله. وهوأبعد عن التعسف في التأويل بوزن الصحاتف , وليس الغرض تصخيخ أخد التأويلين , بل تعلم أن كل فريق وٍن بالغ في ملازمة الظواهر فهو مضطر اٍلي التأوبل اٍلا أن يجاوز الحد في الغباوة والتجاهل , فيقول / الحجر الأسود يمين تحقيقاً , والموت واٍن كان عرضاً فيستحيل فبتنقل كبشاً بطريق الانقلاب , والأعمال واٍن كانت أعراضا , وقد عدمت فتنتقل ٍالي الميزان ويكون فيها أعراض هي الثقل , ومن ينتهي اٍلي هذا الحد من الجهل فقد انخلع من ريقةالعقل .
فصل في التأويل
فاسمع الأن قانون التأويل , فقد علمت اتفاق الفرق علي هذه الدرجات الخمس في التأويل , واٍن شيئاً من ذلك من حيز التكذيب , واتفقوا أيضاً علي أن جواز ذلك موقوف
262 مجموعة رساثل الاٍمام الغزالي
علي قيام البرهان علي استحالة الظاهر , والظاهر الأول هو الوجود الذاتي فاٍن اٍذا ثبت تضمن الجمع . فاٍن تعذر , فالوجود الحسي فاٍنه اٍن ثبت تضمن ما بعده . فاٍن تعذرفالوجود الخيالي أو العقلي . واٍن تعذر , فالوجود الشبهب المجازي ولا رخصة للعدول عن درجة اٍلي ما دونها اٍلا بضرورة البرهان فيرجع الأختلاف علي التحقيق اٍلي البراهين . واذ بقول الحنبلي : لا برهان علي استحاة اختصاص الباري بجهة فوق .
ويقول الأشعري : لابرهان علي استحالة الرؤية . وكأن كل واحد لا يرضي بما ذكره الخصم ولا يراه دليلا ً قاطعاً . وكيف ما كان فلا ينبغي أن يكفر كل فريق خصمه بأن يراه غالطا في البرهان .نعم يجوز أن يسميه ضالاً أو مبتدعاً . أما ضالا فمن حيث اٍنه ضل عن الطريق عنده , وأما مبتدعاً فمن حيث اٍنه ابتدع قولاً لم يعهد من السلف الصالح التصريح به. اٍذ المشهور فيما بين السلف أن الله تعالي يري , فقول القائل : لا يري بدعة , وتصريحه بتأويل الرؤية بدعة, بل اٍن ظهر عنده أن تلك الرؤية معناها مشاهدة تاقلب , فينبغي أن لايظهره ولا يذكره لأن السلف لم يذكروه , لكم عند هذا يقول الحنبلي اٍثلت الفوق لله تعالي مشهور عند السلف , ولم يذكر أحد منهم ، خالق العالم ليس متصلا بالعالن ولا منفصلاً ولا داخلاً ولا خارجاُ, وأن الجهات الست الخالية عنه وأن نسبة جهة فوق اٍليه كنسبة جهة تحت , فهذا قول بدع اٍذ البدعة عبارة عن اٍحداث مقالة غير مأثورة من السلف , وعند هذا يتضح لك أن ههنا مقامين .
أحداهما : مقام عوام الخلق, والحق فيه الاتباع والكف عن تغيير الظواهر رلأسا , والحذر عن اٍبداع التصريح بتأويل لم تصرح به الصحابة وحسم باب السؤال رأساُ والزجر عن الخوض في الكلام والبحث, واتباع ما تشابه من الكتاب والسنه , كما روي عن عمر رضي الله عنه أ،ه سأل سائل عن أيتين متعارضتين فعلاه بالدرة, وكما روي عن مالك رحمه الله أنه سئل عن الأستواء فقال/ الاستواء معلوم والايمان به واجب والكيفية مجهولة والسؤال عنه بدعة.
المقام الثاني : بين النظا الذين اضطربت عقائدهم المأثورة المروية فينبغي أن يكون لحثهم بقدر الضرورة وتركهم الظاهر بضرورة البرهان القاطع ولا ينبغي أن يكفر بعضهم بعضاً بأن يراه غالطاً فيما يعتقده برهاناً , فلٍن ذلك ليس أمراُ هياُ سهل المدارك وليكن للبرهان بينهم قانون متفق عليه يعترف كلهم به , فاٍنهم اٍذا لم يتفقوا في الميزان لم يمكنهم رفع الخلاف بالوزن, وقد ذكرنا في الموازين الخمسة في كتاب (القسطاس المستقيم )وهي التي لا يتصور الخلاف فيها بعد فهمها أصلاً , بل يعترف كل منهما بأنها مدرك اليقين قطعاًوالمحصلون لها يسهل عليهم عقد الاٍنصاف والانتصاف وكشف الغطاء ورفع الاختلاف,
مجموعة رسائل الغزالي 263
ولكن لا يستحيل منهم الاختلاف لأيضاً اٍما لقصور بعضهم عن اٍدراك تمام شروطه . واٍما في رجوعهم في النظر اٍلي محض القريحة والطبع دون الوزن بالميزان , كالذي يرجع بعد تمام تعلم العروض في الشعر اٍلي الذوق لاستقالته عرض كل شعر علي العروض فلا يبعد أن يغلط , واٍما لاختلافهم في العلوم التي هي مقدمات البراهين , فاٍن من العلوم التي هي أصول البراهين تجريبية وتواترية وغيرها والناس يختلفون في التجربة والتواتر فقد يتواتر عند واحد ما لا يتواتر عند غيره , وقد يتولي تجربة ما لا يتولاه غيره . واٍما لالتباس قضايا الوهم بقضايا العقل . واٍما لالتباس الكلمات المشهودة المخمودة بالروريات والأوليات كما فصلنا ذلك في كتاب (محك النظر ) , ولكن بالجملة اٍذا حصلوا تلك الموازين , وحققوها أمكنهم الوقوف عند ترك العناد علي موقع الغلط علي يسر.
فصل في التأويل بغلبات الظنون
من الناس من يبادر اٍلي التأويل بغلبات الظنون من غير برهان قاطع ولا ينبغي أن يبادر أيضاً اٍلي كفره في كل مقام بل ينظر فيه فاٍن كان تأويله في أمر لا يتعلق بأصول العقائد ومعماتها فلا نكفره , وذلك كقول بعض الصوقية اٍن المراد برؤية الخليل عليه السلام الكوكب والقمر والشمس, وقول هذا ربي غير ظاهرها , بل هي جواهر نورانية مليكة ونورانيتها عقلية لا خسية ولها درجات في الكمال . ونسبة ما بينها في التفاوت كنسبة الكواكب والقمر والشمس , ويستدل عليه بأن الخليل عليه السلام أجل من أن يعتقد في جسم أنه اٍله حتي يحتاج اٍلي أن يشاهد أفوله. أفتري أنه لو لم يأفل أكان يتخذه اٍلهاً , ولو لم يعرف استحالة الٍالهية من حيث كونه جسماُ ومقدراً , واستدل بأنه كيف يمكن أن يكون أول ما رأه الكواكب والشمس هي الأظهر وهي أول ما يري: واستدل بأن الله تعالي قال أولاً : ( وكذلك نُري اٍبراهيم ملكوت السموات والأرض) <الأنعام :75> . ثم حكي هذا القول فكيف يمكن أن يتوهم ذلك بعد كشف الملكوت له, وهذه دلالات ظنيىة وليست براهين .
أما قوله , هو أجل من ذلك , فقد قيل اٍنه كان صبياً لما جري له ذلك ولا يبعد أن يخطر لمن سيكون نبياً في صباه مثل هذا الخاطر , ثم يتجاوزه علي قرب ولا يبعد أن تطون دلالة الأفول علي حدوث عنده أظهر من أدلة التقدير والجسمية .
وأما رؤية الكوكب أولاً فقد روي أنه كان محبوساُ في صباه في غار وانام خرج بالليل .
وأم قوله تعالي أولاً: ( وكذلك نُرِي اٍبراهيم ملكوت السموات والأرض) فيجوز
264 مجموعة رسائل الامام الغزالي
أن يكون الله تعالي قد ذكر حال نهايته ثم رجع اٍلي ذكر بدايته . فهذه وأمثالها ظنون يظنها براهين من لا يعرف حقيقة البرهان وشرطه. فهذا حنس تأويلهم. وقد تأولوا العصاوالنعلين في قوله تعالي : ( فاخلع نعليك ) طه :12 . وقوله : ( وألقِ ما في يمينك ) (طه 69) . ولعل الظن في مثل هذه الأمور التي لا تتعلق بأصول الأعتقاد تجري مجري البرهان في أصول الأعتقاد فلا يكفر فيه ولا يبدع . معك اٍن كان فتح هذا الباب يؤدي اٍلي تشويش قلوب العوام فيبدع به خاصة ثاخبه في كل مالم يؤثر عن السلف ذكره , ويقرب منه قول بعض الباطنة أن عجل السامري مؤول اٍذ كيف يخلو خلق كثير عن عاقل يعلم أن المتخذ من الذهب لا يكون اٍلهاً ؟ وهذا أيضاً ظن اٍذ لا يستحيل أن تنتهي من الناس اٍليه كعبدة الأصنام , وكونه نادراً لا يورث يقيناً.
وأما ما يتعلق من هذا الجنس بأصول العثائد المهمة فيجب تكفير من يغير الظاهر بغير برهان قاطع , كالذي ينكر حشر الأجساد وينكر العقوبات الحسية في الأخرة بظموم وأوهام واستبعادات من غير براهن قاطع , فيجب تكفيره قطعياً اٍذ لا برهان علي استحالة رد الأرواح اٍلي الأجساد , وذكر ذلك عظم الضرر في الدين فيجي تكفير كل من قال منهم اٍن الله تعالي لا يعلم اٍلا نفسه , أولا يعلم الكلمات , فأما الأمور الكزئية المتعلقة بالأشخاص فلا يعلمها لأن ذلك تكذيب للرسول صلي الله عليه وسلم قطعاً , وليس من قيبل الدرجات التي ذكرناها في التأويل اٍذ أدلة القرأن والأجبار علي تفهيم حشر الأجساد وتفهيم تعلق علم الله تعالي بتفضيل كل ما يجري علي الأشخاص مجاوز حداً لا يقبل التأويل , وهم معترفون بأن هذا ليس من التأويل , ولكن قالوا: لما كان صلاح الخلق في أن يعتقدوا حشر الأجساد لقصور عقولهم عن فهم المعاد العقلي وكان صلاحهم في أن يعتقدوا أن الله تعالي عالم بما يجري عليهم ورقيب عليهم ليورث ذلك رغبة ورهبة في قلوبهم . جاز للرسول أن يفهمهم ذلك وليس بكاذب من أصلح غيره , فقال ما فيه صلاحة واٍن لم يكن كما قاله ,وهذا القول باطل قطعاُ لأنه تصريح بالتكذيب , ثم طلب عذراً في أنه لم يكذب , ويجب اٍجلال منصب النبوة عن هذة الرذيلة ففي الصدق واٍصلاخ الخلق به مندوحة عن الكذب , وهذه أول درجات الزندقة , وهي رتبة بين الاعتزال وبين الزندقة المطلقة , فاٍن المعتزلة يقرب منهاجهم من الفلاسفة اٍلا في هذا الأمر الواحد وهو أ، المعتزلي لا يجوز الكذب علي الرسول عليه السلام بمثل هذا العذر بل يؤول الظاهر مهما ظهر له بالبرهان خلافه , والفلسفي لا يقتصر علي مجاوزته للظاهر علي ما يقبل التأويل علي قرب أو علي بعد.
وأما الزندفة المطلقة , فهو أن تنكر أصل المعاد عقلياً وحسياً , وتنكر الصانع للعالم أصلاً ورأساً .
بداية صفحة 265
وأما إثبات المعاد بنوع عقلي مع نفي الآلام واللذات الحسية وإثبات الصانع مع نفي علمه بتفاصيل العلوم فهي زندقة مقيدة بنوع اعتراف بصدق الأنبياء وظاهر ظني. والعلم عند الله. أن هؤلاء هم المرادون بقوله عليه الصلاة والسلام : “ستفترق أمتي بضعا وسبعين فرقة كلهم في الجنة إلى الزنادقة وهي فرقة” هذا لفظ الحديث في بعض الروايات وظاهر الحديث يدل على أنه أراد به الزنادقة من أمته ، إذ قال “ستفترق أمتي” ، ومن لم يعترف بنبوته ليس من أمته والذين ينكرون أصل المعاد وأصل الصانع فليسوا معترفين بنبوته إذ يزعمون أن الموت عدم محض ، وأن العالم لم يزل كذلك موجودا بنفسه من غير صانع ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر. وينسبون الأنبياء إلى التلبيس فلا يمكن نسبتهم إلى الأمة ، فإذا لا معنى لزندقة هذه الأمة إلا ما ذكرناه.
فصل في بيان الزندقة المطلقة
اعلم أن شرح ما يكفر به وما لا يكفر به يستدعي تفصيلا يفتقر إلى ذكر كل المقالات والمذاهب ، وذكر شبهة كل واحد ، ودليله ووجه بعده عن الظاهر ووجه تأويله ، وذلك لا يحويه مجلدات ولا تتسع لشرح ذلك أوقاتي فاقنع الآن بوصية وقانون
أما الوصية : فأن تكف لسانك عن أهل القبلة ما أمكنك ما داموا قائلين لا إله إلا الله محمد رسول الله غير مناقضين لها. والمناقضة تجويزهم الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعذر أو غير عذر ، فإن التكفير فيه خطر والسكوت لا خطر فيه
وأما القانون : فهو أن تعلم أن النظريات قسمان : قسم يتعلق بأصول القواعد ، وقسم يتعلق بالفروع ، وأصول الإيمان ثلاثة : الإيمان بالله وبرسوله وباليوم الآخر وما عداه فروع. واعلم أنه لا تكفير في الفروع أصلا إلا في مسألة واحدة وهي أن ينكر أصلا دينيا علم من الرسول صلى الله عليه وسلم بالتواتر ، لكن في بعضها تخطئة كما في الفقهيات وفي بعضها تبديع كالخطأ المتعلق بالإمامة وأحوال الصحابة
واعلم أن الخطأ في أصل الإمامة وتعينها وشروطها وما يتعلق بها لا يوجب شيء منه تكفيرا. فقد أنكر ابن كيسان أصل وجوب الإمامة ولا يلزم تكفيره ولا يلتفت إلى قوم يعظمون أمر الإمامة ويجعلون الإيمان بالإمام مقرونا بالإيمان بالله ورسوله ، ولا إلى خصومهم المكفرين لهم بمجرد مذهبهم في الإمامة فكل ذلك إسراف إذ ليس في واحد من القولين تكذيب للرسول صلى الله عليه وسلم أصلا ، ومهما وجد التكذيب وجب التكفير وإن كان في الفروع. فلو قال قائل مثلا : البيت الذي بمكة ليس الكعبة التي أمر الله تعالى بحجها فهذا كفر ، إذ قد ثبت تواترا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلافه ، ولو أنكر شهادة الرسول لذلك البيت بأنه الكعبة لم ينفعه إنكاره
بداية صفحة 266
بل يعلم قطعا أنه معاند في إنكاره إلا أن يكون قريب عهد بالإسلام ، ولم يتواتر عنده ذلك ، وكذلك من نسب عائشة رضي الله عنها إلى الفاحشة ، وقد نزل القرآن ببراءتها فهو كافر ، لأن هذا وأمثاله لا يمكن إلا بتكذيب الرسول أو إنكار التواتر ، والتواتر ينكره الإنسان بلسانه ولا يمكنه أن يجهله بقلبه. نعم لو أنكر ما ثبت بأخبار الآحاد فلا يلزمه به الكفر ولو أنكر ما ثبت بالإجماع ، فهذا فيه نظر لأن معرفة كون الإجماع حجة قاطعة فيه غموض يعرفه المحصلون لعلم أصول الفقه. وأنكر النظام كون الإجماع حجة أصلا فصار كون الإجماع حجة مختلف فيه فهذا حكم الفروع
وأما الأصول الثلاثة : وكل ما لم يحتمل التأويل في نفسه وتواتر نقله ، ولم يتصور أن يقوم برهان على خلافه فمخالفته تكذيب محض. ومثال ما ذكرناه من حشر الأجساد والجنة والنار وإحاطة علم الله تعالى بتفاصيل الأمور وما يتطرق إليه احتمال التأويل ولو بالمجاز البعيد ، فينظر فيه إلى البرهان فإن كان قاطعا وجب القول به ، ولكن إن كان في إظهاره مع العوام ضرر لقصور فهمهم فإظهاره بدعة وإن لم يكن البرهان قطعيا لكن يفيد ظنا غالبا ، وكان مع ذلك لا يعلم ضرره في الدين كنفي المعتزلي الرؤية عن الله تعالى فهذه بدعة وليس بكفر
وأما ما يظهر له ضرر فيقع في محل الاجتهاد والنظر فيحتمل أن يكفر ويحتمل أن لا يكفر. ومن جنس ذلك ما يدعيه بعض من يدعي التصوف أنه قد بلغ حالة بينه وبين الله تعالى أسقطت عنه الصلاة وحل له شرب الخمرة والمعاصي وأكل مال السلطان. فهذا ممن لا شك في وجوب قتله وإن كان في الحكم بخلوده في النار نظر ، وقتل مثل هذا أفضل من قتل مائة كافر إذ ضرره في الدين أعظم وينفتح به باب من الإباحة لا ينسد وضرر هذا فوق ضرر من يقول بالإباحة مطلقا ، فإنه يمنع عن الإصغاء إليه لظهور كفره. وأما هذا فإنه يهدم الشرع من الشرع ، ويزعم أنه لم يرتكب فيه إلا تخصيص عموم إذ خصص عموم التكليفات بمن ليس له مثل درجته في الدين ، وربما يزعم أنه يلابس ويقارف المعاصي بظاهره وهو بباطنه بريء عنه . ويتداعى هذا إلى أن يدعى كل فاسق مثل حالة وينحل به عصام الدين. ولا ينبغي أن يظن أن التكفير ونفيه ينبغي أن يدرك قطعا في كل مقام ، بل التكفير حكم شرعي يرجع إلى إباحة المال وسفك الدم والحكم بالخلود في النار. فمأخذه كمأخذ سائر الأحكام الشرعية ، فتارة يدرك بيقين وتارة بغالب ظن ، وتارة يتردد فيه ، ومهما حصل تردد فالوقوف فيه عن التكفير أولى ، والمبادرة إلى التكفير إنما تغلب على طباع من يغلب عليهم الجهل ، ولا بد من التنبيه على قاعدة أخرى وهو أن المخالف قد يخالف نصا متواترا ويزعم أنه مؤول ، ولكن ذكر تأويله لا انقداح له أصلا في اللسان لا على بعد ولا على قرب ، فذلك كفر وصاحبه مكذب وإن كان يزعم أنه مؤول
بداية صفحة 267
مثاله : ما رأيته في كلام بعض الباطنية أن الله تعالى واحد بمعنى أنه يعطي الوحدة ويخلقها. وعالم بمعنى أنه يعطي العلم لغيره ويخلقه ، وموجود بمعنى أنه يوجد غيره ، وإما أن يكون واحدا في نفسه وموجودا وعالما على معنى اتصافه فلا. وهذا كفر صراح لأن حمل الوحدة على اتحاد الوحدة ليس من التأويل في شيء ولا تحتمله لغة العرب أصلا ، ولو كان خالق الوحدة يسمى واحدا لخلقه الوحدة لسمي ثلاثا وأربعا لأنه خلق الأعداد أيضا. فأمثلة هذه المقالات تكذيبات عبر عنها بالتأويلات
فصل النظر في التكفير
قد فهمت من هذه التكفيرات أن النظر في التكفير يتعلق بأمور :
أحدها : أن النص الشرعي الذي عدل به عن ظاهره هل يحتمل التأويل أم لا ؟ فإن احتمل فهل هو قريب أم بعيد ؟ ومعرفة ما يقبل التأويل ، وما لا يقبل التأويل ليس بالهين بل لا يستقل به إلا الماهر الحاذق في علم اللغة العارف بأصولها ، ثم بعادة العرب في الاستعمال في استعاراتها وتجوزاتها ومنهاجها في ضروب الأمثال
الثاني : في النص المتروك أنه ثبت تواترا أو آحادا أو بالإجماع المجرد ، فإن ثبت تواترا فهو على شرط التواتر أم لا ؟ إذ ربما يظن المستفيض تواترا ، وحد التواتر ما لا يمكن الشك فيه كالعلم بوجود الأنبياء ووجود البلاد المشهورة وغيرها ، وأنه متواتر في الأعصار كلها عصرا بعد عصر إلى زمان النبوة ، فهل يتصور أن يكون قد نقص عدد التواتر في عصر من الأعصار ؟ وشرط التواتر أن لا يحتمل ذلك كما في القرآن ، أما في غير القرآن فيغمض مدرك ذلك جدا ، ولا يستقبل بإدراكه إلا الباحثون عن كتب التواريخ وأحوال القرون الماضية وكتب الأحاديث وأحوال الرجال وأغراضهم في نقل المقالات. إذ قد يوجد عدد التواتر في كل عصر ولا يحصل به العلم إذ كان يتصور أن يكون للجميع الكثير رابطة في التوافق لا سيما بعد وقوع التعصب بين أرباب المذاهب ، ولذلك ترى الروافض يدعون النص على علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، في الإمامة لتواتره عندهم ، وتواتر عند خصومهم في أشياء كثيرة خلاف ما تواتر عندهم لشدة توافق الروافض على إقامة أكاذيبهم واتباعها.
وأما ما يستند إلى الإجماع فدرك ذلك من أغمض الأشياء إذ شرطه أن يجتمع أهل الحل والعقد في صعيد واحد ، فيتفقوا على أمر واحد اتفاقا يلفظ صريح ، ثم يستمروا عليه مرة عند قوم وإلى تمام انقراض العصر عند قوم ، أو يكاتبهم إمام في أقطار الأرض فيأخذ فتاويهم في زمام واحد بحيث تتفق أقوالهم اتفاقا صريحا حتى يمتنع الرجوع عنه والخلاف بعده
بداية صفحة 268
ثم النظر في أن من خالف بعده هل يكفر ؟ لأنه من الناس من قال إذا جاز في ذلك الوقت أن يختلفوا فيحمل توافقهم على اتفاق ولا يمتنع على واحد منهم أن يرجع بعد ذلك ، وهذا غامض أيضا
الثالث : النظر في أن صاحب المقال هل تواتر عنده الخبر ، أو هل بلغه الإجماع ؟ إذ كل من يولد لا تكون الأمور عنده متواترة ، ولا موضع الإجماع عنده متميز عن مواضع الخلاف ، وإنما يدرك ذلك شيئا فشيئا ، وإنما يعرف ذلك من مطالعة الكتب المصنفة في الاختلاف والإجماع للسلف ، ثم لا يحصل العلم في ذلك بمطالعة تصنيف أو تصنيفين إذ لا يحصل تواتر الإجماع به ، وقد صنف أبو بكر الفارسي رحمه الله كتابا في مسائل الإجماع وأنكر عليه كثير منه وخولف في بعض المسائل ، فإذا من خالف الإجماع ولم يثبت عنده بعد فهو جاهل مخطئ وليس بمكذب فلا يمكن تكفيره. والاستقلال بمعرفة التحقيق في هذا ليس بيسير.
الرابع : النظر في دليله الباعث له على مخالفة الظاهر أهو على شرائط البرهان أم لا؟ ومعرفة شرط البرهان لا يمكن شرحها إلا في مجلدات ، وما ذكرنا في كتاب (القسطاس المستقيم) وكتاب (محك النظر) أنموذج منه وتكل قريحة أكثر فقهاء الزمان عن قص شروط البرهان على الاستيفاء ، ولا بد من معرفة ذلك فإن البرهان إذا كان قاطعا رخص في التأويل وإن كان بعيدا. فإذا لم يكن قاطعا لم يرخص إلا في تأويل قريب سابق إلى الفهم
الخامس : النظر في أن ذكر تلك المقالة هل يعظم ضررها في الدين أم لا ؟ فإن ما لا يعظم ضرره في الدين فالأمر فيه أسهل وإن كان القول شنيعا وظاهر البطلان كقول الإمامية المنتظرة أن الإمام مختف في سرداب فإنه ينتظر خروجه ، فإنه قول كاذب ظاهر البطلان شنيع جدا ، ولكن لا ضرر فيه على الدين إنما الضرر على الأحمق المعتقد لذلك ، إذ يخرج كل يوم من بلده لاستقبال الإمام حتى يدخل فيرجع إلى بيته خاسئا ، وهذا مثال. والمقصود أنه لا ينبغي أن يكفر بكل هذيان وإن كان ظاهر البطلان. فإذا فهمت أن النظر في التكفير موقوف على جميع المقامات التي لا يستقل بآحادها المبرزون علمت أن المبادر إلى تكفير من يخالف الأشعري أو غيره جاهل مجازف ، وكيف يستقل الفقيه بمجرد الفقه بهذا الخطب العظيم وفي أي ربع من أرباع الفقه يصادف هذه العلوم ، فإذا رأيت الفقيه الذي بضاعته مجرد الفقه يخوض في التكفير والتضليل فأعرض عنه ولا تشغل به قلبك ولسانك ، فإن التحدي بالعلوم غريزة في الطبع لا يصبر عنه الجهال ولأجله كثر الخلاف بين الناس ولو ينكث من الأيدي من لا يدري لقل الخلاف بين الخلق
بداية صفحة 269
فصل في حكم عوام المسلمين
من أشد الناس علوا وإسرافا طائفة من المتكلمين كفروا عوام المسلمين وزعموا أن من لا يعرف الكلام معرفتنا ولم يعرف العقائد الشرعية بأدلتنا التي حررناها فهو كافر ، فهؤلاء ضيقوا رحمة الله الواسعة على عباده أولا ، وجعلوا الجنة وقفا على شرذمة يسيرة من المتكلمين ثم جهلوا ما تواتر من السنة ثانيا ، إذا ظهر لهم في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلى وعصر الصحابة رضي الله عنهم حكمهم بإسلام طوائف من أجلاف العرب كانوا مشغولين بعبادة الوثن ولم يشتغلوا بعلم الدليل ، ولو اشتغلوا به لم يفهموه ومن ظن أن مدرك الإيمان الكلام والأدلة المجردة والتقسيمات المرتبة فقد أبدع حد الإبداع ، بل الإيمان نور يقذفه الله في قلوب عبيده عطية وهدية من عنده. تارة ببينة من الباطن لا يمكنه التعبير عنها ، وتارة بسبب رؤيا في المنام ، وتارة بمشاهدة حال رجل متدين وسراية نوره إليه عند صحبته ومجالسته ، وتارة بقرينة حال. فقد جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم جاحدا به منكرا ، فلما وقع بصره على طلعته البهية زادها الله شرفا وكرامة ، فرآها يتلألأ منها أنوار النبوة ، قال : والله ما هذا بوجه كذاب. وسأله أن يعرض عليه الإسلام فأسلم ، وجاء آخر إليه عليه الصلاة والسلام وقال : أنشدك الله ، الله بعثك نبيا ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : “إي والله ، الله بعثني نبيا”. فصدقه بيمينه وأسلم ، وهذا وأمثاله أكثر من أن يحصى ولم يشغل واحد منهم بالكلام وتعليم الأدلة ، بل كانوا يبدو نور الإيمان بمثل هذه القرائن في قلوبهم لمعة بيضاء ثم لا تزال تزداد إشراقا بمشاهدة تلك الأحوال العظيمة وتلاوة القرآن وتصفية القلوب ، فليت شعري متى نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عن الصحابة رضي الله عنهم إحضار أعرابي أسلم وقوله له الدليل على أن العالم حادث أنه لا يخلو عن الأعراض ، وما لا يخلو عن الحوادث حادث ، وإن الله تعالى عالم بعدد وقادر بقدرة زائدة عن الذات لا هي هوة ولا هي غيره ، إلى غير ذلك من رسوم المتكلمين
ولست أقول لم تجر هذه الألفاظ ، ولم يجر أيضا ما معناه معنى الالفاظ ، بل كان لا تنكشف ملحمة إلا عن جماعة من الأجلاف يسلمون تحت ظلال السيوف ، وجماعة من الأسارى يسلمون واحدا واحدا بعد طول الزمان أو على القرب ، وكانوا إذا نطقوا بكلمة الشهادة علموا الصلاة والزكاة وردوا إلى صناعتهم من رعاية الغنم وغيرها ، نعم ، لست أنكر أنه يجوز أن يكون ذكر أدلة المتكلمين أحد أسباب الإيمان في حق بعض الناس ، ولكن ليس ذلك بمقصور عليه وهو أيضا نادر ، بل الأنفع الكلام الجاري في معرض الوعظ كما يشتمل عليه القرآن. فأما الكلام المحرر على رسم المتكلمين فإنه يشعر نفوس المستمعين بأن
ص 270
فيه صنعة جدل ليعجز عنه العامي لا لكونه حقاً في نفسه. و ربما يكون ذلك سبباً لرسوخ العناد في قلبه، و لذلك لا ترى مجلس مناظرة للمتكلمين و لا للفقهاء ينكشف عن واحد انتقل من الاعتزال أو بدعة إلى غيره، و لا عن مذهب الشافعي إلى مذهب أبي حنيفة و لا على العكس. و تجري هذه الانتقالات بأسباب أُخر حتى في القتال بالسيف، و لذلك لم تجر عادة السلف بالدعوة بهذه المجادلات، بل شددوا القول على من يخوض في الكلام و يشتغل بالبحث و السؤال، و إذا تركنا المداهنة و مراقبة الجانب صرحنا بأن الخوض في الكلام حرام لكثرة الآفة فيه إلا لأحد شخصين:
رجل: وقعت له شبهة ليست تزول عن قلبه بكلام ريب وعظي و لا بخبر نقلي عن رسول الله فيجوز أن يكون القول المرتب الكلامي رافعاً شبهته و دواءً له في مرضه، فيستعمل معه ذلك و يحرس عنه سمع الصحيح الذي ليس به ذلك المرض فإنه يوشك أن يحرك في نفسه إشكالاً و يثير له شبهة تمرضه و تستنزل عن اعتقاده المجزوم الصحيح.
الثاني: شخص كامل العقل راسخ القدم في الدين ثابت الإيمان بأنوار اليقين، يريد أن يحصل هذه الصنعة ليداوي بها مريضاً إذا وقعت له شبهة، و ليفحم بها مبتدعاً إذا نبغ و ليحرس به معتقده إذا قصد مبتدع إغواءه، فتعلم ذلك بهذا العزم كان من فروض الكفايات، و تعلم قدر ما يزيل به الشك و يدرأ الشبهة في حق المشكل فرض عين، إذا لم يمكن إعادة اعتقاده المجزوم بطريق آخر سواه. و الحق الصريح أن كل من اعتقد ما جاء به الرسول عليه الصلاة و السلام و اشتمل عليه القرآن اعتقاداً جزماً فهو مؤمن و إن لم يعرف أدلته، بل الإيمان المستفاد من الدليل الكلامي ضعيف جداً مشرف على التزاول بكل شبهة بل الإيمان الراسخ إيمان العوام الحاصل في قلوبهم في الصبا بتواتر السماع أو الحاصل بعد البلوغ بقرائن أحوال لا يمكن التعبير عنها و تمام تأكده بلزومه العبادة و الذكر، فإن من تمادت به العبادة غلى حقيقة التقوى و تطهير الباطن عن كدورات الدنيا و ملازمة ذكر الله تعالى دائماً تجلت له أنوار المعرفة و صارت الأمور التي كان قد أخذها كان قد أخذها تقليداً عنده كالمعاينة و المشاهدة، و ذلك حقيقة المعرفة التي لا تحصل إلا بعد انحلال عقدة الاعتقادات و انشراح الصدر بنور الله تعالى (أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ )[الزمر: 22]. كما سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن نعنى شرح الصدر فقال:” نور يقذف في قلب المؤمن”، فقيل و ما علامته؟ قال: “ التجافي عن دار الغرور و الإنابة إلى دار الخلود”. فبهذا يعلم أن المتكلم المقبل على الدنيا المتهالك عليها غير مدرك حقيقة المعرفة و لو أدركها لتجافى عن دار الغرور قطعاً.
ص 271
لعلك تقول أنت تأخذ التكفير من التكذيب للنصوص الشرعية. و الشارع صلوات الله عليه هو الذي ضيق الرحمة على الخلق دون المتكلم، إذ قال عليه السلام: “ يقول الله تعالى لآدم عليه السلام يوم القيامة: يا آدم ابعث ذريتك بعث النار. فيقول: يا رب من كم؟ فيقول: من كل ألف تسعمائة و تسعة و تسعين”. و قال عليه الصلاة و السلام: “ ستفترق أمتي على نيف و سبعين فرقة، الناجية منها واحدة”.
الجواب: أن الحديث الأول صحيح، و لكن ليس المعنى به أنهم كفار مخلدون بل إنهم يدخلون النار و يعرضون عليها و يتركون فيها بقدر معاصيهم، و المعصوم من المعاصي لا يكون في الألف إلا واحداً، و كذلك قال تعالى: (وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا) [مريم: 71]، ثم بعث النار عبارة عمن استوجب النار بذنوبه و يجوز أن يصرفوا عن طريق جهنم بالشفاعة كما وردت به الأخبار، و تشهد له الأخبار الكثيرة الدالة على سعة رحمة الله تعالى، و هي أكثر من أن تحصى.
فمنها ما روي عن عائشة رضي الله عنها، أنها قالت: فقدت النبي صلى الله عليه و سلم ذات ليلة فابتغيته فإذا هو في مشربه يصلي، فرأيت أنواراً ثلاثاً فلما قضي صلاته، قال: “مهيم من هذه؟” قلت: أنا عائشة يا رسول الله، قال:” أرأيت الأنوار الثلاثة؟” قلت: نعم يا رسول الله، قال:” إن آت أتاني من ربي فبشرني أن الله تعالى يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفاً بغير حساب و لا عذاب، ثم أتاني في النور الثاني آت من ربي فبشرني أن الله تعالى يُدخل الجنة من أمتي مكان كل واحد من السبعين ألفاً سبعين ألفاً بغير حساب و لا عذاب، ثم أتاني في النور الثالث آت من ربي فبشرني أن الله تعالى يدخل الجنة من أمتي مكان كل واحد من السبعين ألفاً المضاعفة سبعين ألفاً بغير حساب و لا عذاب” فقلت: يا رسول الله لا تبلغ أمتك هذا قال:”يكملون لكم من الأعراب ممن لا يصوم و لا يصلي”، فهذا و أمثاله من الأخبار الدالّة على سعة الرحمة الله تعالى كثير، فهذا في أمة محمد صلى الله عليه و سلم خاصة، و أنا أقول: إن الرحمة تشتمل كثيراً من الأمم السالفة و إن كان أكثرهم يعرضون على النار، بل أقول: إن أكث نصارى الروم و الترك في هذا الزمان تشتملهم الرحمة إن شاء الله تعالى. أعني الذين هم في أقاصي الروم و الترك و لم تبلغهم الدعوة، فإنهم ثلاثة أصناف: صنف لم يبلغهم اسم محمد صلى الله عليه و سلم أصلاً فهم معذورون، و صنف بلغهم اسمه و نعته وما ظهر عليه من المعجزات و هم المجاورون لبلاد الإسلام و المخالطون لهم و هم الكفار الملحدون. و صنف
ص 272
ثالث بين الدرجتين بلغهم اسم محمد صلى الله عليه و سلم و لم يبلغهم نعته وصفته، بل سمعوا أيضاً منذ الصبا أن كذاباً ملبساً اسمه محمد ادعى النبوة، كما سمع صبياننا أن كذاباً يقال له المقفع بعثه الله تحدث بالنبوة كاذباً، فهؤلاء عندي في أوصافه في معنى الصنف الأول فإنهم مع أنهم لم يسمعوا اسمه سمعوا ضد أوصافه، و هذا لا يحرك داعية النظر في الطلب.
و أما الحديث الآخر، و هو قوله: الناجية منها واحدة. فالراوية مختلفة فيه. فقد روي الهالكة منها واحدة و لكن الأشهر تلك الرواية، و معنى ناجية هي التي لا تعرض على النار، و لا تحتاج إلا الشفاعة بل الذي تتعلق به الزبانية لتجره إلى النار فليس بناج على الإطلاق و إن انتزع بالشفاعة من مخاليبهم. و في رواية: كلها في الجنة إلا الزنادقة و هي فرقة. و يكون الهالك عبارة عمن وقع اليأس من صلاحه لأن الهالك لا يرجى له بعد الهلاك خير و تكون الناجية واحدة و هي التي تدخل الجنة بغير حساب و لا شفاعة لأن من نوقش الحساب فقد عذب فليس بناج إذاً، و من عرض للشفاعة فقد عرض للمذلة فليس بناج أيضاً على الإطلاق، و هذان الطريقان و هما عبارتان عن شر الخلق و خيره. و باقي الفرق كلهم بين هاتين الدرجتين: فمنهم من يدخل النار ثم يخرج على قدر خطاياهم في عقائدهم و بدعتهم و على كثرة معاصيهم و قلتها. فأما الهالكة المخلدة في النار مع هذه الأمة في فرقة واحدة و هي التي كذبت و جوزت الكذب على رسول الله صلى الله عليه و سلم بالمصلحة.
و أما سائر الأمم، فمن كذبه بعد ما قرع سمعه التواتر عن خروجه و صفته و معجزته الخارقة للعادة كشق القمر و تسبيح الحصى و نبع الماء بين أصابعه و القرآن المعجز الذي تحدى به أهل الفصاحة و عجزوا عنه، فإذا قرع ذلك سمعه فأعرض عنه و تولى و لم ينظر فيه و لم يتأمل و لم يبادر إلى التصديق، فهذا الجاحد الكاذب و هو الكافر، و لا يدخل في هذا أكثر الروم و الترك الذين بعدت بلادهم عن بلاد المسلمين، بل أقول من قرع سمعه هذا فلابد أن تنبعث به داعية الطلب ليستبين حقيقة الأمر إن كان من أهل الدين و لم يكن من الذين استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة، فإن لم تنبعث هذه الداعية فذلك لركونه إلى الدنيا و خلوه عن الخوف و خطر أمر الدين و ذلك كفر، و إن انبعثت الداعية فقصر في الطلب فهو أيضاً كفر بل ذو الإيمان بالله و اليوم الآخر من أهل كل ملة و لا يمكنه أن يفتر عن الطلب بعد ظهور المخايل بالأسباب الخارقة للعادة، فإن اشتغل بالنظر و الطلب و لم يقصر فأدركه الموت قبل تمام التحقيق فهو أيضاً مغفور له الرحمة الواسعة، فاستوسع رحمة الله تعالى و لا تزن الأمور الإلهية بالموازين المختصرة الرسمية.
ص 273
و اعلم أن الآخرة قريب من الدنيا فما خلقكم و لا بعثكم إلا كنفس واحدة فكما أن أكثر أهل الدنيا في نعمة و سلامة أو في حالة يغبطها إذ لو خير بينها و بين الإماتة و الإعدام مثلاً لاختارها، و إنما المعذب الذي يتمنى الموت نادر، فكذلك المخلدون في النار بالإضافة إلى الناجين و المخرجين منها في الآخرة نادر، فإن صفة الرحمة لا تتغير باختلاف أحوالها، و إنما الدنيا و الآخرة عبارتان عن اختلاف أحوالك و لولا هذا لما كان لقوله عليه الصلاة و السلام معنى، حيث قال ” أول ما خط في الكتاب الأول أنا الله لا إله إلا أنا سبقت رحمتي غضبي فمن شهد أن لا إله إلا الله و أن محمد عبده و رسوله، فله الجنة”.
و اعلم أن أهل البصائر قد انكشف لهم سبق الرحمة و شمولها بأسباب و مكاشفات سوى ما عندهم من الأخبار و الآثار، و لكن ذكر ذلك يطول،. فأبشر برحمة الله و بالنجاة المطلقة إن جمعت بين الإيمان و العمل الصالح، و بالهلاك المطلق إن خلوت عنهما جميعاً، و إن كنت صاحب يقين في أصل التصديق و صاحب خطأ في بعض التأويل، أو صاحب شك فيهما، أو صاحب خلط في الأعمال، فلا تطمع في النجاة المطلقة.
و اعلم، أنك تعذب مدة ثم تخلي، و بين أن يشفع فيك من تيقنت صدقه في جميع ما جاء به أو غيره، فاتهد أن يغنيك الله بفضله عن شفاعة الشفعاء فإن الأمر في ذلك مخطر.
فصل
قد ظن بعض الناس أن مأخذ التكفير من العقل لا من الشرع، و أن الجاهل بالله كافر و العارف به مؤمن، فيقال له: الحكم بإباحة الدم و الخلود في النار حكم شرعي لا معنى له قبل ورود الشرع، و إن أراد به أن المفهوم من الشارع أن الجاهل بالله هو الكافر، فهذا لا يمكن حصره فيه لأن الجاهل بالرسول و بالآخرة أيضاً كافر، ثم إن خصص ذلك بالجهل بذات الله تعالى بجحد وجوده أو وحدانيته و لم يطرد في الصفات فربما سوعد عليه، و إن جعل المخطئ في الصفات أيضاً جاهلاً أو كافراً لزمه تكفير من نفي صفه البقاء وصفة القدم، و من نفي الكلام وصفاً زائداً على العلم، و من نفي السمع و البصر زائداً على العلم، و من نفي جواز الرؤية، و من أثبت الجهة و أثبت إرادة حادثة لا في ذاته و لا في محل و تكفير المخالفين فيه، و بالجملة يلزمه التكفير في كل مسألة تتعلق بصفات الله تعالى و ذلك حكم لا مستند له، و إن خصص ببعض الصفات دون بعض لم يجد لذلك فصلاً و مرداً، و لا وجه له إلا الضبط بالتكذيب ليعم المكذب بالرسول و بالمعاد، و يخرج منه المؤول، ثم لا يبعد أن يقع الشك و النظر في بعض المسائل من جملة التأويل بعيداً و يقضي فيه بالظن و موجب الاجتهاد، فقد عرفت أن هذه مسألة اجتهادية.
ص 274
فصل
من الناس من قال إنما أكفر من يكفرني من الفرق، و من لا يكفرني فلا. و هذا لا مأخذ له، فإن قال قائل علي رضي الله عنه أولى بالإمامة إذ لم يكن كفراً فبأن يخطئ صاحبه، و يظن أن المخالف فيه كافر لا يصير كافراً، و إنما هو خطأ في مسألة شرعية. و كذلك الحنبلي إذ لم يكفر بإثبات الجهة فلم يكفر أن يغلط أو يظن أن نافي الجهة مكذب و ليس بمتأول. و أما قول رسول الله صلى الله عليه و سلم:” إذا قذف أحد المسلمين صاحبه بالكفر فقد باء به أحدهما”. معناه أن يكفره بمعرفته بحاله فمن عرف من غيره أنه مصدق لرسول الله صلى الله عليه و سلم ثم يكفره فيكون الكفر كافراً. فأما إن كفره لظنه أنه كذب الرسول فهذا غلط منه في حال شخص واحد، إذ قد يظن به أنه كافر مكذب و ليس كذلك و هذا لا يكون كفراً. فقد أفدناك بهذه الترديدات التنبيه على أعظم الغور في هذه القاعدة و على القانون الذي ينبغي أن يتبع فيه، فاقنع به و السلام.