بسم الله الرحمن الرحيم
الحكمة فى مخلوقات الله عز وجل
وصلى الله على سيدنا محمدوآله وصحبه وسلم
خطبة الكتاب
الحمد لله الذى جعل نعمته فى رياض جنان المقربين، وخص بهذه الفضيلة من عباده المتفكرين ، وجعل التفكر فى مصنوعاته وسيلة لرسوخ اليقين فى قلوب عباده المستبصرين ، استدلوا عليه سبحانه بصنعته فعلموه ، وتحققوا أن لا إله إلا هو فوحدوه ، وشاهدوا عظمته وجلاله فنزهوه ، فهو القيم بالقسط فى جميع الأحوال ، وهم الشهداء على ذلك بالنظر والاستدلال … فعلموا أنه الحليم القادر العليم ، كما قال تعالى فى كتابه الكريم : ( شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) [ آل عمران:18 ] . والصلاة والسلام على سيد المرسلين وإمام المتقين ، وشفيع المذنبين محمد خاتم النبيين ، وعلى آله وصحبه وشرف وكرم إلى يوم الدين .
أما بعد :
يا أخى وفقك الله توفيق العارفين ، وجمع لك خير الدنيا والدين ، إنه لما كان الطريق إلى معرفة الله سبحانه والتعظيم له فى مخلوقاته والتفكير فى عجائب مصنوعاته ، وفهم الحكمة فى أنواع مبتدعاته ، وكان ذلك هو السبب لرسوخ اليقين ، وفيه تقارب درجات المتقين ، وضعت هذا الكتاب منبهًا لعقول أرباب الألباب بتعريف وجوه من الحكم والنعم التى يشير إليها معظم آى الكتاب . فإن الله تعالى خلق العقول وكمل هداها بالوحى وأمر أربابها بالنظر فى مخلوقاته والتفكر والاعتبار مما أودعه من العجائب فى مصنوعاته ، لقوله سبحانه : ( قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) [ يونس :101 ] . وقوله ( وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ ) [ الأنبياء :30 ] . إلى غير ذلك من الآيات البينات والدلالات الواضحات التى يفهمها متدبرها ، والمترقى فى اختلاف معانيها يعظم المعرفة بالله سبحانه التى هى سبب السعادة ، والفوز بما وعد به عباده من الحسنى وزيادة . وقد بوبته أبوابا يشتمل كل باب على ذكر وجه الحكمة من النوع المذكور فيه من الخلق ، وذلك حسب ماتنبهت له عقولنا فيما أشرنا إليه ، مع أنه لو اجتمع جميع الخلائق على أن يذكروا جميع ما خلق الله سبحانه وتعالى ، وما وضع من الحكم فى مخلوق واحد من مخلوقاته لعجزوا عن ذلك وما أدركته الخلائق من ذلك ما وهب الله سبحانه لكل منهم وما سبق له من ربه سبحانه . والله المسئول أن ينفعنا به برحمته وجوده .
باب التفكر فى خلق السماء وفى هذا العالم
قال الله تعالى : ( أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ ) [ ق:6 ] . وقال سبحانه وتعالى : ( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ) [ الطلاق:12 ] .
اعلم رحمك الله إذا تأملت هذا العالم بفكرك وجدته كالبيت المبنى المعد فيه جميع ما يحتاج إليه ، فالسماء مرفوعة كالسقف ، والأرض ممدودة كالبسط ، والنجوم منصوبة كالمصابيح ، والجواهر مخزونة كالذخائر ، وكل شئ من ذلك معد مهيأ لشأنه ، والإنسان كالمالك للبيت المخول لما فيه ، فضروب النبات لمآربه ، وأصناف الحيوانات مصروفة فى صالحه ، فخلق سبحانه السماء وجعل سبحانه لونها أشد الألوان موافقة للأبصار وتقوية لها ولو كانت لسعة أو أنوارًا لأضرت الناظر إليها . فإن النظر إلى الخضرة والزرقة موافق للأبصار ، وتجد النفوس عند رؤية السماء فى سعتها نعيمًا وراحة لاسيما إذا انفطرت نجومها وظهر نور قمرها ، والملوك تجعل فى سقوف مجالسها من النقش والزينة ما يجد الناظر إليه به راحة وانشراحًا ، لكن إذا داوم الناظر إليه نظره وكرره مله وزال عنه ما كان يجده برؤيته من البهجة والانشراح ، بخلاف النظر إلى السماء وزينتها فإن الناظر إليها من الملوك فمن دونهم إذا ضجروا من الأسباب المضجرة لهم يلجؤون إلى ما يشرحهم من النظر إلى السماء وسعة الفضاء ، وقد قالت الحكماء : يحذوك عندك من الراحة والنعيم فى دارك بمقدار ما عندك فيها من السماء ،
وفيها أنها حاملة لنجومها المرصعة ولقمرها وبحركتها تسير الكواكب فتهتدى بها أهل الآفاق ، وفيها طرق لاتزال توجد آثارها من المغرب والمشرق ولا توجد مجردة ولا مقبلة صورة نور. وقيل : إنها أنجم صغار متكاثفة مجتمعة يهتدى بها على السير من ضل ويحثر فى أى جهة كانت فيقصدها ، وقيل : إنها المشار إليها فى قوله تعالى: (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ) [الذاريات:7] . قيل : الحبك الطرق ، وقيل ذات الزينة فهى دلائل واضحة تدل على فاعلها وصنعته محكمة صمدية تدل على سعة علم بارئها وأمور ترتبيها كما تدل على إرادة منشئها فسبحان القادر العالم المريد ،
وقيل : فى النظر إلى السماء عشر فوائد :
تنقص الهم ، وتقلل الوسواس ، وتزيل وهم الخوف ، وتذكر بالله ، وتنشر فى القلب التعظيم لله ، وتزيل الفكر الردئية ، وتنفع لمرض السوداء ، وتسلى المشتاق وتؤنس المحبين ، وهى قبلة دعاء الداعين .
باب فى حكمة الشمس
قال الله سبحانه : ( وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا ) [ نوح:16] .
اعلم أن الله سبحانه خلق الشمس لأمور لا يستكمل علمها إلا الله وحده ، فالذى ظهر من حكمته فيها أن جعل حركتها لإقامة الليل والنهار فى جميع أقاليم الأرض . ولولا ذلك لبطل أمر الدين ، أو لولاه كيف كان يكون الناس يسعون فى معايشهم ويتصرفون فى أمورهم والدنيا مظلمة عليهم ، وكيف كانوا يتهنون بالعيش مع فقدهم لذة النور ومنفعته ولولا ضياء نورها ما انتفع بالأبصار ولم تظهر الألوان ، وتأمل غروبها وغيبتها عمن طلعت عليهم وما فى ذلك من الحكمة ، ولولاه لم يكن للخلق هدوء ولا قرار مع شدة حاجتهم إلى الهدوء وراحة أبدانهم وخمود حواسهم وانبعاث القوة الهاضمة لهضم طعامهم وتفنيد الغذاء ، ثم كان الحرص لحملهم على مداومة العمل ومطاولته على ما يعظم مكانته فى أبدانهم ، فإن أكثر الحيوانات لولا دخول الليل ما هدءوا ولا قروا من حرصهم على نيل ما ينتفعون به ، ثم كانت الأرض تحمى بدوام شروق الشمس واتصاله حتى يحترق كل ما عليها من الحيوانات والنباتات ، فهى بطلوعها فى وقت غروبها فى وقت النور بمنزلة سراج لأهل بيت يستضاء به وقتًا ويغيب وقتًا ليهتدوا ويقروا ، وهى فى حرها بمنزلة نار يطبخ بها أهل الدار حتى إذا كمل طبيخهم واستغنوا عنها أخذها من جاورهم ، وهو يحتاج إليها فينتفع حتى إذا قضى حاجته سلمها لآخرين ، فهى أبدًا منصرفة فى منافع أهل الأرض بتضاد النور والظلمة على تضادهما متعاونين متظافرين على ما فيه صلاح العالم وقوامه ، وإلى هذه القضية الإشارة بقوله : ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ) [القصص:71].
ثم بتقدمها وتأخرها تستقيم الفصول فيستقيم أمر النبات والحيوان ثم انظر إلى مسيرها فى فلكها فى مدة وهى تطلع كل يوم وتغرب بسير آخر سخر لها بتقدير خالقها فلولا طلوعها وغروبها لما اختلف الليل والنهار ولما عرفت المواقيت .
ولو انطبق الظلام على الدوام لكان فيه الهلاك لجميع الخلق ، فانظر كيف جعل الله الليل سكنًا ولباسًا والنهار معاشًا وانظر إلى إيلاجه الليل فى النهار والنهار فى الليل وإدخاله الزيادة والنقصان عليهما على الترتيب المخصوص ، وانظر إلى إمالة سير الشمس حتى اختلف بسبب ذلك الصيف والشتاء ، فإذا انخفضت من وسط السماء برد الهواء وظهر الشتاء .
وإذا استوت وسط السماء اشتد القيظ ، وإذا كانت فيما بينهما اعتدل الزمان فيستقيم بذلك أمر النبات والحيوان بإقامة هذه الأزمنة الأربعة من السنة وأما ما فى ذلك من المصلحة ، ففى الشتاء تعود الحرارة فى الشجر والنبات فيتولد فيه مواد الثمار ويستكشف الهواء ، فينشأ منه السحاب والمطر ، وتشتد أبدان الحيوان وتقوى أفعال الطبيعة ، وفى الربيع تتحرك الطبائع فى المواد المتولدة فى الشتاء فيطلع النبات بإذن الله وينور الشجر ، وتهيج أكثر الحيوانات للتناسل ، وفى الصيف يخمد الهواء فينضج الثمار وتنحل فضول الأبدان ، ويجف وجه الأرض فتتهيأ لما يصلح لذلك من الأعمال ، وفى الخريف يصفو الهواء فترتفع الأمراض ويمتد الليل فيعمل فيه بعض الأعمال وتحسن فيه الزراعة ، وكل ذلك يأتى على تدريج ، وبقدر حتى لا يكون الانتقال دفعة واحدة إلى غير ذلك مما يطول لو ذكر.
فهذا مما يدلك على تدبير الحكيم العليم وسعة علمه ، ثم تفكر فى تنقل الشمس فى هذه البروج لإقامة دور السنة ،وهذا الدور الذى يجمع الأزمنة الأربعة : الشتاء والصيف والربيع والخريف وتسير فيهاعلى التمام وفى القدر من دوران الشمس يدرك الغلات والثمار وتنتهى غاياتها ، ثم تعود فتستأنف وقت السير وبمسيرها تكمل السنة ويقوم حساب السنة على الصحة على التاريخ بتقدير الحكيم العليم.
تأمل إشراق الشمس على العالم كيف دبره تبارك وتعالى ، فإنها لو بزغت فى موضع واحد لها لا تعدوه لما وصل شعاعها إلا إلى جهة واحدة وخلت عنها جميع الجهات فكانت الجبال والجدران تحجبها عنها ، فجعلها سبحانه تشرق بطلوعها أول النهار من المشرق فيعم شروقها ما يقابلها من جهة المغرب ، ثم لاتزال تدور وتغشى جهة بعد جهة حتى تنتهى إلى الغرب على ما استتر عنها أول النهار، فلا يبقى موضع حتى يأخذ بقسطه منها ، ثم انظر إلى مقدار الليل والنهار كيف وقتهما سبحانه على ما فيه صلاح العالم فصارا بمقدار لو تجاوزاه لأضرا بكل ما على وجه الأرض من حيوان ونبات ، أما الحيوان فكان لا يهدأ ولا يقر ما دام يجد ضوء النهار وكانت البهائم لا تمسك عن الرعى فيؤول أمرها إلى تلفها ، وأما النبات فتدوم عليه حرارة الشمس وتوهجها فيجف ويحترق ، وكذلك الليل لو امتد مقداره أيضا لكان معوقًا لأصناف الحيوان عن الحركة والتصرف فى طلب المعاش ، وتجمد الحرارة الطبيعية من النبات فيعفن ويفسد كالذى يحدث على النبات إذا كان الموضع لاتقع الشمس عليه.
باب فى حكمة خلق القمر والكواكب
قال الله سبحانه وتعالى : (تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاء بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا) [الفرقان : 61].
اعلم وفقك الله أن الله سبحانه وتعالى لما جعل الليل لبرد الهواء وهدوء الحيوان وسكونه ، فلم يجعله سبحانه ظلمة داجية لا ضياء فيها البتة فكان لا يمكن أن يعمل عملا فيه . وربما احتاج الناس إلى بعض أعمالهم فى الليل إما لضرورة أو لضيق وقت عليهم من
ص 10
النهار، وقد يقع ذلك لشدة حرارة أو لغيره من الأسباب ، فكان ضوء القمر فى الليل من جملة ما نحتاج إليه فى المعونة على ذلك فجعل طلوعه فى بعض الليالى ، وينقص نوره عن نور الشمس وحرها لئلا ينشط الناس فى العمل نشاطهم فى النهار فينعدم ما به يتمتعون من الهدوء والقرار فيضر ذلك بهم ، وجعل فى الكواكب جزء من النور يستعان به إذا لم يكن ضوء القمر، وجعل فى الكواكب زينة السماء وأنسًا وانشراحًا لأهل الأرض شئيًا ما ألطف هذا التدبير ، وجعل الظلمة دولة ومدة للحاجة إليها. وجعل خلالها شيئًا من النور ليكمل به ما أحتيج إليه ، ثم فى القمر علم الشهور والسنين وهو صلاح ونعمة من الله ، ثم فى النجوم مآرب أخرى فإن فيها دلائل وعلامات على أوقات كثيرة لعمل من الأعمال كالزراعة والغراسة والاهتداء بها فى السفر فى البر والبحر وأشياء مما يحدث من الأنواء والحر والبرد ، وبها يهتدى السارون فى ظلمة الليل وقطع القفار الموحشة واللجج المائلة كما قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) [الأنعام : 97] . مع ما فى ترددها فى السماء مقبلة ومدبرة ومشرقة ومغربة من البهجة والنضارة ، فى تصريف القمر خاصة فى استهلاله ومحاقه وزيادته ونقصانه واستنارته وكسوفه . كل ذلك دلالات على قدرة خالقها المصرف لها هذا التصرف لإصلاح العالم ، ثم انظردوران الفلك بهذه الكواكب فى كل يوم وليلة دورانًا سريعًا وسيرها معلوم مشاهد فإنا نشاهدها طالعة وغاربة ، ولولا سرعة سيرها لما قطعت هذه المسافة البعيدة فى أربعة وعشرون ساعة ، فلولا تدبير البارى سبحانه بارتفاعها حتى خفى عنا شدة مسيرها فى فلكها لكانت تختطف بتوهجها لسرعة حركتها كالذى يحدث أحيانا من البروق إذا توالت فى الجو ، فانظر لطف البارى سبحانه فى تقدير سيرها فى البعد البعيد لكيلا يحدث من سيرها حادث لا يحتمل فهى مقدرة فى جميع الأحوال على قدر الحاجة ، وانظر فى هذه التى تظهر فى بعض السنة وتحتجب فى بعضها مثل الثريا والجوزاء والشعرى ، فإنها لو كانت كلها تظهر فى وقت واحد لم يكن لشى منها دلالة على جهالة تعرفها الناس ويهتدون بها ، فكان فى طلوع بعضها فى وقت دون الآخر ما يدل على ما ينتفع به الناس عند طلوعه مما يصلحهم ، ولذلك جعلت بنات نعش ظاهرة لا تغيب لضرب من المصلحة فإنها بمنزلة الأعلام التى يهتدى بها الناس للطرق المجهولة فى البر والبحر فإنها لا تغيب ولاتتوارى . ثم انظر لو كانت واقفة لبطلت الدلالات التى تكون من تنقلات المتنقلة منها ومصيرها فى كل واحد من البروج كما يستدل على أشياء تحدث فى العالم بتنقل الشمس والقمر فى منازلهما ولو كانت متنقلة كلها لم يكن لمسيرها منازل تعرف ولا رسم يقاس عليه لأنه إنما يعرف مسير المتنقلة منها بتنقلها فى البروج الدانية ، كما يعرف سير سائر على الأرض بالمنازل التى يجتاز عليها، فقد صار
ص10
هذا الفلك شمسه وقمره ونجومه وبروجه تدور على هذا العالم دورانًا دائمًا في الفصول الأربعة من السنة لصلاح ما فيه من حيوان ونبات وغير ذلك بتقدير العزيز العليم، ومن عظيم الحكمة خلق الأفلاك التي بها هذا العالم على نهاية من الإتقان لطول البقاء وعدم التغير، فقد كفى الناس التغير في هذا الأمر الجليل الذي ليس قدرة ولا حيلة في إصلاحه لو نزل به تغير يوجب ذلك التغير أمرًا في الأرض. إذ قوام الأرض مرتبط بالسماء، فالأمر في جميع ذلك ماض على قدرة الباري سبحانه لا يختل ولا يعتل ولا يتخلف منه شئ عن ميقاته لصلاح العالم، فسبحان العليم القدير.
باب في حكمة خلق الأرض
قال تعالى {وَالأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ} [الذاريات: 48]. ثم انظر كيف جعل الله الأرض مهادا أيستقر عليها الحيوان، فإن لابد له من مستق ولا غنى له عن قوت فجميع الأرض محل للنبات لقوته، ومسكن يسكنه من الحر والبرد، ومدفن يدفن فيه ما تؤذي رائحته، والجيف والأقذار من أجسام بني آدم وغيرها، كما قال سبحانه: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاء وَأَمْوَاتًا} [المرسلات: 25-26]. قيل في تفسير هذة الآية ذلك القول وغيره، ثم ذلل طرقها لتنتقل فيها الخلق لطلب مآربهم فهي موضوعة لبقاء النسل من جميع أصناف الحيوان والحرث والنبات، وجعل فيها الاستقرار والثبات كما نبه على ذلك سبحانه وتعالى بقوله: {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [النازعات: 31-33]. فأمكن الخلائق بهذا السفر فيها في مآربهم والجلوس لراحتهم والنوم لهدوئهم والانتقال لأعمالهم، فإنها لو كانت رجراجة متحركة لم يستطيعوا أن يتقنوا شيئا من النبات وجميع الصناعات وكانوا لا يتهنون بالعيش والأرض ترتج بهم من تحتهم، واعتبر ذلك بما يصيب الناس في الزلازل وكانوا لا يتهنون بالعيش والأرض ترتج بهم من تحتهم، واعتبر ذلك بما يصيب الناس في الزلازل ترهيبا للخلق وتخويفا لهم لعلهم يتقون الله وينزعون عن الظلم والعصيان، فهذا أيضا من الحكمة ثم إن الأرض طبعها الله باردة يابسة بقدر مخصوص. أرأيت لو أفرط اليبس عليها حتى تكون بجملتها حجرًا صلدًا لما كانت تنبت هذا النبات الذي به حياة الحيوانات، ولا كان يمكن فيها حرث ولا بناء فجعل لينها لتتهيأ لهذة الأعمال، ومن الحكمة في خلقها ووضعها أن جعل مهب الشمال أرفع من الجنوب لينحدر الماء على وجه الأرض فيسقيها ويرويها ثم يصير إلى البحر في آخر الأمر، فأشبه ذلك ما إذا رفع أحد جانبي السطح وخفض الآخر لينحدر الماء عنه، ولولا ذلك لبقي الماء مستبحرا على وجه الأرض فيمتنع الناس من أعمالهم وتنقطع الطرق والمسالك بسبب ذلك. انظر إلى ما خلق الله فيها من المعادن وما يخرج منها من أنواع الجواهر المختلفة في منافعها
ص11
وألوانها مثل الذهب والفضة الياقوت والزمرد والبسنفش وأشياء كثيرة من هذة الأحجار الشفافة المختلفة في ألوانها وأنواع أخر مما يصلح للأعمال والجمال كالحديد والنحاس والقصدير والرصاص والكبريت والزرنيخ والتوتيا والرخام والجبس والنفط وأنواع لو عددت لطال ذكرها وهو ممالا ينتفع به الناس وينصرف فيما يصلحهم. فهذة نعم يسرها سبحانه لهم لعمارة هذة الدار، ثم انظر إلى إرادة إجادته من عمارتها وانتفاع العباد بها يجعلها هشة سهلة بخلاف ما لو كانت على نحو خلق الجبال فلو يبست كذلك لتعذرت، فإن الحرث لا يستقيم إلا مع رخو الأرض لزراعة الأقوات والثمر، وإلا فلا يتعدى _إذا صلبت_ الماء إلى الحب مع أن الحب لا يمكن دفنه إلا بعد أن تلين الأرض بالنداوة ويأخذ الورق وهي ضعيفة في ابتدائها في الأرض التربة. ويمكن إذ ذلك عملها حتى تشرب ما ينزل عليها من الماء فيخلق الله سبحانه عند ذلك العروق ملتبسة بالثرى حتى يقف الشجر والنبات على ساقه وجعل ما يخلق من العروق يوازن ما يخلق من الفروع، ومن رحمته في لينها أن يسر للناس حفر الآبار في المواضع المحتاجة إلى ذلك إذ لو حفرت الأرض في الجبال لصعب الأمر وشق، ومن الحكمة في لينها تيسير السير للسعادة فيها إذ لو صلبت لعسر السير ولم تظهر الطرق، وقد نبه الله تبارك وتعالى على ذلك بقوله: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} [الملك : 15]. وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونْ} [الأنبياء : 31]. ومن ذلك ما يستعين به العباد من ترابها ولبنها في البناء وعمل اللبن وأواني الفخار وغير ذلك، والمواضع التي ينبت فيها الملح والشب والبورق والكبريت أكثر تربة رخوة. وأيضا أجناس من النبات لا يوجد إلا في التراب والرمل دون الأرض المحيلة ويخلق فيها كثير من الحيوان لسهولة حفرها فيتخذون فيها مسارب وبيوتا يؤوى إليها، ومن الحكمة فيها خلق المعادن كما ذكرنا، فقد امتن سبحانه على سليمان صلى الله عليه وسلم بقوله: {وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ} [سبأ: 12]. أي سهلنا له الانتفاع بالنحاس وأطلعناه على معدنه وقال امتنانا على عباده: {وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [الحديد: 25]. والنزول بمعنى الخلق كما قال سبحانه: {وَأَنزَلَ لَكُم مِّنْ الأَنْعَامِ} [الزمر: 6]. أى الخلق، والهمهم استخراج ما فيها من ذهب وفضة وغير ذلك لمنافعهم وما يحتاجون إليه في معاشهم وفي اتخاذ أوانيهم، وفي ضبط ما يحتاجون إلى ضبطه وتقويته واتخاذ أنواع من الحجارة النفيسة لتبقى فيها سليمة لوقت الاحتياج إليها إذ لا غنى لهم عنها، وكذلك يستخرج من المعادن الأكحال مثل: (الدهبخ والمرفنعنا) والسادن والتوتيا وغير ذلك من أصناف ينتفعون بها فسبحان المنعم الكريم. ومن الحكمة االبالغة فيها خلق الجبال. قال الله تعالى: {وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا}
ص12
[النازعات: 32]. وقال تعالى: {وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ } [النحل: 15]. وقال سبحانه: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ} [المؤمنون:18]. فقد خلق سبحانه فيها الجبال لمنافع متعددة لا يحيط بجميعها إلا الله، فمن ذلك أن الله تعالى أنزل من السماء المياه ليحيى بها العباد والبلاد، فلو كانت الأرض عارية من الجبال لحكم عليها الهواء وحر الشمس مع رخو الأرض، فكانوا لا يجدون المياه إلا بعد حفر وتعب ومشقة، فجعل سبحانه الجبال لتستقر في بطونها المياه ويخرج أولًا فأولًا فتكون منها عيون وانهار وبحار يرتوي بها العباد في أيام القيظ إلى أوان نزول غيث السماء، ومن الجبال ما ليس في باطنها محل للمياه، فجعل الثلج محفوظًا على ظاهرها إلى أن يحله حر الشمس فيكون منه أنهار وأسواق ينتفع بها إلى أوان الغيث أيضا.
ومنها ما يكون فيه برك يستقر فيها الماء فيؤخذ منها وينتفع به، ومن منافع الجبال ما يثبت فيها من أنواع الأشجار والعقاقير التي لا توجد إلا فيها، وما يثبت من أنواع الأخشاب العظيمة فيعمل منها السفن وتعمر منها المساكن، وفيها الشعاري التي لا يوجد ما يعظم من الأخشاب إلا فيها، وكذلك العقاقير أكثرها لا يوجد إلا بها، وفيها وهاد تنبت مزارع للأنعام ومزارع لبني آدم ومساكن للوحوش ومواضع لأجناح النحل، ومن منافع الجبال ما يتخذه العباد من المساكن تقيهم الحر والبرد ويتخذون مدافن لحفظ جثث الموتى، وقد ذكر الله ذلك فقال:{وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ} [الحجر: 82]. ومن فوائدها أن جعلت أعلاما يستدل بها المسافرون على الطرقات في نواحي الأرض. ويستدل بها المسافرون في البحار على المين والسواحل، ومن فوائدها أن الفئة القليلة الضعيفة الخائفة من عدوان من لا تطيقه تتخذ عليها ما يحصنهم ويؤمنهم ويمنعها ممن تخافه فتطمئن لذلك، وانظر كيف خلق الله فيها الذهب والفضة وقدرهما بتقدير منصوص ولم يجعل ذلك ميسرا في الوجود والقدر مع سعة قدرته وشمول نعمته كما جعل هذة السعة في المياه وما ذلك إلا لما سبق في علمه لخلائقه مما هو الأصلح كما أشار إلى ذلك بقوله: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} [الحجر:21]. فسبحان العليم الحكيم.
باب في حكمة البحر
قال الله تبارك وتعالى: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} [النحل: 14]. اعلم رحمك الله: أن الله سبحانه وتعالى خلق البحار وأوسع فيها لعظم نفعها. فجعلها مكتنفة لاقطار الأرض التي هي قطعة من الأرض المستورة بالبحر الأعظم المحيط بجميع الأرض، حتى أن جميع المكشوف من البراري والجبال عن الماء بالإضافة إلى الماء
ص13
كربوة صغيرة في بحر عظيم. فاعلم أن ما خلق في الأرض من الحيوان بالإضافة إلى ما خلق في البحر كإضافة الأرض إلى البحر، وقد شاهدت عجائب فيها ما هو مكشوف منها، فتأمل عجائب البحر فإن فيه من الحيوان والجواهر والطيب أضعاف ما تشاهده على وجه الأرض، كما أن سعته أضعاف سعة الأرض، ولعظم سعته كان فيه من الحيوانات والدواب العظيمة، ما إذا أبدت ظهورها على وجه البحر. ظن من يراها أنها حشاف وجبال أو جزائر، وما من صنف من أصناف حيوان البر من إنسان وطائر وفرس وبقر وغير ذلك إلا وفي البحر أمثالها وأضعافها، وفيه أجناس من الحيوانات لم تعهد أمثالها في البر، وكل منها قد دبره الباري سبحانه وخلق فيه ما يحتاجه ويصلحه، ولو استقصى ذكر ما يحتويه بعضه لاحتاج إلى وضع مجلدات، ثم انظر كيف خلق الله اللؤلؤ مدورا في صدف تحت الماء وأثبت المرجان في جنح صخور في البحر. فقال سبحانه: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن:22]. وذلك في معرض الامتنان، وقيل: المرجان المذكور في القرآن هو الرقيق من اللؤلؤ، ثم قال: {فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:23]. وآلاؤه تفضله ونعمه، ثم انظر ما يقذف من العنبر وغيره من المنفوع، ثم انظر إلى عجائب السفن وكيف مسكنها على وجه الماء تسير فيها العباد لطلب الأموال وتحصيل ما لهم من الأعراض وجعلها من آياته ونعمته. فقال: {وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ} [البقرة: 164]. فجعلها بتسخيره تحملهم وتحمل أثقالهم وينتقلون بها من إقليم إلى أقاليم لا يمكن وصولهم إليها إلا بالسفن، ولو راموا التوصيل بغيرها لأدى إلى أعظم المشقات وعجزوا عن نقل ما ينقل من المنقولات إلى ما بعد البلاد والجهات فلما أراد الله سبحانه وتعالى أن يلطف بعباده ويهون ذلك عليهم خلق الأخشاب متخلخلة الأجزاء بالهواء ليحملها الماء ويبقى فيها من الفضاء عن نفسها ما يحمل به الأثقال وألهم العباد اتخذاها سفنا. ثم أرسل الرياح بمقادير في أوقات تسوق السفن وتسيرها من موضع إلى موضع آخر. ثم ألهم أربابها معرفة أوقات هبوبها وفترتها حتى يسيروا بالرياح التي تحملها شراعها، وانظر إلى ما يسره سبحانه في خلق الماء، إذ هو جسم لطيف رقيق سيال متصل الأجزاء كأنه شيء واحد لطيف التركيب سريع القبول للتقطع حتى كأنه منفصل مسخرر للتصرف قابل للاتصال والانفصال حتى يمكن سير السفن فيه، فالعجب ممن يغفل عن نعمة الله في هذا كله، وفي بعضه متسع للفكر. وكل ذلك شواهد متضافرة وآيات ناطقة بلسان حالها مفصحة عن جلال بارتها، معربة عن كمال قدرته وعجائب حكمته، قائلة: أما ترى تصويري وتركيبي وصفاتي زمنا ةاختلاف حالي وكثرة فوائدي؟ أيظن ذو لب سليم وعقل رصين أني تلونت بنفسي أو أبدعني أحد من جنسي؟ بل ذلك صنع القادر القهار العزيز الجبار.
ص14
باب في حكمة خلق الماء
قال الله تبارك وتعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ} [الأنبياء:30]
وقال سبحانه: {فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} [النمل: 60].
أنظر وفقك الله إلى ما من به سبحانه وتعالى على عباده بوجود الماء العذب الذي به حياة كل من على وجه الأرض من حيوان ونبات، فلو اضطر الإنسان إلى شربة منه ومنع منها لهان عليه ان يبذل فيها جميع ما يمكنه من خزائن الدنيا، والعجب من غفلة العباد فيها، ولو جعلها بقدر لضاق الأمر فيها وعظم الحرج على كل من سكن الدنيا، ثم انظر طلافة الماء ورقته حتى ينزل من الأرض ويخلخل أجزاءها فتتغذى عروق الشجر ويصعد بلطافته بواسطة حرارة الشمس إلى أعالي الشجر والنبات وهو من طبعه الهبوط، ولما كانت الضرورة تدعو غلى شربة لإماعة الاغذية في أجواف الحيوان ليتصرف الغذاء إلى موضعه جعله لشاربه في شربه لذة عند حاجته إليه وقبول له ويجد شاربه فيه نعيما وراحة، وجعل مزيلا للأدران عن الأبدان والأوساخ عن الثياب وغيرها، وبالماء يبل التراب فيصلح للبناء والأعمال، وبه يرطب كل يابس مما لا يمكن استعماله يابسا، وبه ترق الأشربة فيوغ شربها، وبه تطفأ عاذبة النار غذا وقعت فيها فلا تلتهب فيه وأشرف الناس منها على ما يكرهون وبه تزول الغصة إذا أشرف صاحبها على الموت، وبه يغتسل التعب الكل فيجد الراحة لوقته، وبه تستقيم المطبوخات وجميع الأشياء التي لا تستعمل ولا تصلح إلا رطبة إلى غير ذلك من مآرب العباد التي لا غنى لهم عنها، فانظر في اعموم هذة النعمة وسهولة تناولها مع الغفلة عن قدرتها مع شدة الحاجة إليها. فلو ضاقت لكدرت الحياة في الدنيا، فعلم بهذا أن الله تبارك وتعالى أراد بإنزاله وتيسيره عمارة الدنيا بما فيها كم حيوان ونبات ومعدن إلى غير ذلك من المنافع التي يقصر عنها الوصف لمن يروم حصرها، فسبحان المتفضل العظيم.
باب الحكمة في خلق الهواء
قال الله تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} [الحجر:22].
اعلم رحمك الله أن الهواء في حلقه تتخلخله الرياح ولولا ذلك لهلك الجميع
ص15
حيوان البر، وباستنشاقه تعتدل الحرارة في أجسام جميع الحيوانات لأنه لهم مثل الماء لحيوان البحر. فلو انقطع عن الحيوان استنشاقه انصرفت الحرارة التي فيها إلى قلبها فكان هلاكها بسبب ذلك، ثم انظر إلى الحكمة في سوق السحاب به فيقع المطر بانتقال السحاب في موضع يحتاج إلى المطر فيها إلى للزراعة، فلولا لطف الباري بخلق الرياح لثقلت السحاب وبقيت راكدة في أماكنها وامتنع انتفاع الأرض بها، ثم انظر كيف تسير بها السفن بها وتنتقلبحدوثها وهبوبها فتحمل فيها من أقاليم إلى أقاليم مما لا يخلق تلك الأشياء فيها فينتفع أهلها، فلولا تنقلها بالهواء لم تكن تلك الأشياء إلا بمواضعها التي خلقت فيها خاصة، ولعسر نقلها بالدواب إلى غيرها من الاقاليم، وللعباد ضرورات تدعو إلى ما ينقل إليهم مما ليس يخلق عندهم، ومنافع يكثر تعدادها من طلب أرباح لمن يجلها ويعلم فوائدها. ثم انظر إلى ما في الهواء من اللطافة والحركة التي تتخلل أجزاء العالم فينقي بحركته عفن الأرض، فلولاه لعفنت المساكن بالوباء والعلل، ثم انظر إلى ما يحصل منه من النفع في نقل السوافي والرمال إلى البساتين وتقوية أشجارها بما ينتقل إليها من التراب بسبب حركة الهواء وتستر وجوه جبال بالسافي فيمكن الزراعة فيه وما فصل إلى السواحل مما ينتفع الناس بسببه، وكل ذلك بحركة البحر بالهواء فيقذف البحر العنبر وغيره مما ينتفع به العباد في أمورهم. ثم انظر كيف يتفرق المطر بسبب حركة الهواء فيقع على الأرض قطرات، فلولا حركة الهواء لكان الماء عند نزوله ينزل انصبابة واحدة فيهلك ما يقع عليه، ثم يجتمع بلل القطرات فيجتمع أنهارًا وبحارًا على وجه الأرض من غير تضرر ويحصل بذلك مقصودهم على أحسن وجه، فانظر إلى أثر رحمة الله، فسبحان اللطيف بخقله المدبر لملكه، ثم انظر عموم هذة الرحمة وعظيم نفعها وشمول هذة النعمة وجليل قدرها كما نبه العقول عليها بقوله تعالى: {وَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 10 ، 11]. ثم من تمام النعمة وعظيم الحكمة أن جعل سبحانه الصحو يتخلل نزول الغيث فصارا يتعاقبان لما فيه صلاح هذا العالم، فلو دام واحد منهما عليه لكان فسادا. ألا ترى إلى الأمطار إذا توالت وكثرت عفنت البقول والخضروات وهدمت المساكن والبيوت وقطعت السبل ومنعت من الأسفار وكثير من الحرف والصناعات ولو دام الصحو لجفت الأبدان والنبات، وعفن الماء الذي في عيون والاودية، فأضر ذلك بالعباد. وغلب اليبس على الهواء فأحدث ضررا آخر من الأمراض، وفلبت بسببه الاسعار من الأقوات، وبطل المرعى وتعذر على النحل ما يجده من الرطوبة التي يرعاها على الأزهار،وإذا تعاقبا على العالم اعتدل الهاء ودفع كل واحد منهما ضرر الآخر فصلحت الأشياء واستقامت، وهذا هو الغالب من مشيئة الله.
ص16
فإن قيل: قد يقع من أحدهما ضرر في بعض الأوقات. قلنا: قد يكون ذلك لتنبيه الإنسان بتضاد الأشياء على نعمة الله تعالى وفضله ورحمته أنه هو الغالب فيحصل لهم بتلك لنزجار عن الظلم والعصيان، ألا ترى من سقم جسمه احتاج إلى ما يلائمه من الأدوية البشعة الكريهة ليصلح جسمه ويصح ما فسد منه. قال الله تعالى: {وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} [الشورى:27].
باب في حكمة خلق النار
قال الله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِؤُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِّلْمُقْوِينَ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 71-74]
اعلم وفقنا الله وإياك: أن الله خلق النار، وهي من أعظم النعم على عباده، وملا علم سبحانه وتعالى أن كثرتها وبثها في العالم مفسدة جعلها الله بحكمته محصورة حتى إذا احتيج إليها وجدت واستعملت في كل أمر يحتاج إليها فيه، فهي مخزونة في الأجسام، ومنافعها كثيرة لا تحصى. فمنها ما تصلحه من الطبائخ والأشربة التي لولاها لم يحصل فيها نضج ولا تركيب ولا اختلاط، ولا صحة هضم لمن يستعملها في أكل وشرب. فانظر لطف الباري سبحانه في هذا الأمر ثم انظر فيما يحتاج الناس إليه من الذهب والفضة والنحاس والحديد والرصاص والقصدير وغير ذلك، فلولا لم يكن شيء من الانتفاع من هذة الأشياء، فبها يذاب النحاس فتعمل منه الأواني وغيرها. وقد نبه الله تعالى على مثل ذلك بأنها نعمة توجب الشكر. فقال تعالى {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا} [سبأ: 13]. وبه يلين الحديد فيعملون به أنواعا من المنافع والآلات للحروب مثل الدروع والسيوف إلى غير ذلك مما يطول تعداده، وقد نبه الله تعالى على مثل هذا، فقال {وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [الحديد: 25]. ومنه يعمل آلات للحرث والحصاد وآلات تتأثر بها النار، وآلات يطرق بها، وآلات لقطع الجبال الصمة، وآلات لنجارة الأخشاب مما يكثر تعدادها. فلولا لطف الله سبحانه بخلق النار لم يحصل من ذلك شيء من المنافع، ولولا لما كان يتهيأ للخلق من الذهب والفضة نقود ولا زينة ولا منفعة، وكانت هذة الجواهر معدودة من جملة الأتربة، ثم انظر إلى ما جعل الله تعالى في النار من الفرح والترح عندما تغشى الناس ظلمة الليل كيف يستضيئون بها ويهتدون بنورها في جميع أحوالهم من أكل وشرب وتمهيد مراقد، ورؤية ما يؤذيهم ومؤانسة مرضاهم وقصدها والعمل عليها برًا وبحرًا فيجدون
ص17
بوجودها أنسًا حتى كأن الشمس لم نغب عن أفقهم، ويدفعون بها ضرر الثلوج والرياح الباردة ويستعينون بها في الحروب ومقاومة حصون لا تملك إلا بها، فانظر ما أعظم قدر هذة النعمة التي جعل سبحانه حكمها بأيديهم إن شاءوا خزنوها وإن شاءوا أبرزوها.
باب في حكمة خلق الإنسان
قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ} [المؤمنون: 12]. إلى آخر ما وصفه سبحانه.
اعلم وفقك الله تعالى أن الله عز وجل لما سبق في علمه خلق الخلق وبثهم في هذة الدرا، وتكليفهم فيها للبلوى والاختبار. خلقهم سبحانه متناسلين بعضهم من بعض، فخلق سبحانه الذكر والأنثى وألقى في قلوبهم المحبة والدواعي حتى عجزوا عن الصبر وعدموا الحيلة في اجتناب الشهوة. فساقتهم الشهوة المفظورة في خلقهم إلى الاجتماع وحعل الفكرة تحرك عضوًا مخصوصًا به إيداع الماء في القرار المكين الذي يخلق فيه الجنين، فاجتمعت فيه النطفة من سائر البدن وخرجت ماء دافقًا مندفعًا من بين الصلب والترائب بحركة مخصوصة، فانتقلت بسبب الإفلاج من باطن إلى باطن. فكانت مع انتقالها على أصلها، لأنها ماء مهين أدنى شيء يباشرها يفسدها ويغير مزاجها، فهي ماء يختلط جميعه مستوية أجزاؤه لا تفاوت فيها بحال، فخلق سبحانه منه الذكر والأنثى بعد نقلها من النطفة إلى العلقة إلى المضغة إلى العظام، ثم كساها اللحم وشدها بالأعصاب والأوتار ونسجها بالعروق، وخلق الأعضاء وركبها فدور سبحانه الرأس وشق فيها السمع والبصر والأنف والفم وسائر المنافذ. فجعل العين للبصر، ومن العجائب سر كونها مبصرة للأشياء، وهو أمر يعجز عن شرح سره، وركبها من سبع طبقات لكل طبقة صفة وهيئة مخصوصة بها، فلو فقدت طبقة منها أو زالت لتعطلت عن الإبصار، وانظر إلى هيئة الأشفار التي تحيط بها وما خلق فيها من سرعة الحركة لتقي العين مما يصل إليها مما يؤذيها من غبار وغيره، فكانت الأشفار بمنزلة باب يفتح وقت الحاجة ويغلق في غير وقت، ولما كان المقصود من الأشفار جمال العين والوجه جعل شعرها على قدر لا يزيد زيادة تضر بالعين ولا تنقص نقصًا يضر بها، وخلق في مائها ملوحة لتقطيع ما يقع فيها، وجعل طرفيها منخفضين عن وسطهما قليلًا لينصرف ما يقع في العين لأحد الجانبين، وجعل الحاجبين جمالًا للوجه وسترًا للعينين وشعرهما يشبه الأهداب في عدم الزيادة المشوهة، وجعل شعر الرأس واللحية قابلًا للزيادة والنقص، فيفعل فيهما ما يقصد به الجمال من غير تشويه، ثم انظر إلى الفم واللسان وما في ذلك من الحكم، فجعل الشفتين سترًا للفم كأنها باب يغلق وقت ارتفاع الحاجة إلى
ص18
فتحه، وهو ستر على اللثة والأسنان مفيد للجمال، فلولاهما لتشوهت الخلق، وهما معينان على الكلام واللسان للنطق والتعبير عما في ضمير الإنسان وتقليب الطعام وغلقائه تحت الأضراس حتى يستحكم مضغه، ويسهل ابتلاعه، ثم جعل الأسنان أعدادًا متفرقة ولم تكن عظمًا واحدًا، فإن أصاب بعضها ثلم انتفع بالباقي، وجمع فيها بين النفع والجمال، وجعل ما كان منها معكوسًا زائد الشعب حتى تطول مدته مع الصف الذي تحته، وجعلها صلبة ليست كعظام البدن لدعاء الحاجة إليها على الدوام، وفي الأضراس كبر وتسريف لأجل الحاجة إلى درس الغذاء، فإن المضغ هو الهضم الأول، وجعلت الثنايا والأنياب لتقطيع الطعام وجمالًا للفم فأحكم اصولها، وحدد ضروسها، وبيض لونها مع حمرة ما حولها، متساوية الرءوس متناسبة التركيب، كأنها الدر المنظوم، ثم انظر كيف خلق في الفم نداوة وحبوسة لا تظهر إلا في وقت الحاجة إليها، فلو ظهرت وسالت قبل ذلك لكان تشويهًا للإنسان، فجعلت ليبل بها ما يمضغ من الطعام حتى يسهل تسويغه من غير عنت ولا ألم. فإذا فقد الأكل عدمت تلك النداوة الزائدة التي خلقت للترطيب، وبقى منها ما يبل اللهوات والحلق لتصوير الكلام ولئلا يجف، فإن جفافه مهلك للإنسان، ثم انظر إلى رحمة الله ولطفه، إذ جعل للآكل لذة الأكل فجعل الذوق في اللسان وغيره من أجزاء الفم ليعرف بالذوق ما يوافقه ويلائمه من الملذوذ فيجد في ذلك راحة في الطعام والشراب إذا دعت حاجة إلى تناوله وليتجنب الشيء الذي لا يوافقه، ويعرف بذلك حد ما تصل الأضياء إليه في الحرارة والبرودة، ثم إن الله تعالى شق السمع وأودعه رطوبة مرة يحفظ بها السمع من ضرر الدود ويقتل الهوام الذين يلجون السمع، وحفظ الأذن بصدفة لتجمع الصوت فترده إلى صماخها. وجعل فيها زيادة حس لتحس بما يصل إليها مما يؤذياه يؤذيها من هوام وغيرها، وجعل فيها تعويجات ليتطرد فيها الصوت، ولتكثر حركة ما يدب فيها ويطول طريقه فينتبه فيتأثر وينتبه صاحبها من النوم، ثم انظر إلى إدراكه المشمومات بواسطة ولوج الهواء، وذلط، سر لا يعلم حقيقته إلا الباري سبحانه إلى غير ذلك، ثم انظر طيف رفع الأنف في وسط الوجه، فأحسن شكله، وفنح منخريه، وجعل فيها حاسة الشم ليستدل باستنشاقه على روائح مطاعمه ومشاربه، وليتنعم بالروائح العطرة ويجتنب القذرة، وليستنشق أيضًا روح الحياة غذاءً لقلبه وترويحًا لحرارة باطنه، ثم خلق الحنجرة وهيأها لخروج الأصوات، ودور اللسان في الحركات والتقطيعات، فينقطع الصوت في مجاري مختلفة تختلف بها الحروف ليشع طرق النطق، وجعل الحنجرة مختلف الأشكال في الضيق والسعة والخشونة والملاسة وصلابة الجوهر ورخاوته والطول والقصر، حتى اختلف بسبب ذلك الأصوات. فلم يتشابه صوتان، كما خلق بين كل صورتين اختلافًا فلم تشتبه
ص19
صورتان، بل يظهر بين كل صورتين فرقان، حتى يميز السامع بعض الناس عن بعض بمجرد الصوت، وكذلك يظهر بين كل شخصين فرقان، وذلك لسر التعارف فإن الله تعالى لما خلق آدم وحواء خالف بين صورتيهما، فخلق منهما خلقًا جعله مخالفًا لخلق أبيه وأمه، ثم توالى الخلق كذلك لسر التعارف ثم انظر لخلق اليدين تهديان إلى جلب المقاصد ودفع المضار وكيف عرض الكف وقسم الأصابع الخمس، وقسم الأصابع بالأنامل، وجعل الأربعة في جانب والإبهام في جانب آخر فيدور الإبهام على الجميع، فلو اجتمع الأولون والآخرون على أن يستطيعوا بدقة الفكر وجهًا آخر عن وضع الأصابع سوى ما وضعت عليه من بعد الإبهام عن الأربعة، وتفاوت الأربعة في الطول وترتيبها في صف واحد لم يقدروا على ذلك، وبهذا الوضع صلح بها القبض والإعطاء. فإن بسطها كانت طبقًا يضع عليه ما يريد، وغن جمعها كانت آلة يضرب بها، وإن ضمها ضمًا غير تام كانت مغرقة له، وإن بسطها وضم أصابعه كانت مجرفة، ثم خلق الأظافر على رءوسها زينة للأنامل وعمادٍا لها من ورائها حتى لا تضعف بها ويلتقط الأشياء الدقيقة التي تتناولها الأنامل لولاها، وليحك بها جسمه عند الحاجة إلى ذلك، فانظر أقل الأشياء في جسمه لو عدمها وظهرت به حكة لكان أضعف الخلق وأعجزهم عن دفع ما يؤلمه، وجلب ما ينتفع به في ذلك ولم يقم له غير الظفر مقامه في حك جسده، لأنه مخلوق لذلك ولغيره فهو لا صلب كصلابة العظام ولا رخو كرخاوة الجلد يطول ويخلق ويقص ويقصر لمثل ذلك، ثم جعله يهتدي به إلى الحك في حالة نومه ويقظته ويقصد المواضع إلى جهتها من جسده، ولو احتاج إلى غيره واستعان به في حكمها لم يعثر الغير على مواضع الحاجة إلا بعد طول وتعب، ثم انظر كيف مد منه الفخذين والساقين وبسط القدمين ليتمكن بذلك من السعي، وزين القدمين بالأصابع، وجعلها زينة وقوة على السعي، وزين الأصابع أيضًا بالأظافر وقوااها بها، ثم انظر كيف خلق هذا كله من نطفة مهينة، ثم خلق منها عظام جسده فجعلها أجسامًا قوية صلبة لتكون قوامٍا للبدن وعمادٍا له، وقدرها تبارك وتعالى بمقادير مختلفة وأشكال متناسبة، فمنها صغير وطويل ومستدير ومجوف ومصمت عريض ودقيق، ثم أودع في أنابيب هذه العظام المخ الرقيق مصونًا لمصلحتها وتقويتها ولما كان الإنسان محتاجًا إلى جملة جسمه، وبعض أعضائه لتردده في حاجاته لم يجعل الله سبحانه عظامه عظمًا واحدٍا بل عظامًا كثيرة، وبينها مفاصل حتى تتيسر بها الحركة فقدر شكل كل واحد منها على قدر وفق الحركة المطلوبة بها.
ثم وصل مفاصلها وربط بعضها ببعض بأوتاد أثبتها بأحد طرفي العظم وألصق الطرف الآخر كالرباط، ثم خلق أحد طرفي العظم زوائد خارجية منها، ومن الآخرة
(ص20)
نقراً غائضة فيها توافق لأشكال الزوائد لتدخل فيها وتنطبق ، فصار الإنسان إذا أراد أن يحرك شيئاً من جسده دون غيره لم يمتنع عليه ، فلولا حكمة خلق المفاصل لتعذر عليه ذلك ، ثم انظر كيف جعل خلق الرأس مركباً من خمسة وخمسين عظماً مختلفة الأشكال والصور ، وألف بعضها إلى بعض بحيث استوت كرة الرأس كما ترى ، فمنها ستة تختص بالقحف ، وأربعة وعشرون للحى الأعلى ، واثنان للحى الأسفل ، والبقية من الأسنان بعضها عريض يصلح للطحن ، وبعضها حاد يصلح للقطع ، ثم جعل الرقبة مركز الرأس ، فركبها من سبع خرزات مجوفات مستديرات وزيادات ونقصان لينطبق بعضها على بعض ويطول ذكر الحكمة فيها ، ثم ركب الرقبة على الظهر من أسفل الرقبة إلى منتهى عظم العجز من أربعة وعشرين خرزة وعظم العجز ثلاثة أخرى مختلفة ووصل به من أسفله عظم العصعص وهو مؤلف من ثلاثة أخرى ، ثم وصل عظام الظهر بعظام الصدر وعظام الكتف وعظام اليدين وعظام العانة وعظام العجز وعظام الفخذين والساقين وأصابع الرجلين ، فجملة عدد العظام فى بدن الإنسان مائتا عظم وثمانية وأربعون عظماً سوى العظام الصغيرة التى حشى بها خلل المفاصل ، فانظر كيف خلق البارى سبحانه وتعالى ذلك كله من نطفة رقيقة سخيفة ، والمقصود من ذكر أعدادها تعظيم مدبرها وخالقها وكيف خلقها وخالف بين أشكالها وخصها بهذا القدر المخصوص بحيث لو ازداد فيها واحد كان وبالاً ، واحتاج الإنسان إلى قلعه ولو نقص منها واحد لاحتاج الإنسان إلى جبره فجعل سبحانه وتعالى فى هذا الخلق عبرة لأولى الأبصار وآيات بينات على عظمته وجلاله بتقديرها وتصويرها .
ثم انظر كيف خلق سبحانه آلات لتحريك العظام وهى العضلات . فخلق فى بدن الإنسان خمسمائة وتسعة وعشرين عضلة ، والعضلة مركبة من لحم وعصب ورباط وأغشية وهى مختلفة المقادير والأشكال بحسب أختلاف مواضعها وحاجتها . فأربعة وعشرون منها لحركة العين وأجفانها بحيث لو نقصت منها واحدة اختل أمر العين ، وهكذا لكل عضو عضلات بعدد يخصه وقدر يوافقه ، وأما أمر الأعصاب والعروق والآوردة والشرايين ومنابتها وسعتها ، فأعجب من هذا وشرحه يطول ، ثم عجائب ما فيه من المعانى والصفات التى لا تدرك بالحواس أعظم ، ثم انظر إلى ما شرف به وخص فى خلقه بأنه خلق بتنصب قائماً ويستوى جالساً ويستقبل الأمور بيديه وجوارحه ويمكنه العلاج والعمل ولم يخلق مكبوباً على وجهه كعدة من الحيوانات ، إذ لو كان كذلك لما استطاع هذه الأعمال ، ثم انظر من حيث الجملة إلى ظاهر الإنسان وباطنه فتجده مصنوعاً صنعة بحكمة تقضى منها العجب، وقد جعل سبحانه أعضاءه تامة بالغذاء ، والعذاء منوال عليها لكنه تبارك وتعالى قدرها بمقاديرلا يتعداها ن بل يقف عندها ولا يزيد عليها ، فإنها لو تزايدت بتوالى الغذاء
(ص21)
عليها لعظمت أبدان بنى آدم وثقلت عن الحركة ، وعطلت عن الصناعات اللطيفة ولا تناولت من الغذاء ما يناسبها ، ومن اللباس كذلك ، ومن المساكن مثل ذلك ، وكان من بليغ الحكمة وحسن التدبير وقوفها على هذا الحد المقدر رحمة من الله ورفقاً بخلقه ، فإذا وجدت هذا كله صنعه الله تعالى من قطرة ماء ، فما ظنك بصنعته فى ملكوت السموات والأرض وشمسها وقمرها وكواكبها وما حكمته فى أقدارها وأشكالها وأعدادها وأوضاعها واجتماع بعضها ، وافتراق بعضها ، واختلاف صورها ، وتفاوت مشارقها ومغاربها . فلا تظن أن ذرة فى السموات والأرض وسائر علم الله ينفك عن حكم ، بل ذلك مشتمل على عجائب وحكم لا يحط بجميعها إلا الله سبحانه وتعالى . ألم تسمع قوله سبحانه وتعالى : (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا ) [ النازعات :27 ] . إلى أخر ما نبه به ، وتأمل لو اجتمع الإنس والجن على أن يخلقوا للنطفة سمعاً وبصراً وحياة لم يقدروا على ذلك ، فانظر كيف خلقها سبحانه فى الأرحام ، وشكلها فأحسن تشكيلها ، وقدرها فأحسن تقديرها ، وصورها فأحسن تصويرها ، وقسم أجزاءها المتشابهة إلى أجزاء مختلفة ، فأحكم العظام فى أرجائها وحسن أشكال أعضائها ، ورتب عروقها وأعصابها ودبر ظاهرها وباطنها ، وجعل فيها مجرى لغذائها ليكون ذلك سبب لبقائها مدة حياتها .
ثم كيف رتب الأعضاء الباطنة من القلب والكبد والمعدة والطحال والرئة والرحم والمثانة والأمعاء كل عضو بشكل مخصوص ومقدار مخصوص لعمل مخصوص ، فجعل المعدة لنضج الغذاء عصباً معيناً شديداً لحاجتها وبذلك يمكن تقطيعه وطحنه ، وجعل طحن الأضراس اولاً معيناً للمعدة على جودة طحنه وهضمه وجعل الكبد لإحالة الغذاء إلى الدم فيجتذب منه كل عضو من الغذاء ما يناسبه ، فغذاء العظم خلاف غذاء اللحم وغذاء العروق خلاف غذاء الأعصاب ، وغذاء الشعر خلاف غذاء غيره ، وجعل الطحال والمرارة والكلية لخدمة الكبد فالطحال لجذب السوداء ، والمرارة لجذب الصفراء ، والكلية المائية عنه والمثانة لقبول الماء عن الكلية ، ثم يخرجه فى مجرى الإحليل والعروق والكبد فى اتصال الدم منه إلى سائر أطراف البدن ، وجعل جوهرها أتقن من جوهر اللحم ليصونه ويحرصه فهى بمنزلة الظروف والأوعية ، ثم انظر كيف دبره فى الرحم ولطف به ألطافاً يطول شرحها ولا يستكمل العلم بجملتها إلا خالقها ويعجز الواصف عن وصف ما وصل إليه نظره من ذلك ، فمن ذلك جعله فيهما لا يحتاج إلى استدعاء ، ولا يحتاج المولود إلى ما يبين ذلك لا بوعظ ولا تنبيه ، بل ذلك فى الطباع إلى وقت حاجة المولود إلى الإغاثة فى غذائه ، ولولا ذلك لنفرت الأمهات عنه من شدة التعب وكلفة التربية حتى اشتد جسمه وقويت أعضاؤه الظاهرة والباطنة لهضم الغذاء ، فحينئذ أنبيت له الأسنان عند الحاجة إليها لا قبل ذلك ولا بعده .
(ص22)
ثم انظر كيف خلق الله فيه التمييز والعقل على التدريج إلى حيت كماله وبلوغه ، وانظر وفكر فى سر كونه يولد جاهلاً غير ذى عقل وفهم ، فإنه لو كان ولداً عاقلاً فيهما لأنكر الوجود عند خروجه إليه حتى يبقه حيران تائه العقل . إذ رأى ما لا يعرف ، وورد عليه ما لم يره ولم يعهد مثله ، ثم كان يجد غضاضة أن يرى نفسه محمولاً و موضوعاً معصباً بالخرق ومسجى فى المهد مع كونه لا يستغنى عن هذا كله لرقة بدنه ورطوبته حين يولد ، ثم كان لا يوجد له من الرقة له والحلاوة والمحبة فى القلوب مايوجد للصغير لكثرة اعتراضه بعقله واختياره لنفسه ، فتبين أن أزدياد العقل والفهم فيه على التدريج أصلح به .
أفلا يرى كيف أقام كل شئ من الخلقة على غاية الحكمة وطريق الصواب وأعلمه تقلب الخطأ فى دقيقه وجليله ، ثم انظر فيما إذا اشتد خلق فيه طريقاً وسبباً للتناسل وخلق فى وجهه شعراً ليميزه عن شبه الصبيان والنسوان ويجمله ويستر به غضون وجهه عند شيخوخته ، وإن كانت أنثى أبقى وجهها نقياً من الشعر لتبقى لها بهجة ونضارة تحرك الرجال لما فى ذلك من بقاء النسل.
فكر الان فيما ذكرناه ودبره سبحانه فى هذه الأحوال المختلفة ، هل ترى مثل هذا يمكن أن يكون مهلاً ، أرأيت لو لم يجر له الدم غذاء وهو فى الرحم ألم يكن يذوى ويهلك ويجف كما يجف النبات إذا انقطع عنه الماء . ولو لم يزعجه المخاض عند استكماله ، ألم يكن يهلك ببقائه فى الرحم هو وأمه ؟ ولو لم يوافه اللبن عند ولادته ، ألم يكن يموت جوعاً وعطشاً أو يغذى بما لا يوافق ولا يصلح عليه بدنه ؟ ولو لم يخلق له الأسنان فى وقتها ، ألم يكن يمتنع عليه مضغ الطعام وازدراده ويقيم على الرضاع لاويشتد جسمه ؟ ولو لم يخرج شعر الوجه لبقى فى هيئة النساء والصبيان فلا ترى له هيبة لا جلالة ولا وقاراً ، ومن ذا الذى يرصده حتى يوفيه بكل هذه المأرب فى وقتها إلا الذى أنشأه بعد أن لم يكن شيئاً مذكوراً وتفضل عليه ومنَّ عليه بكل هذه النعم.
فكر فى شهوة الجماع الداعية لإحيائه ، والآلة الموصلة إلى الرحم النطفة والحركة الموجبة لاستخراج النطفة وما فى ذلك من التدبير المحكم ، ثم فكر فى جملة أعضاء البدن وتهيئة كل عضو منها للأرب الذى أريد منها فالعينان للاهنداء بالنظر ، واليدان للعلاج والحذف والدفع والرجلان للسعى ، والمعدة لهضم الطعام ، والكبد للتخليص والتمييز ، والفم للكلام ودخول الغذاء ، والمنافذ لدفع الفضلات ، وإذا تأملت كذلك مع سائر ما فى الإنسان وجدته قد وضع على غاية الحكمة والصواب فكر فى وصول الغذاء إلى المعدة حتى ينضجه ويبعث صفوه إلى الكبد فى عروق دقاق قد جعلت كالمصفاة للغذاء ، لكيلا يصل إلى الكبد منه شئ غليظ خشن فينكؤها فإنها خلقت دقيقة لا تحمل الغث
(ص23)
فتقلبه بإذن الله دوماً وتنفذ إلى سائر البدن فى مجار مهيأة لذلك فيصل إلى كل شئ من ذلك ما يناسبه من يابس ورخو وغير ذلك : (فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) [غافر:64].
ثم ينفذ ما يكون من خبث وفضول إلى معابض وأعضاء أعدت لذلك كما ذكرنا من قبل هذا ، فكونها كالأوعية تحمل هذه الفضلات لكيلا تنتشر فى البدن فتقسمه .
ثم انظر هل تجد فى خلق البدن شيئاً لا معنى له . هل خلق البصر إلا ليدرك الأشياء والألوان ، فول كانت الألوان ولم يكن بصر يدركها ، هل كان فى الألوان منفعة ؟ وهل خلق السمع إلا ليدرك الأصوات ؟ فلو كانت الأصوات ولم يكن سمع يدركها لم تكن فى الأصوات منفعة ، وكذلك سائر الحواس ، فكر فى أشياء جعلت بين الحواس والمحسوسات لا يتم الحس إلا بها : منها الضياء والهواء ، فول لم يكن ضياء تظهر فيه المبصرات لم يدركها البصر ،ولو لم يكن هواء يؤدى الصوت إلى السمع لم يكن السمع يردك الصوت.
فكَّر فيمن عدم البصر والسمع وما يناله من الخلل فإنه لا ينظر أن يضع قدمه ولا يدرى ما بين يديه ولا يفرق بين الألوان ولا يدرى بهجوم آفة أو عدو ولا سبيل له أن يتعلم أكثر الصناعات ، وأما من عدم السمع فإنه من يفقد روح المخاطبة والمحاضرة ويعدم لذة الأصوات المستحسنة والألحان المطربة وتعظم المؤونة على من يخاطبه حتى ينصرم منه ولا يسمع شيئاً من أخبار الناس وأحاديثهم حتى يصير كالغائب وهو شاهد ، وكالميت وهو حى ، وأما من عدم العقل فهو أشر من البهائم ، فانظر كيف صارت هذه الجوارح وهذه الأوصاف التى بها صلاح الإنسان محصلة ومبلغة لجميع مآربه ومتممه لجميع مقاصده ، وإذا فقد شيئاً اختل أمره وعظم مصابه ، ومن بلى بفقد شئ منها فهو تأديب وموعظة وتعريف بقدر نعمة الله فى حقه وحق أمثاله ولينال بصبره على ذلك حظً فى الآخرة ، فانظر إلى رحمة الله كيف توجد فى العطاء والمنع.
ثم فكر فى الأعضاء التى خلقت أفراداً وأزواجاً ، وما فى ذلك من الحكمة والصواب ، فالرأس مما خلق فرداً، وإن كثيراً من الحواس قد حواها رأس واحد ولو زاد عليه شئ كان ثقيلاً لا يحتاج إليه، فإن كان قسمين فإن تكلم واحدهما بقى الآخر معطلاً لا حاجة إليه، وإن تلكم منهماً جميعاً بكلام واحد كان أحدهما فضلة لا يحتاج إليها، وإن تكلم من أحدهما بخلاف ما يتكلم به من الآخر لم يدر السامع مراده من ذلك ، وأما الذى يأخذ به السامع هو ما كان واضحاً ، واليدان خلقتا أزواجاً ولم يكن للإنسان خير فى أن يكون يلم بيد واحدة لاختلال ما يعالجه من الأمور، فإنك ترى من شلت إحدى يديه ما يكون عنده من نقص، وأن يكلف بشئ لم يحكمه ولا يبلغ ما يبلغ صاحب اليدين وحكمة الرجلين ظاهرة.
(ص24)
فكر فى تهيئة ألات الصوت ، فالحنجرة كالأنبوبة لخروج الصوت واللسان والشفتان والأسنان لإصاغة الحروف والفم . ألا ترى أن من سقطت أسنانه أو أكثرها كيف يحصل الخلل فى كلامه ، ثم انظر إلى ما فى االحنجرة من المنفعة لملوك النسيم منها إلى الرئة فتروح على الفؤاد بهذا النفس المتتابع ، وما فى اللسان من تقليب الطعام وإعانته على تسويغ الطعام والشراب ، وما فى الأسنان من المعونة أيضاً ثم هى كالمسند للشفتين تمسكهما وتدعهما من داخل الفم ، وبالشفتين يرتشف الشراب حتى يكون ما يدخله إلى الجوف بقصدر وبقدر ما يختاره الإنسان ، ثم هما على الفم كالباب.
فقد تبين أن كل عضو من هذه الأعضاء ينصرف إلى وجوه ومأرب وضروب من المصالح إن زاد أفسد وإن نقص أفسد ، فذلك تقدير العزيز العليم. فكر فى الدماغ إذا كشف عنه فإنك تجده قد لف بعضه فوق بعض ليصونه من الأعراض وأطبقت عليه الجمجمة والشعر ستر لها وجمال ولتبعد عنها ما يؤذيها من حر وبرد وغير ذلك فحصن سبحانه وتعالى الدماغ هذا التحصين لعلمه بأنه معهم وأنه مستحق لذلك لكونه ينبوع الحس، ثم انظر كيف غيب الفؤاد فى جوف الصدر وكساه المدرعة التى هى غشاؤه وأتقنها وحصنه بالجوانح وما عليها من اللحم والعصب لشرفه وأن ذلك الائق به ، ثم انظر كيف جعل فى الحلق منفذين : أحدهما الصوت وهو الحلقوم الواصل إلى الرئة والآخر إلى الغذاء وهو المرئ الواصل إلى المعدة ، وجعل على الحلقوم طبقاً يمنع الطعام أن يصل إليه ، ثم جعل الرئة مروحة الفؤاد لا تفتر ولا تخل تأخد وترد بغير كلفة لئلا تنحصر الحرارة فى القلب فتؤدى إلى التلف ، ثم ملآ الجو هواءاً لهذه المصلحة ولغيرها ، ثم انظر كيف جعل منافذ البول والغائط أسراحا يضبطها لكى لا يجرى جرياناً دائماً فيفسد على الإنسان عيشته ، ثم انظر كيف جعل لحم الفخذين كثيراً كثيفاً ليقى الإنسان من ألم الجلوس على الأرض كما يألم من الجلوس من نحل جسمه وقل لحمه إذا لم يكن بينه وبين الأرض حائل.
انظر لو كان ذكر الرجل مسترخياً ابداً كيف يصل الماء إلى موضع الخلق ولو كان منعطفاً أبداً كيف يكون حاله فى تصرفاته وهو كذلك ؟ بل جعله مستوراً كأنه لم تخلق له شهوة ، ثم انظر أليس أنه من حسن التدبير فى البناء أن يكون الخلاء فى أستر موضع فى الدار ، فلهذا اتخذ المنفذ المهيأ لقضاء حاجة الإنسان فى أستر موضع فى جسده مغيب فيه تلتقى عليه فخداه بما عليها من اللحم فتواريه به ويخفى ذكره ، وذلك مخصوص بالإنسان لشرفه ، ثم انظر فى خلق الشعر والظفار لما كانا يطولان ، وفى تقصيرهما مصلحة جعلا عديمى الحس حتى لا ينال الإنسان ألم عند التزيين بقصهما، ولولا هذه الحكمة لكان بين امرين : إما أن يدعهما على حالهما فيتشوه خلقه ، أو يزيل ذلك فيتألم بإزالته ، ثم تفكر فى
(ص25)
الشعور لو نبتت فى العين لأعمت البصر، أو فى الفم لنغصت الأكل والشرب، أو فى راحة الكف لنفدت لذة اللمس وبعض الأعمال ، أو فى الفرج لكدرت لذة الجماع مع قبول هذه المواضع لنباتها فيها . فسبحان المدبر المنعم بهذه النعم .
فانظر كيف تصد بهذا الخلق طريق الصواب وتجنب الخطأ والضرر ثم فيما جبل عليهالإنسان من الاحتياج إلى المطعم والنوم والجماع وما فى ذلك من التدبير المحكم . فقد جعل فى طبعه محركاً يقتضيه ويستحثه، فالجوع والعطش يقتضى طلب الطعام الذى به حياته ، وكذلك الشراب الذى به قوامه والنوم فيه راحة البدن وعموم القوى ، والشبق يقتضى الجماع الذى به دوام النسل وبقاؤه ، فلو كان الإنسان إنما يتناول الطعام والشراب لمعرفته بالحاجة إليه ولم يجد فى طباعه ما يلجئه إليه لاشتغل بأسباب ضرورته فينحل قواه ويهلك كما أنه قد يحتاج إلى دواء يكرهه ،وفيه صلاحه وليس فى جبلته داعية له فيدافع عن تناوله فيمرض أو يموت فكذلك لو كان يفعل النوم ويدخله على جسمه فاختياره لتشاغل عنه ببعض مهماته فيهلك جسمه بالتعب والنصب . وكذلك لو كان إقدامه على الجماع إنما هو لرغبة حصول الولد لانقطع النسل لما يعارضه من الأسباب المشغلة . فانظر كيف جعل فيه بالطبع ما يضطره إلى حصول هذه الفوائد . انظر كيف رتبت هذه القوى بهذا الترتيب المحكم العجيب. فصار البدن بما فيه بمنزلة دار لملك فيها حشم وقوم موكلون بالدار فواحد لإمضاء حوائج الحشم وإيراد ماء لهم ، وأخر لقبض ما يرد خزنه إلى أن يعالج ويهيأ ، وأخر لإصلاح ذلك وتهيئته وإصلاحه أخص مما قبل ، وأخر لكسح ما فى الدار من الأقذار وإخراجه ، فالملك فى هذا المثل هو الخالق العليم سبحانه ، والدار هى البدن ، والحشم هى الأعضاء ، والقوم فى هذه القوى الأربع التى هى النفس وموقعها من الإنسان بمعنى الفكر ولاوهم والعقل والحفظ والغضب وغير ذلك ، أرأيت لو نقص من الأنسان من هذه الصفات الحفظ وحده كيف يكون حاله، وكان لا يحفظ ما له وما عليه وما أصدر وما أورد وما أعطى وما أخذ وما رأى وما سمع وما قال وما قيل له ولم يذكر من أحسن إليه ولا من أساء له ولا من نفعه ممن ضره . وكان لا يهتدى لطريق ولو سلكه ، ولا لعلم ولو درسه ، ولا ينتفع بتحريره ، ولا يستطيع أن يعتبر بمن مضى ، فانظر إلى هذه النعم كيف موقع الواحدة منها، فكيف جميعها وأعجب من نعمة الحفظ نعمة النسيان. فلولا النسيان ما سلا الإنسان عن مصيبة فكان لا ينقص له حسرة ولا يذهب عنه حقد ولا يستمتع بشئ من لذات الشهوات الدنيوية مع تذكر الآفات والفجائع المغضبات ، وكان لا يمكن أن يتوقع غفلة من ظالم ولا فترة ولا ذهولاً من حاسد أو قاصد مضرة فانظر كيف جعل الله فيه سبحانه الحفظ والنسيان وهما متضادان ، وجعل للإنسان فى كل منهما ضروباً من المصالح .
(ص26)
ثم انظر إلى ما خصه دون غيره من الحيوان من الحياء ، فلولاه لم تقل العثرات ولم تقض الحاجات ولم يُقْر الضيف ولم يثمر الجميل فيفعل ولا يتجافى عن القبيح فيترك حتى أن كثيراً من الأمور الواجبة، إنما تفعل لسبب الحياء من الناس ، فترد الأمانات وتراعى حقوق الوالدين وغيرهما ، ويعف عن فعل الفواحش إلى غير ذلك من أجل الحياء ، فانظر ما أعظم موقع هذه النعمة فى هذه الصفة ، وانظر ما أنعم الله به من النطق الذى يميز به عنه البهائم فيعبر بما فى ضميره ويفهم من غيره ما فى نفسه ، وكذلك نعمة الكتابة التى تفيد أخبار الماضين للباقين ، وأخبار الباقين للأتين ، وبها تخلد فى الكتب والعلوم والآدب ، ويعلم الناس ذكر ما يجرى بينهم فى الحساب والمعاملات ، ولولا الكتابة لانقطعت أخبار بعض الأزمنة عن بعض ، ودرست العلوم وضاعت الفضائل والأداب وعظم الخلل الداخل على الناس فى أمورهم بسبب عدمها.
فإن قلت : إن الكلام والكتابة مكتسبة للإنسان وليست بأمر طبيعى ، ولذلك تختلف الخطوط بين عربى وهندى ورومى إلى غير ذلك وكذلك الكلام هو شئ يصطلح عليه ، فلذلك اختلف .
قلنا : ما به تحصل الكتابة من اليد والأصابع والكف المهيأ للكتابة والذهن والفكر الذى يهتدى به ليس بعفل الإنسان ، ولولا ذلك لم يكن ليتب أبداً ، فسبحان المنعم عليه بذلك ، وكذلك لولا اللسان والنطق الطبيعى فيه والذهن المركب فيه لم يكن ليتكلم أبداً ، فسبحان المنعم عليه بذلك .
ثم انظر إلى حكمة الغضب المخلوق فيه يدفع عن نفسه به ما يؤذيها، وما خلق فيه من الحسد فبه يسعى فى جلب ما ينتفع به غير أنه مأمور بالأعتدال فى هذين الأمرين ، فإن جاوز الحد فيهما التحق برتبة الشياطين ، بل يجب أن يقتصر فى حالة الغضب على دفع الضرر ، وفى الحسد على البغضة وهى إرادة ما ينفعه من غير مضرة تلحق غيره ، ثم انظر ما أعطى وما منع مما فيه أيضاً صلاحه ، فمن ذلك الأمل فسببه تعمر الدنيا ويدوم النسل ليرث الضعفاء عن الأقوياء منافع العمارة ، فإن الخلق أول ما يخلق ضعيف فلولا أه يجد أثار قوم أحلوا وعمروا لم يكن له محل يأوى إليه ولا أله ينتفع بها ، فكان الأمل سبباً لعمل الحاضرين ما يقع به انتفاع الأتين، وهكذا يتوارث إلى يوم الدين ، ومنع الإنسان من علم أجله ومبلغ عمره لمصلحة ، فإنه لو علم مدتة حياته وكانت قصيرة لم تهن الحياة ولم ينشرح لوجود نسل ولا لعمارة أرض ولا لغير ذلك ، ولوعلمها وكانت طويلة لانهملك فى الشهوات وتعدى الحدود واقتحم المهلكات ، ولعجز الواعظ عن إيقافه وزجره عما يؤديه إلى إتلافه فكان فى جهله بمدة عمره مصلحة حصول الخوف بتوقع هجوم الموت ، ومبادرة صالح الأعمال قبل الفوات.
(ص27)
ثم انظر إلى ما ينتفع به مما فيه مصالحه وملاذه من أصناف الأطعمة على اختلاف طعومها ، وأصناف الفواكه مع اختلاف ألوانها وبهجتها ، وأصناف المراكب ليركبها ويحصل منافعها وطيور يتلذذ بسماعها ، ونقود وجواهر يقتنيها ويصل بها إلى أغراضه ويجدها فى مهماته ، وعقاقير يستعملها لحفظ صحته ، وبهائم لمأكله ولغير ذلك من ُأموره من حرث وحمل وغير ذلك وأزهار وغيرها من العطريات يتنعم بروائحها وينتفع بها ، وأصناف من الملابس على اختلاف أجناسها وكل ذلك ثمرة ما خلق فيه من العقل والفهم ، فانظر ماذا ركب الله فيه من العجائب . ومن الحكمة البالغة اختلاف العباد فى تملك ما ينتفع به بنو أدم ليتميز منهم الفقير من الغنى ، فيكون ذلك سبباً لعمارة هذه الدار ويشتغل الناس بسبب ذلك عما يضرهم فى غالب الأحوال. فمثالهم فيما اشتغلوا به مثال الصبى فإنه يشتغل لنقص عقله فيما يضر به نفسه ولا يتفرغ فيكون فراغه وبالاً عليه ، وكم عسى أن يعد العاد من الحكم واللطائف التى يقصد بها قوام العالم وعبادته إلى الأجل المعلوم وهى مما لا تدخل تحت حد ولا يحصرها عد ، ولا يعلم منتهى حقائقها وإحصاء جملتها إلا الحكيم العليم الذى وسعت رحمته وعلمه كل شئ وأحصى كل شئ عدداً .
خاتمة لهذا الباب
اعلم أن البارى سبحانه وتعالى شرف هذا الآدمى وكرمه ، فقال سبحانه : (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) [الإسراء : 70] .
فكان أعظم ما شرف به وكرمه العقل الذى تنبه به على البهجة وألحقه بسببه بعالم الملائكة ، حتى تأهل به لمعرفة بارئه ومبدعه بالنظر فى مخلوقاته واستدلالاً له على معرفة صفاته بما أودعه فى نفسه من حكمة وأمانة ، قال الله العظيم : (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) [ الذاريات : 21 ].
فكان نظره فى نفسه ، وفيما أودع البارى سبحانه في من العقل الذى يقطع بوجوده فيه ويعجز عن وصفه من أعظم الدلالات عنده على وجود بارئه ومدبره وخالقه ومصوره ، فإنه ينظر فى العقل كيف فى التدبير وفنون العلم ومستمر المعرفة وبصائر الحكمة والتمييز بين النفع والضرر ،وهو مع القطع بوجوده لا يرى له شخصاً ولا يسمع له حساً ولا يحس له مجلساً ولا يشم له ريحاً ولا يدرك له صورة ولا طعماً ، وهو مع ذلك آمر ومطاع زيادة وراج ومفكر ومشاهد الغيوب ومتوهم للأمور اتسع له ماضاق عن الأبصار ووسع له ما ضاقت عنه الأوعية يؤمن بما غيبته حجب الله سبحانه مما بين سمواته وما فوقها وأرضه وما
(ص28)
تحتها، حتى كأنه شاهد أبين من رأى العين فهو موضع الحكمة ومعدن العلم كما ازداد علماً ازداد سعة وقوة يأمر الجوارح بالتحرك فلا يكاد أن يميز بين الهمة بالحركة ، وبين التحرك بسرعة الطاعة أيهما أسبق. وإن كانت الهمة قبل وهو مع تدبيره وعلمه وحكمته عاجز عن معرفة نفسه إذ لا يمكنه أن يصف نفسه بنفسه بصفة وهيئه أكثر من الإقرار بأنه مسلم للذى وصفه للعلم به ، ومقر بالجهل بنفسه وهو مع جهله بنفسه عالم حكيم يميز بين لطائف التدبير ، ويفرق بين دقائق الصنع ، وتجرى الأمور على اختلافها، فدل جهله بنفسه وعلمه بما يدبرويميز أنه مركب مصنوع مصور مدبر مقهور، لأنه مع حكمته واتقاد بصيرته عاجز مهين يريد أن يذكر الشئ فينساه ويريد أن ينساه ليذكره ، ويريد أن يسر ليحزن ، ويريد أن يغفل فيذكر، ويريد أن يتنبه ويتيقظ فيسهو ويغفل دلالة على أنه مغلوب مقهور وهو مع ما علم جاهل بحقائق ما علم ، ومع ما دبر لا يدرى كم مدى مبلغ صوته ولا كيف خروجه ولا كيف اتساق حروف كلامه ، ولا كم مدى مبلغ نظره ، ولا كيف ركب نوره ولا كيف أدرك الأشخاص ، ولا كم قدر قوته ولا كيف تركبت قدرته وهمته ؟ فاستدل بعلمه وجسده عن حقيقة ما علم أنه مصنوع بصنعة متقنة وحكمة بالغة تدل على الصانع الخالق المريد العليم عز وجل ، ثم إنه خلق فى الإنسان الهوى موافقاً لطباعه فإنه استعمل نور العقل فيما أمر به ورد مورد السلامة وفاز غداً بدار الكرامة ، وإن استعمله فى أغراض نفسه وهواها حجب عن معرفة أمور لا يدركها غيره مع ما هو متوقع له فى الدار الأخرة من الثواب والحجاب والعقاب ،وهو الأله له فى عمل الصنائع وتقديرها على نحو ماقدرها ودبرها فى ذهنه وتخيله واستنباط ما يستنبط بدقيق الفكر ومعرفة مكارم الأخلاق الموجودة فى كل أمة زمان ، واستحسان ما يحسن عن عوائد العقلاء والفضلاء وتقبيح ما يقبح عندهم بحكم الاعتياد، فانظر ما شرف هذا الإنسان أن خلق فيه ما يفيده هذه المعارف ، فإن الأوانى تشرف بشرف ما يوضع فيها، ولما كانت قلوب العباد فى محل للمعرفة بالله سبحانه وتعالى شرفت بذلك ، ولما سبق فى علم البارى سبحانه وإرادته وحكمته بمصير الخلق إلى دار غير هذه الدار ولم يجعل فى قوة عقولهم ما يطلعون به على أحكام تلك الدار ، بل كمل لهم سبحانه هذا النور الذى وهبهم إياه بنور الرسالة إليهم ، فأرسل الأنبياء صلوات الله عليهم مبشرين لأهل طاعته ومنذرين لأهل معصيته ، فمدهم بالوحى وهيأهم لقبوله وتلقيه ، فكانت أنورا ما جاء الوحى من عند الله بالنسبة إلى نور العقل كالشمس بالإضافة إلى نور النجم ، فدلوا العباد على مصالح دنياهم فيما لا تستقل بإدراكه عقولهم وأرشدوهم إلى مصالح أخراهم التى لا سبيل للعباد أن يعرفوها إلا بواسطتهم ، وأظهر لهم سبحانه من الدلائل على صدق ما جاءوا به ما أوجب الإذعان والانقياد لصدق أخبارهم ، فتمت بذلك
(ص29)
نعمة الله على عباده ، وظهرت كرامته وثبت حجته عليهم ، فانظر ما أشرف الآدمى ونسله والذين ظهرت منهم هؤلاء الفضلاء الذين هم قابلون لهذه الزيادات الفاضلة ، ثم تضافرت أنواع الشرائع التى هى كالشمس، وأنوار العقول التى هى كالنجم ، فتمت سعادة من سبق له من الله الحسنى وشقاوة من كذب ولم يرد إلا الحياة الدنيا ، ثم إن الله تبارك وتعالى منَّ على الإنسان بأن خصه برؤيا يراها فى منامه أو فى عينه كشبه المنام يمثل له فيها بأمثلة معهودة من جنس ما يعرفه وهى مبشرة أو منذرة له لما يتوقعه بين يديه ، كل ذلك مواهب وكرامات من وجود الله سبحانه ، وجعل الله استقامته على الطاعة فى قلبه وجوارحه سبباً لصدقها فى غالب الآمرليتعظ أو يقدم على الأمور أو يحجم عنها، وهى الأمور التى انفرد الله بعلم العاقبة فيها وأطلع على بعض الأمور منها من شاء.
باب فى حكمة الطير
قال الله سبحانه وتعالى : (أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ ) [النحل : 79 ] . اعلم رحمك الله : أن الله تعالى خلق الطير وأحكمه حكمة تقتضى الخفة للطيران ولم يخلق فيه ما يثقله ، وخلق فيه ما يحتاج إليه وما فيه قوامه وصرف غذائه ، فقسم لكل عضو من غذائه ما هو لائق به ، فخلق للطيران الرجلين دون اليدين لضرورة مشيه وتنقله وإعانة له فى ارتفاعه عن الأرض وقت طيرانه واسعة الأسفل ليثبت فى موطن على الأرض وهى خف فيه أو بعض أصابع مخلوقة فى جلد رقيق صلب من نسبة جلد ساقيه ، وجعل جلد ساقيه غليظاً متقناً جداً ليستغنى به عن الريش فى الحر والبرد، وكان من الحكمة خلقه على هذه الصفة لأنه فى رعيه ، وطلب قوته لا يستغنى عن مواضع فيها الطين والماء فول كسيت ساقاه بريش لتضرر بباله وتلويثه فأغناه سبحانه عن الريش فى موضع لا يليق به حتى يكون مخلصاً للطيران ، وما خلق من الطير ذا أرجل طوال جعلت رقبته طويلة لينال غذاءه من غير حرج بها إذ لو طالت رجلاه وقصر عنقه لم يمكنه الرعى لا فى البرارى ولا فى البحار حتى ينكب على صدره ودائره ملفوفاً مريباً على عظم كهيئة نصف دائرة حتى يخرق فى الهواء بغير كلفة وكذلك رءوس اجنحته مدورة إعانة على الطيران وجعل لكل جنس من الطير منقاراً يناسب رعيه ويصلح لما يتغذى به من تقطيع ولقط وحفر وغير ذلك ، فمنه مخلب للتقطيع خص به الكواسر ، وما قوته اللحم ، ومنه عرض مشرشر جوانبه تنطبق على ما يلتقطه انطباقاً
ص (30)
محكمًا، و منه معتدل اللقط و آكل الخضر، و منه طويل المنقار للحصر و جعله صلبًا شديدا شبه العظم و فيه ليونة ما هي في العظم لكثرة الحاجة إلى استعماله و هو مقام الأسنان في غير الطير من الحيوان، و قوى سبحانه أصل الريش، و جعله قصبًا منسوبًا فيما يناسبه من الجلد الصلب في الأجنحة لأجل كثرة الطيران، و لأن حركة الطيران قوية فهو محتاج إلى الإتقان لأجل الريش، و جعل ريشه وقاية مما يضره من حر أو برد و معونة متخللة الهواء للطيران و خص الأجنحة بأقوى الريش و انبته و اتقنه لكثرة دعاء الحاجة إليه، و جعل في سائر بدنه ريشًا غيره كسوة ووقاية و جمالًا له و ثبت أصل جميعه لأنه جبيرته و جمله، و جعل في ريشه من الحكمة أن البلل لا يفسده و الأدران لا توسخه. فإن أصابه ماء كان أيسر انتفاض يطرد عنه بلله فيعود إلى خفته ، و جعل له منفذًا واحدًا للولادة و خروج فضلاته لأجل خفته، و خلق ريش ذنبه معونة له على استقامته في طيرانه، فلولاه لما مالت به الأجنحة في حال الطيران يمينًا و شمالًا. فكان له بمنزلة رجل السفينة الذي يعدل بها سيرها و خلق في طباعه الحذر وقاية لسلامته.
و لما كان طعامه يبتلعه بلعًا بلا مضغ جعل لبعضه منقارًا صلبًا يقطع به اللحم و يقوم له مفام ما يقطع بالمدية، و صار يزدرد ما يأكله صحيحًا و أعين بفضل حرارة في جوفه تطحن الطعام طحنًا يستغنى به عن المضغ و ثقل الأسنان، و اعتبر ذلك بحب العنب و غيره فإنه يخرج من بطون الحيوان صحيحًا و ينسحق في أجواف الطير، ثم إنه خلقه يبيض و لا يلد لئلا يثقل عن الطيران، فإنه لو خلقت في جوفه حتى يكمل خلقها لثقل بها. و تعوق عن انهوض للطيران، أفلا ترى كيف دبر كل شئ من خلقه بما يليق به من الحكمة. أنظر إلى من أنزله و ألهمه الرقاد على بيضه فيحضنه مدة الحضانة، من ألهمه أن يلتقط الحب، فإذا ماع في بطنه غذى به أفراخه و هذا نوع من الطير، ثم أنظر مع هذا كيف احتمل هذه المشقة ، و ليست له رؤية و لا فكر في عاقبه، ولا له أمل يأمله في أفراخه كما يأمل الإنسان في ولده من العز و الرغد و بقاء الذكر. فهل هذا قطعًا إلا إلهام إلهي من فعل الله سبحانه.
أنظر كيف ألهم معرفة حمل الأنثى منه بالبيض، فألهموا حينئذ حمل الحشيش و توطئته في موضع التحضين و الولادة لتكون الرطوبة و التوطئة تحفظ البيض و يكون البيض محفوظًا في المهاد الذي يمهدونه و يستحسنونه في حال تحضينه.
انظر إلى الحمام كيف ألهم معرفة كمال الفرخ و انتهاء تحضينه للبيض حتى يكتشف عن الفرخ و يخرجه، و إن اتفق في البيض فساد بسبب عرق قام و تركه ، ثم انظر إلهامه بما يزق به فرخه فإنه أولا يزقه بالريح لتستعد حوصته لقبول ما يوضع فيها. ثم بعد ذلك يزقه من أول هضم، ثم إذا ماع الغذاء في حوصلته يزقه به حتى يدرجه يفعل مرارا حتى يولى
ص (31)
حوصلته فإنه لو أرسله إليه حبًا صحيحًا لعجز عن هضمه لضعف جسده ، فانظر إن كان هذا من فعل الطير و حكمته، ثم أنظر عند خروج الفرخ من البيضة كيف يسنده إلى جنبه لئلا يفقد الحرارة دفعة واحدة فيضر ذلك به ، و من الطير مما يخلق على هيئة أخرى لحكمة أخرى و لتعلم أن قدرة الله لا تنحصر في نوع واحد، بل كل حال له حكم يقوم بمصلحة ذلك الشئ، و ذلك أن الدجاج ما فيهم أهلية الزق ، بل جعلت أفراخهم يلتقطون غذاءهم عند خروجهم من البيضة، ثم انظر في الحمام الذكر و الأنثى كيف يتداولان على التسخين خوف أن يفسد بيضهم فيعقب هذا صاحبه كأن لهم علمًا بأن عدم هذا التدبير يفسد به بيضهم، ثم أنظر إلى خلق البيضة و ما فيها من الحكم لله ففيها المح الأصفر الحابر و الماء الأبيض الرقيق فبعضه لينشأمنه جسده. و بعضه يغتذى به إلى أن تنشق عنه، و ما في ذلك من التدبير المحكم العجيب، و كيف جعل معه غذاءه في بيضة مغلقة تتنقى به إلى حين كماله فيها و خروجه منها ، ثم انظر في حوصلة الطائر وما في حلقها من التدبير فإن مسلك طعامه إلى القانص ضيق لا ينفذ إليه إلا قليلا قليلا، فلو كان لا يلتقط حبه حتى تصل الأولى إلى القانصة لطال الأمر عليه مع ما فيه من شدة الحذر و تنبه ما يؤذيه، فصار ما يحتكره احتراسًا لشدة حذره، فجعلت له الحوصلة كالمخلاة المعلقة أمامه ليؤدي فيها ما أدرك من الطعام بسرعة ثم ينفذ إلى القانصة على مهل، و فيها حكمة أخرى، فإن الطير الذي يزق أفراخه يكون رده الطعام من قرب أسهل عليه، ثم تأمل ريش الطائر فإنك تجده منسوجًا نسج الثوب من سلوك رقاق، و فيها من اليبس ما يمسك ما حولها، و من اللبن ما لا ينكسر معه و هي حاوية، قد ألف بعضها إلى بعض، كتأليف الخيط إلى الخيط و الشعر إلى الشعر، ثم تجده إذا فتحته أعني النسيج ينفتح قليلا، و لا ينشق ليدخله الريح فتثقله عن طيرانه، و تجد في وسط الريشة عمودًا غليظًا يابسًا مثبتًا قد نسج عليه كهيئة الشعر ليمسكه بصلابته، فلو عدم ذلك و عرضت الريشة دونه لفسخها ما يقابلها من الهواء و هي مع صلابته مجوفة ليخف عليه طيرانه.
انظر إلى الطائر الطويل الساقين و الحكمة في طولهما أنه يرعى أكثر رعية في صحصاح كأنه فوقه مراقب يتأمل ما يدب في الماء، فإذا رأى شيئًا من حاجة خطا خطوًا رفيقًا حتى يتناوله، فلو كان قصير الساقين لكان حين يخطو إلى الصيد يصل بطنه إلى الماء فيهزه فيذعر منه الصيد فيبعد عنه.
انظر إلى العصافير و غيرها فإنها تطلب رزقها في طول نهارها فلا هي تفقده و لا هي تجده مجموعًا محله، و هو أمر جار على سنة الله في خلقه، فإن صلاحهم في السعي في طلب الرزق، فإن الطير لو وجده مسيرًا أكب عليه و لا يقلع عنه حتى يمتلئ فيثقل عن
ص (32)
الطيران و لا يستطيع رده أعني قذفه من بطنه مثل طير الماء الكبير فإنه يأكل السمك، فإذا امتلأ منه و أزعجه مزعج تقايأه حتى يخف للطيران. و كذلك الناس أيضًا لو وجدوه بلا سعي لتفرغوا إفراغًا يوقعهم في غاية الفساد.
انظر إلى هذه الأصناف من الطير التي لا تخرج إلا ليلًا مثل البوم و الهام و الخفاش فإن عيشها يتيسر في الجو، و كالبعوض و الفراش و شبهه فإنها منبثة في هذا الجو، فجعل عيشه في موضع أقرب إليه من الأرض، و لعل نوره لا يعينه أن يلتقط من الأرض بدليل أنه لا يظهر في نور الشمس إلا مختفيا، فألهم أن يعيش في الجو من الفراش و غيره، انظر إلى الخفاش لما خلق بغير ريش كيف خلق له ما يقوم مقامه و جعل له فم و أسنان و كل ما في البهائم الأرضية من الولادة و غيرها و أقدر على الطيران. فأظهر سبحانه فيه أن قدرته على الطيران لا تقصر على ما خلق له الريش و لا تنحصر في نوع واحد، لأنه خلق هذا النوع، و خلق من السمك جنسًا يطير على وجه البحر مسافات طويلة، ثم ينزل الماء فسبحان القاضي العليم.
انظر إلى الذكر و الأنثى في الحمام كيف يتعاونان على الحضانة، فإذا احتاج أحدهما إلى قوته ناب الآخر إلى آخر وقت الحضانة، ثم ألهمهما الحرص على الحضانة فلا يطيلان الغيبة على البيض إذا خرجا لنيل القوت حتى أنهما يجتمع في أجوافهما البراز للحرص على الرقاد، فإذا اضطر إلى خروج البراز أخرجه دفعة واحدة. ثم انظر إلى حرص الذكر حين تحمل الأنثى بالبيض و يقرب أوان وضعها كيف يطردها و ينقرها، و لا يدعها تستقر خارجًا عن الوكر خشية أن تضع البيض في غير الوضع المهيأ لوضعه. انظر كيف يزق أفراخه و يعطف عليها ما دامت محتاجة إلى الزق حتى إذا كبرت و اشتدت و لقطت و استغنت عن أبويها صارت إذا تعرضت له لنيل ما اعتادت ضربها و صرفها عن نفسه و اشتغل بغيرها، ثم انظر ما خلق الله تعالى في الكواسر من شدة الطيران حتى لا يسبق له من يطلبه و من قوة المخلب وجدته في المنقار و الأظفار، فكان مخلبها مدية للقطع ، و كان مخلب أرجلها خطاطيف يعلق فيها اللحم حتى يصل ما يحتاجه من قوتها.
انظر إلى طير الماء لما جعل فيه قوة السباحة و الغطس ليأخذ من جوف الماء رزقه، فجعل سبحانه و تعالى لكل صنف من الطيور ما يليق به في تحصيل قوته.
باب في حكمة خلق البهائم
قال الله سبحانه و تعالى :{ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً } [ النحل:8].
اعلم وفقك الله و إيانا : أن الله خلق البهائم لمنافع العباد امتنانا عليهم كما نبهت على
ص (33)
ذلك هذه الآية، فخلقها الله بلحم مثبت على عظام صلبة تمسكه و عصب شديد و عروق شداد، و ضم بعضها إلى بعض و لم يجعلها لينة رخوة و لا صلبة كصلابة الحجارة، و جعل ذلك تجلدًا اشتمل على أبدانها كلها لتضبطها و تتقنها لأنها أريد منها القوة للعمل و الحمل ثم خلقها سبحانه سميعة بصيرة ليبلغ الإنسان حاجته، لأنها لو كانت عمياء صماء لم ينتفع بها الإنسان و لا وصل بها إلى شئ من مآربه، ثم منعت العقل و الذهن حكمة من الله لتذل للإنسان فلا تمتنع عليه إذا أكدها عند حاجته إلى إكدادها في الطحن و حمل الأثقال عليها إلى غير ذلك.
و قد علم الله أن بالناس حاجة إلى أعمالهم و هم لا يطيقون أعمالهم و لا يقدرون عليها، و لو كلف العباد القيام بأعمالها لأجهدهم ذلك و استفرغ قواهم فلا يبقى فيهم فضيلة لعمل شئ من الصناعات و المهن التي يخصون بعملها و خلقتهم قابلة لها و لا غنى لهم عنها و تحصيل الفضائل من العلوم و الآداب، و لكان ذلك مع إتعابه لأبدانهم يضيق عليهم معائشهم. فكان قضاؤه على هذا و تسخيرها لهم من النعم العظيمة، انظر في خلق أصناف من الحيوان و تهييئها لما فيه صلاح كل صنف منها، فبنو آدم لما قدروا أن يكونوا ذوي علاج للصناعات و اكتساب العلوم و سائر الفضائل و لا غنى لهم عن البناء و الحياكة و النجارة و غير ذلك خلقت لهم العقول و الأذهان و الفكر، و خلقت لهم الأكف ذوات الأصابع ليتمكنوا من القبض على الأشياء و محاولات الصناعات. و آكلات اللحم لما قدر أن يكون عيشها من الصيد و لا تصلح لغيره خلقت لها مخالب و سرعة نهضة و أنياب. و آكلات النبات لما قدر أن تكون غير ذات صنعة و لا صيد، خلقت لبعضها أظلاف كفتها خشونة الأرض إذا جالت في طلب المرعى و لبعضها حوافر مستديرة ذات قعر كأخمص القدمين لتنطبق على الأرض و تتهيأ للحمل و الركوب.
تأمل التدبير في خلق آكلات اللحم من الحيوان كيف خلقت ذوات أسنان حداد و أضراس شداد و أفواه واسعة و أعينت بسلاح و أدوات بذلك ما تطلبه ، فإن ذلك كله صالح للصيد، فلو كانت البهائم التي عيشها النبات ذوات مخالب و أنياب كانت قد أعطيت مالا تحتاج إليه، لأنها لا تصطاده و لا تأكل اللحوم، و لو كانت السباع ذوات أظلاف كانت قد منعت ما تحتاج إليه من السلاح الذي به يصطاد. فانظر كيف أعطى سبحانه كل واحد من أصناف الحيوان ما يشاكله و ما فيه صلاحه و حياته انظر إلى أولاد ذوات الأربع كيف تجدها تتبع الأمهات مستقلة بنفسها لا تحتاج إلى تربية و حمل كما يحتاج الآدميون، إذ لم يجعل في أمهاتها ما جعل في أمهات البشر من العقل و العلم و الرفق في أحوال التربية و القوة عليها بالفكر و الأكف و الأصابع المهيأة لذلك و لغيره، فلذلك أعطيت النهوض و الاستقلال
ص (34)
بأنفسها. و لذلك ترى فراخ بعض الطير مثل الدجاج و الدراج يدرج و يلقط عقيب خروجها من البيضة، و ما كان منها ضعيفًا لا نهوض له مثل فراخ الحمام و اليمام جعل في الأمهات عطفًا عليها، فصارت تعين الطعام في حواصلها، ثم تمجه في أفواه فراخها ولا يزال كذلك حتى ينهض و تستقل، فكل أعطى من اللطف و الحكمة بقسط. فسبحان المدبرالحكيم.
انظر إلى قوائم الحيوان كيف ينتقل أزواجًا لتتهيأ للمشي، فلو كانت أفرادًا لم تصلح لذلك، لأن المائي منها ينقل منها بعضه و يعينه على مشيه اعتماده على ما لم ينقله منها، فذو القائمتين ينقل واحدة ويعتمد على الأخرى وذو الأربع بينقل اثنين ويعتمد على اثنتين، وذلك من خلاف لأنه لو كان ينقل قائمتين من احد جانبيه، و يعتمد على قائمتين من الجانب الآخر لم يثبت على الأرض كالسرير ولو كان يرفع يديه ويتبعها برجليه لفسد مشيه، فجعل ينقل اليمنى من مقدمه على اليسرى من مؤخره، و يعتمد الآخرين من خلاف أيضًا فتثبت على الأرض و لا تسقط إذا مشى لسرعة إلتحاقهما فيما بين المشي و الاعتماد.
أما ترى الحمار يذل للحمولة و الطحن، و الفرس مردعًا منها، و البعير لا تطيقه عدة رجال لو استعصى، و ينقاد لصبي صغير، و الثور الشديد يذعن لصاحبه حتى يضع النير على عنقه ليستحرثه، و الفرس تركب و يحمل عليها السيوف و الأسنة في الحروب وقاية لراكبها، و القطيع من الغنم يرعاها صبي واحد فلو تفرقت فأخذت كل شاة منها جهة لنفورها لتعذرت رعايتها، و ربما أعجزت طالبها، و كذلك جميع الحيوان المسخر للإنسان، و ما ذلك إلا لأنها عدمت العقل و التروي. فكان ذلك سببًا لتذليلها فلم تلتو على أحد من الناس، و إن أكدها في كثير من الأحوال. و كذك السباع لو كانت ذوات عقل و روية لتواردت على الناس و أنكتهم نكاية شديدة عظيمة و لعسر زجرها و دفعها، ولا سيما إذا اشتدت حاجتها في طلب قوتها و يشتد خللها، ألا يرى إذا إحجمت عن الخلق و صارت في أماكنها خائفة تهاب مساكن الناس و تحجم عنها حتى صارت لا تظهر و لا تنبعث في طلب قوتها في غالب أحوالها إلا ليلا، فجعلها مع شدة قوتها و عظم غذائها كالخائفة من الإنس ، بل هي ممنوعة منه ، و لولا ذلك لساورتهم في منازلهم و ضيقت عليهم في مساكنهم.
ألا ترى الكلب و هو من بعض السباع كيف سخر في حراسة منزل صاحبه حتى صار يبذل نفسه و يترك نومه حتى لا يصل إلى صاحبه ما يؤذيه، ثم إنه أعان صاحبه بقوة صوته حتى يتنبه من نومه فيدفع عن نفسه و يألفه حتى يصير معه على الجوع و العطش و الهوان و الجفاء ، فطبع على هذه الخلال لمنفعة الإنسان في الحراسة و الاصطياد. و لما جعله الباري سبحانه حارسا أمده بسلاح، و هي الأنياب و الأظافر و اللهث القوي ليذعر به السارق و المريب، و ليجتنب المواضع التي يحميها.
ص (35)
ثم انظر كيف جعل ظهر الدابة سطحًا مثبتًا على قوائم أربع لتهيد الركوب و الحمولة و جعل فرجها بارزًا من ورائها ليتمكن الفحل من ضرابها، إذ لو كان أسفل باطنها كالآدمي لم يتمكن الفحل منها، ألا ترى أنه لا يستطيع أن يأتها كفاحًا كما يأتي الرجل المرأة فتأمل هذه الحكمة و التدبير ، و لما كان فرج الفيلة تحت بطنها ، فإذا كان وقت الضراب ارتفع و برز للفحل حتى يتمكن من إتيانها فلما لم يخلق في الموضع المخلةق في الأنعام و البهائم خلقت فيه هذه الصفة ليقوم الأمر الذي به دوام التناسل، و ذلك من عظيم العبر، ثم انظر كيف كسيت أجساد البهائم الشعر و الوبر ليقيها ذلك الحر و الرد و غيره من الآفات، و حملت قوائمها على الأظلاف و الحوافر ليقيها ذلك من الحفاء، و ما كان منها بغير ذلك جعت له أخفاف تقوم مقام الحافر في غيره، و لما كانت البهائم لا أذهان لها و لا أكف و لا أصابع تتهيأ للأعمال ، كفيت مؤنة ما يضر بها بأن جعلت كسوتها في خلقتها باقية عليها ما بقيت فلا تحتاج إلى استبدال بها و لا تجديد بغيرها بخلاف الآدمي ، فإنه ذو فهم و تدبير و أعضاء مهيأة لأعمال ما يقترحه و له في إشغاله بذلك صلاح و فيه حكمة، فإنه خلق على قابا؛ لفعل الخير و الشر و هو إلى فعل الشر أميل إلى فعل الخير ، فجعلت الأسباب التي يحصل بها ما هو محتاج إليه ليشتغل بها عما فيه فساده و هلاك دينه فإنه لو أعطي الكفاية في كل أحواله أهلكه الأشر و البطر، و كان من أعظم الحيوانات فسادًا في الأرض و لتصرف بعقله الذي هو مخلوق لينال به السعادة إلى ما فيه شقاوته، ثم إن الآدمي مكرم ليتخير من ضروب الملابس ما شاء ، فيلبس منها ما شاء، و يخلع منها ما شاء و يتزين بها و يتجمل و يتلذذ منها بما يشاء و يكمل بها زينته و جماله و بهائه في عين من يصحبه و يحب قربه و يطيب بذلك رائحته و ينعش نفسه، و هذا من باب النعمة عليه و الكرامة له بخلاف البهائم فإنها غنية عن هذا كله، انظر فيما ألهم الله البهائم و الوحوش في البراري، فإنها تواري أنفسها كما يواري الناس موتاهم فما أحس منها بالموت توارى بنفسه إلى موضع يحتجب فيه حتى يموت و إلا فأين جثث السباع و الوحوش و غيرها، فإنك لو طلبت منها شيئًا لم تجده و ليست قليلة فيخفى أمرها لقلتها بل لو قال قائل أنها أكثر من الإنس لم يبعد لأن الصحاري قد إمتلأت من سباع و ضباع وبقر و حمير ووعل و إبل و خنازير و ذئاب و ضروب من الهوام و الحشرات و أصناف من الطير و غير ذلك مما لا يحصى عدده، و هذه الأصناف في كل يوم يخلق منها و يموت منها ولا يرى لها رمم موجودة، و الذي أجرى الله بها عادتها أن تكون في أماكنها، فإذا أحست بالموت أتت إلى موضعها خفية فتموت فيها، فانظر هذا الأمر الذي ألهمت له هذه الأصناف في دفن جثثها بما فطرت عليه و شخص لبني آدم بالفكر و التروي.
ص (36)
تأمل الدواب كيف خلق أعينها شاخصة أمامها لتنظر ما بين يديها فلا تصدم حائطًا و لا تتردى في حفرة، و إذا قربت من ذلك نفرت منه و ابعدت نفسها عنه و هي جاهلة بعاقبة ما يلحقها منه، أليس الذي جبلها على ذلك أراد صلاحها و سلامتها لينتفع بها؟ ثم أنظر إلى فمها مشوقًا إلى أسفل الخطم لتتمكن من نيل العلف و الرعي. و لو جعل كفم الإنسان لم تستطع أن تتناول شيئا من الأرض و أعينت بالحجفلة لتقصم بها ما قرب منها، فألهمت قصم ما فيه صلاحها و ترك مالا غذاء لها فيه و لا صلاح، انظر ما كان من البهائم كيف يمز الماء في شربه مزًا، و كيف خلقت فيه شعرات حول فمه يدفع بها ما في شربها ما كان على وجه الماء من القذى و الحشيش و يحركها تحريكًا يدفع بها الكدر عن الماء حتى يشرب صفوه، فتقوم لها هذه الشعرات مقام فم الإنسان، ثم انظر إلى ذنب البهيمة و حكمته، و كيف خلق كأنه غطاء في طرفه شعر، فمن منافعه أنه بمنزلة الغطاء على فرجها و دبرها ليسترها و منها أن ما بين دبرها و طرق بطنها أبدً يكون فيه وضر يجتمع بسببه الذباب و البعوض و يجتمع أيضًا، على مؤخرها، فأعينت على دفع ذلك بتحريك ذنبها، فصار كأنه مدية في يدها تذب بها و تطرد عنها ما يضر بها، ثم إنها تعطف برأسها فتطرد به ما في مقدمها من الذباب أيضًا ثم إن الدابة أيضًا أعينت بحركة مختصة، و ذلك أن الذباب إذا وقع عيها في مواضع بعيدة من رأسها و ذنبها حركت ذلك الموضع من جلدها تحريكًا تطرد به الذباب و غيره عنها. و ذلك من عجيب الحكمة فيما لا ينتفع بيدين.
و من الحكمة فيه أيضًا أن الدابة تستريح بتحريكه يمنة و يسرة لأنها لما كان قيامها على أربع اشتغلت يداها أيضًا بالحمل لبدنها و التصرف، فجعل لها في تحريك ذنبها منفعة و راحة، و أعينت بسرعة حركته حتى لا يطول ألمها بما يعرض لها، و من الحكمة فيه أن البهيمة إذا وقعت في بركة أو مهواة أو رحلت في طين أو غيره. فلا تجد شيئًا أهون على نهوضها و خلاصها منه من الرفع بذنبها، و من ذلك إذا خيف على حملها أن ينقلب على رقبتها عند هبوطها من مكان مصبوب أو ليسبقها رأسها فتنكب على وجهها، فيكون مسكها بذنبها في هذه المواضع يعد لها و يعينها على اعتدال سيرها و سلامتها مما خيف منه عليها إلى غير ذلك من مصالح لا يعلمها إلا الحكيم العليم.
انظر إلى مشفر الفيل، و ما فيه الحكمة و التدبير فإنه يقوم مقام اليد في تناول العلف و إيصاله إلى فمه، فلولا ذلك ما استطاع أن يتناول شيئا في الأرض إذ لم يجعل له عنق يمده كسائر الأنعام، فلما عدم العنق في هذا الخلق جعل له هذا الخرطوم يمده فيتناول به ما يحتاجه فسبحان اللطيف الخبير، انظر كيف جعل هذا الخرطوم وعاء يحمل فيه الماء إلى فمه و منخرًا يتنفس منه و آله يحمل بها ما أراد على ظهره أو يناول من هو راكب عليه، انظر إلى
ص (37)
خلق الزرافة لما كان منشؤها في رياض شاهقة خلق لها عنقًا طويلًا لتدرك قوتها من تلك الأشجار.
تأمل في خلق الثعلب فإنه إذا حفر له بيتًا في الأرض جعل له فوهتين إحداهما: ينصرف منها، و الأخرى: يهرب منها إن طلب و يرفق مواضع في الأرض في بيته، فإن طلب من المواضع المفتوحة ضرب برأسه في المواضع التي رفقها، فخرج من خير المنافذ و هي المواضع التي تحتها، انظر ما خلق الله تبارك و تعالى في جبلته لصيانة نفسه، و جملة القول في الحيوان: أن الله تبارك و تعالى خلقه مختلف الطباع و الخلق، فما كان منه ينتفع الناس بأكله خلق فيه الانقياد و التذليل و جعل قوته النبات، و ما جعل منه للحمل جعله هادئ الطبع قليل الغضب منقادًا منفعلًا على صور يتهيأ منه الحمل، و ما كان منه ذا غضب و شر إلا أنه قابل للتنظيم إذا نظم خلق فيه القبول للتعليم ليستعين العباد بصيده و حراسته و أعين بآلات قد تقدم ذكرها، و من جملة ذلك الفيل فإنه ذو فهم مخصوص به و هو قابل للتأنس و التعلم فيستعان به في الحمل و الحروب، و منها ما له غضب و شر إلا أنه متأنس بالإنسان لمنفعته كالهرة، و من الطير ما للناس به انتفاع لما فيه من الألفة و التأنس، فمن ذلك الحمام يألف موضعه فشغل بسببه في الإخبار بسرعة إذا دعت الحاجة إلى ذلك، و جعله الله سبحانه و تعالى كثير النسل فيكون منه طعام ينتفع به، و من ذلك البازى، فإن طباعه تنتقل إلى التأنس، و إن كان في طبعه مباينًا إلا أنه لما علم الله أنه ينتفع بصيده جعل في القبول للتنظيم حتى خرج عن عادته و بقى يعمل ما يوافق أصحابه وقت الصيد. و ما خفي من الحكم في خلق الله تعالى أكثر مما علم.
باب في حكمة خلق النحل و النمل و العنكبوت و دود القز و الذباب و غير ذلك:
قال الله سبحانه و تعالى: { وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [الأنعام: 38].
انظر إلى النمل و ما ألهمت له في احتشادها في جمع قوتها و تعاونهم على ذلك و إعداده لوقت عجزها عن الخروج و التصرف بسبب حر أو برد، و ألهمت في تقلب ذلك من الحزم ما لم يكن عند من يعرف العواقب حتى تراها في ذلك إذا عجز بعضها عن حمل ما حمله أو جهد به أعانه آخر فيه، فصارت متعاونة على النقل كما يتعاون الناس على العمل الذي لا يتم إلا بالتعاون، ثم إنها ألهمت حفر بيوت في الأرض تبتدئ في ذلك بإخراج ترابها و تقصد إلى الحب الذي منه قوتها فتقسمه خشية أن ينبت بنداوة الأرض فمن
ص (38)
خلق هذا في جبلتها إلا الرحمن الرحيم، ثم أصاب الحب بلل أخرجته فنشرتهه حتى يجف، ثم إنها لا تتخذ البيوت إلا فيما علا من الأرض خوفًا من السيل أن يغرقها.
ثم انظر إلى النحل و ما ألهمت إليه من العجائب و الحكم، فإن الباري سبحانه جعل لها رئيسًا تتبعه و تهتدي به فيما تناوله من أقواتها، فإن ظهر مع الرئيس الذى تتبعه رئيس آخر من جنسه قتل أحدهما الآخر. و ذلك لمصلحة ظاهرة و هو خوف الافتراق، لأنهما إذا كانا أميرين و سلك كل واحد منهما فجًا افترق النحل خلفهما، ثم إنها ألهمت أن ترعى رطوبات من على الأزهار فيستحيل في أجوافها عسلا، فعلم من هذا التسخير ما فيه من مصالح العباد من شراب فيه شفاء للناس كما أخبر سبحانه و تعالى، و فيه غذاء و ملاذ للعباد و فيه من أقوات فضلات عظيمة جعلت لمنافع بني آدم. فهي مثل ما يفضل من اللبن الذي خلق لمصالح أولاد البهائم و أقواتها و ما فضل من ذلك، ففيه من البركة و الكثرة ما ينتفع به الناس، ثم انظر ما تحمله النحل من الشمع في أرجلها لتوعي فيه العسل و تحفظه، فلا تكاد تجد وعاء أحفظ للعسل من الشمع في الأجناح فانظر في هذه الذبابة: هل في عملها و قدرتها جمع الشمع مع العسل أو عندها من المعرفة بحيث رتبت حفظ العسل مدة طويلة باستقراره في الشمع و صيانته في الجبال و الشجر في المواضع التي تحفظه ولا يفسد فيها، ثم انظر لخروجها نهارًا لرعيها و رجوعها عشية إلى أماكنها، و قد حملت ما يقوم بقوتها و يفضل عنها، و لها في ترتيب بيوتها من الحكمة في بنائها حافظ لما تلقيه من أجوافها من العسل، و لها جهة أخرى تجعل فيها برازها مباعدًا عن مواضع العسل، و فيها غير هذا مما انفرد الله بعلمه.
انظر إلى العنكبوت و ما خلق فيها من الحكمة، فإن الله خلق في حدها رطوبة تنسج منها بيتًا لتسكنه و شركًا لصدها فهو مخلوق من جسدها، و جعل الله غذاءها من أقواتها ينصرف إلى تقويم جسدها، و إلى خلق تلك الرطوبة المذكورة فتنصبه أبدا مثل الشرك و قي ركن الشرك بيتها و تكون سعة بيتها بحيث يغيب شخصها، و للشرك من خيوط رقاق تلتف على أرجل الذباب و الناموس و ما أشبه ذلك، فإذا أحست أن شيئًا من ذلك وقع في شركها خرجت إليه بسرعة و أخذته محتاطة عليه و رجعت إلى بيتها فتقتات بما يتيسر لها من رطوبة تلك الحيوانات، و إن كانت مستغنية في ذلك الوقت شكلته و تركته إلى وقت حاجتها. فانظر ما جعل الله فيها من الأسباب لحصول قوتها، فبلغت في ذلك ما يبلغه الإنسان بالفكرة و الحيلة، كل ذلك لإصلاحها و لنيل قوتها و لتعلم أن الله هو المدبر لهذا.
ثم انظر من العجائب دود القز، و ما خلق فيها من الأشياء التي يتحير منها و تذكر الله عند رؤيتها، فإن هذا الدود خلق لمجرد مصلحة الإنسان و منافعه، فإن هذا الحيوان الذي
ص (39)
يخلق من جسمه الحرير و ذلك أن صورة البزر تحضن حتى إذا حمى عاد دودًا كالذر فيوضع هذا الدود على ورق التوت فيتغذى منه، فلا يزال يرعى منه حتى يحفر جسمه فينبعث إلى غزل نفسه جوزة الحرير، فلا يزال كذلك حتى يفنى جسمه و تعود جودة الحرير و يصير هو جسما ميتا لا حياة فيه، ثم انظر فإن الباري سبحانه لما أراد حفظ هذا الجنس ببقاء نسله فعندما ينتهي من غزل الحرير و يعفى ذلك الجسم يقلبه الله إلى صورة طائر صغير قريب من صورة النحل فيجمع على بساط أو غيره و هو في رأي العين جنس واحد لا يتميز منه الذكر من الأنثى، فيعلو الذكر منه على ظهر الأنثى و يقيم لحظة على ظهرها فتحبل لوقتها مثل ذلك البزر الذي حضن أولا، ثم يطير فيذهب فلا يبقى منها انتفاع إذ قد حصل منها المقصود و هو ذلك البزر. فانظر من ألهمها الرعي من ذلك الورق حتى يرتب منه و من ألهمها إلى غزل أجسادها حريرا حتى تفنى فيما غزلته، و من ربى لها أجنحة و قلب صورتها حتى صارت على هيئة تمكن فيها اجتماع الذكر و الأنثى لتناسلها و لو بقيت على صورتها الأولى لم يأت منها تناسل ولا هذا الإجتماع، ثم انظر ما يسره الباري سبحانه من عمل ما غزلته هذه الدودة على من يعمله من بني آدم حتى يكون منه أموال كثيرة و ملابس عظيمة و زينة. و انظر هذا التسخير العجيب في هذا الحيوان اللطيف و ما اظهر فيه سبحانه من بديع الصنع و عجيب الفعل و عظيم الاعتبار، و ما جعل فيه من البرهان و الآيات على بعث الأموات و إعادة العظام الرفات سبحانه لا اله الا هو العلي العظيم.
ثم انظر الذبابة و ما أعينت به في نيل قوتها، فإنها خلقت بأجنحة تسرع بها إلى موضع تنال فيه قوتها و تهرب بها عما يهلكها و يضر بها و خق لها ستة أرجل تعتمد على أربع و تفضل اثنتين، فإن أصابها عثار مسحته بالرجلين اللذين تليهما، و ذلك لرقة أجنحتها، و لأن عينيها م يخلق لهما الهداب، لأنهما بارزتان عن رأسها، و جعل هذا الحيوان و ما جرى مجراه مما يتعلق ببني آدم وقع عليهم دائمًا و ينغص عليهم عيشهم ليعرفهم الباري سبحانه هوان الدنيا حتى تصغر عندهم و يهون أمر فراقها و هو وجه من وجوه الحكمة عليهم.
تأمل كثيرا من الحيوان الصغير عندما تلمسه يعود كأنه جماد لا حراك به، و يبقى على ذلك ساعة، ثم يتحرك و يمشي، و هل ذلك إلا لأن ما يصطاده إذا دلت هيئته على عدم حياته، فإذا كان شبيها بالجماد ترك كما تترك سائر الحجارة. تأمل العقاب عندما يصطاد السلحفاة يجدها كأنها حجر، و لا يجد فيها موضعا لأكله، فيصعد بها في مخالبه حتى إذا أبعد من الأرض اعتدل بها على جبل أو حجارة و أرسلها فتهشمها الوقعه فيسقط عليها فيأكلها. فانظر كيف ألهم الطريق في نيل قوته من غير عقل و لا روية.
ص 40
انظر إلى الغراب لما كان مكروهاً خلق في في طبعه الحذر لصيانة نفسه حتى كأنه يعلم الغيب فيما يتقصده، وألهم الاحتيال في إخفاء عشه لصون فراخه وقل احتفاله بالأنثى خشية أن تشغله عن شدة حذره، ولذلك قل أن يرى مجتمعاً مع أنثى، فهذا أبداً دأبه وحاله مع من له عقل وفطنة وتراه مع البهائم على خلاف ذلك فيقف على ظهورها ويأكل من دم البعير، ومن أرواث الدواب وقت تبرزها، وإذا وجد شيئاً من قوته وأكل منه وشبع دفن باقيه حتى يعاوده وقتاً آخر، فما خلق هذا في طبعه ودبره بهذا التدبير العجيب إلا الله، لأنه لا عقل له ولا روية.
انظر إلى الحدأة لما كانت مكروهة حفظت نفسها بقوة طيرانها وتعاليها وحفظت في أمر قوتها بقوة بصرها، فإنها ترى ما تقتات به في الأرض مع علوها في الجو فتنحط نحوه بسرعة، وألهمت معرفة من هو مقبل، ومن هو مدبر فتخطف ما تخطفه من الناس من ورائهم. ولا تخطف مما يستقبلها لئلا يمنعها المستقبل بيديه، وأعينت لما كان غذاؤها من هذه الوجوه بأن جعلت لها مخالب كأنها السنانير لا يكاد يسقط منها ما ترفعه، فسبحان المدبر الحكيم.
انظر إلى الحيوان المسمى حرباء وما فيه من التدبير، فإنه خلق بطيئاً في نهضته، وكان لا بد له من قوته، فخلق في صورة عجيبة، فخلقت عيناه تدور لكل جهة من غير حركة في جسده ولا قصد إليه ويبقى جامداً كأنه ليس من الحيوان، ثم أعطي مع السكون وهو أنه يتشكل في لون الشجر التي يكون عليها حتى يكاد يختلط لونه بلونها، ثم إذا قرب منه ما يصطاده من ذباب أو غيره أخرج لسانه فيخطف ذلك بسعة خفوق البرق، ثم يعود على حالته كأنه جزء من الشجرة، وجعل الله لسانه بخلاف المعتاد ليلحق به ما بعد عنه بثلاثة أشبار أو نحوه، فقد سخر له ما يصطاد به على هذه المسافة، وإذا رأى ما يريعه ويخيفه شكل على هيئة وشكل ينفرد منه من من يصطاد من الحيوان ويكرهه. فانظر هذه الأشياء التي خلقت فيه لأجل قلة نهضته فأعين بها.
انظر إلى الحيوان الذي يسمى سبع الذباب وما أعطي من الحيلة والرفق فيما يقتات به، فإنك تجده يحس بالذباب قد وقع قريباً منه فيركد ملياً حتى كأنه ميت أو جماد لا حراك به، فإذا أحس أن الذباب قد اطمأن دب منه دبيباً دقيقاً حتى لا ينفره حتى إذا صار قريباً منه بحيث يناله بوثبه وثب عليه فأخذه، فإذا أخذه اشتمل عليه بجسده كله خشية أن يتخلص منه الذباب فلا يزال قابضاً عليه حتى يحس ببطلان حركته فيقبل عليه فتغذى منه بما يلائمه فانظر إلى هذه الحيلة من فعله أو هي مخلوقة من أجل رزقه فسبحانه البارئ الحكيم.
ص 41
انظر إلى الذر والبعوض الذي اوهن الله قوتها وأصغر قدرتها وضرب بها المثل في كتابه، هل تجد فيه نقصاً عما فيه صلاحها من جناح تطير به ورجل تعتمد عليها وبصر تقصد به موضعاً تنال فيه قوتها وآلة لهضم غذائها وإخراج فضلته. وانظر هل يمكن أن يعيش من غير قوت وهل يمكن أن يكون القوت في غير محل واحد، وإخراج فضلته من غير منفذ، ثم انظر كيف دبرها العزيز الحكيم، فسواها وقدر أعضاءها واستودعها العلم والمعرفة بمنافعها ومضارها، وكله دليل على علمه وقدرته وحكمته البالغة، فهي بعوضة صغرت في النظر، ومع هذا فلو أن أهل السموات والأرض من الملائكة، فمن دونهم من العالمين وسائر الخلق أجمعين أرادوا أن يعرفوا كيف قسم الخالق سبحانه أجزاءها وحسن اعتدال صورتها في أعضائها لما قدروا على ذلك إلا تظاهراً لمنظر العجز منهم على عدم علم حقيقة الخبر، ولو اجتمعوا ثم تفكروا كيف ركبت معرفتها حتى عرفت أن ما بين الجلد واللحم دماً وهو الذي منه غذاؤها، ولولا معرفتها به لم تدم على مصه تطعمه وكيف همتها التي قصدت بها أن تطير إلى الموضع الذي ألهمها ربها أن فيه غذاءها، وكيف خرق سمعها، وكيف سمعت حس من يقصدها وكيف عرفت أن نجاتها في الفرار إذا ولت هاربة ممن قصدها فلن يدرك ذلك منها الخلائق أجمعون، ولو جزءوها، ما ازدادوا في أمرها إلا عمى وبعداً عن المعرفة، فهذه الحكمة والقدرة في بعوضة فما ظنك بجميع مخلوقاته سبحانه وتعالى علواً كبيراً.
باب في حكمة خلق السمك وما تضمن خلقها من الحكم
قال الله تعالى : ( وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا ) ( النحل : 14 ).
انظر واعتبر بما خلق الله تعالى في البحار والأنهار من الحيوان المختلف الصور والأشكال، وما فيه من الآيات البينات، فإنه تعالى لما جعل مسكنه في الماء لم يخلق له قوائم ولم يخلق فيه رئة، لأنه لا يتمشى وهو منغمس في لجة الماء، وخلقت له مكان القوائم أجنحة شداد يحركها من جانبه فيسير بها حيث شاء، وكسا جلده كسوة متداخلة صلبة تخالف لحمه متراصة كأنها درع لتتقيه ما يعتدي عليه وما يؤذيه، وما لم يخلق له من السمك تلك الكسوة وهي القشر المتداخل المخلوق على ظاهره، خلق له جلداً غليظاً متقناً له مقام تلك الكسوة لغيره، وخلق له بصراً وسمعاً وشماً ليستعين بذلك على نيل قوته والهرب مما يؤذيه.
وانظر كيف أعطي في قعر البحر ما يناسبه في نيل القوت والهرب مما يضره، ولما علم الله سبحانه أن بعضه غذاء لبعض كثره وجعل أكثر أصنافه يحمل ولم يجعل الحمل منه
ص 42
مخصوصاً بالأنثى دون الذكر كحيوان البر، بل جعل الذكر والأنثى جنساً واحداً يخلق في بطونها مرة واحدة في وقت معلوم ذريعة مجتمعة مشتملة على عدد لا ينحصر، فيخلق من جوف واحد عدداً لا يحصى، وذلك من كل برزة حوتاً من الجنس ومن جنس آخر يخلق في الأنهار وغيرها بغير توالد فيخلق منها أعداداً لا تنحصر دفعة واحدة، ومنه صنف يتوالد بالذكر والأنثى، وهذا الجنس يخلق له يدان ورجلان مثل السلحفاة والتمساح وماشاكلهما فيتولد منها بيض، فإذا فقس البيض بحرارة الشمس خرج من كل بيضة واحد من الجنس، ولما علم الله سبحانه وتعالى أن السمك في البحر لا يمكن أن يحضن ما يخرج من بزره ألقى الروح في بزر جميعه عندما يولد فيجد فيه جميع ما يحتاج من الأعضاء عند إلقاء الروح فيه فيستقل ولا يفتقر إلى أحد في كمال خلقه، فانظر إلى هذه الحكمة واللطف حيث لك يمكن حضانته في البحر ولا تربيته ولا معونته البتة جعله مستقلاً بنفسه مستغنياً عن ذلك كله، ثم إن الله سبحانه كثره، لأن منه قوت جنسه وقوتاً لبني آدم والطير فلذلك كان كثيراً، ثم انظر إلى سرعة حركته وإن لم تكن له آلة كغيره من الحيوان وانظر إلى حركة ذنبه وانقسامه، وكيف يعتدل بذلك في سيره كما تعتدل السفينة برجلها في سيرها، وخلقت أرياشه ألواحاً من جانبيه ليعتدل بهما أيضاً في سيره فهو بمنزلة المركب، وانظر إلى عظامه كيف خلقت مثل العمد يبنى عليها، ففي كل موضع منه ما يليق به من صوة العظم المشاكل لذلك العضو، فهو كإنشاء المركب يمتد العظم الجافي الذي هو قوته ويخرج من أضلاع إلى مراقي البطن والظهر وعظام الرأس يحتاج إليه من الأمر وبه قوامه. وانظر إلى ما كان منه كاسراً كيف أعين على نيل قوته لصلابة اللحم وقوة النهضة وكثرة الأسنان حتى أنه لكثر أسنانه تكون العضة الواحدة تجزيه عن المضغ.
انظر إلى ما خلق الله في البحر ضعيفاً قليل الحركة مثل أصناف الصدف والحلزون كيف حفظ بأن خلق عليه ذلك الحصن الذي هو صلب كالرخام ليصونه ويحفظه، وجعل له بيتاً وسكناً، وجعل ما يولى جسده ناعماً أنعم ما يكون، وربما ضر ببيت بعض أصناف الحلزون حتى لا يكون فيه مطمع البتة، وأصناف منه خلقت في محائز مفتوحة لا يمكن صيانتها لنفسها لتغلقها ولا يضيق مسلكها، فجعل الله لها من الجبال والحجارة مغطى، وجعل لها أسباباً تلتصق بها في الجبل فلا يستطاع إخراجها إلا بغاية الجهد وجعل لها قوتاً من رطوبة الجبل تتأتى حياتها بذلك.
وأما الحلزون الذي بيته كأنه كوكب فإنه يخرج رأسه يرعى، فإذا أحس بما يؤذيه أدخل رأسه في بيته وختم عليه بطابع صلب يقرب من صلابة بيته فيغيب أثره بالجملة فانظر هذا اللطف وأن الله لم يهمل شيئاً. واعلم أن الله حافظ لما في البحار وما في الآكام والجبال. فتبارك الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى.
ص 43
وانظر إلى أنواع من السمك يرعى قرب البر الصغير منها والجاً في الأعماق، وخلق الله في جوفه صبغاً كأنه حبر وهو يخلق له فيه من فضلة غذائه كما يخلق اللبن في الضرع، فإذا أحس ما يؤذيه أخرج من جوفه ما يعكر موضعه، ثم يذهب في الماء الذي تغير فلا يعرف كيف ذهب ولا كيف طريقه من تغيير الماء فعل الله ذلك له وقاية لنفسه وفعل فيه مصالح أخرى لا يعلمها إلا خالقها. انظر إلى نوع آخر من السمك أعين بأجنحة مثل أجنحة الخفاش ينتقل بها من موضع إلى موضع في الهواء من وجه الماء يظهر لمن لا يعرف ذلك أنه من طيور البر. انظر إلى نوع آخر من أنواع الأسماك ضعيف وكثيراً ما يكون في الأنهار، وجعل الله فيه خاصية تصونه إذا اقتربت منه يد من يأخذه وفيه الروح تخدر البدن واليد فيعجز قاصده عن أخذه بذلك السبب، فلو ملئت الكتب بعجائب حكم الله في خلق واحد لامتلأت الكتب وعجز البشر عن استكمالها وما هو المذكور في كل نوع تنبيه يشير إلى أمر عظيم.
باب في حكمة خلق النبات وما فيه من عجائب حكمة الله تعالى
قال الله تعالى : ( أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْـزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ ) ( النمل : 60 ).
انظر وفقك الله وسددك إلى ما على وجه الأرض من النبات وما في نظره من النعم من حسن منظره وبهجته ونضارته التي لا يعد لها شيء من مناظر الأرض، ثم انظر إلى جعل البارئ فيه من ضروب المنافع والمطاعم والروائح والمآرب التي لا تحصى، وخلق فيه الحب والنوى مخلوقاً لحفظ أنواع النبات، وجعل الثمار للغذاء والتفكه والإتيان منها للعلف والرعي، والحطب للوقود، والأخشاب للعمارة وإنشاء السفن ولغير ذلك من الأعمال التي يطول تعدادها، والورق والأزهار والأصول والعروق والفروع والصموغ لضروب من المصالح لا تحصى. أرأيت لو وجدت الثمار مجموعة من الأرض ولم يكن تنبت على هذا السوق الحاملة لها ما كان يحصل من الخلل في عدم الأخشاب والحطب و الإتيان بالعلف وسائر المنافع، وإن وجد الغذاء بالثمرات والتفكه بها. ثم انظر ما جعل الله فيها من البركات حتى صارت الحبة الواحدة تخلف مائة حبة وأكثر من ذلك وأقل، والحكمة في زيادتها وبركاتها حصول الاقتيات وما فضل ادخر للأمور المهمة والزراعات، وذلك في المثال كملك أراد عمارة بلدة فأعطى أهله من البذر ما يبذرونه وفضلة يتقوتون بها إلى إدراك زرعهم، فهذه من الحكمة التي أعم الله بها البلاد وأصلح بها العباد، وكذلك الشجر
ص 44
والنخل يزكو وتتضاعف ثمراتها حتى تكون الحبة الواحدة الشيء العظيم ليكون فيه ما يأكله العباد ويصرفونه في مآربهم ويفضل ما يدخر ويغرس فيدوم جنسه ويؤمن انقطاعه، لولا نموه وبقاء ما يخلفه لكان ما أصابته جائحة ينقطع فلا يوجد ما يخلف.
تأمل في هذه الحبوب فإنها تخرج في أوعية تشبه الخرائط لتصونها إلى أن تشتد وتستحكم كنا تغلق البشيمة على الجنين، فأما البزر وما أشبه من الحبوب، فإنه يخرج من قشور صلبة على رءوسها أمثال الأسنة ليمنع الطير. فانظر كيف حصنت الحبوب بهذه الحصون وحجبت لئلا يتمكن الطير منها فيصيب بها، وإن كان يناله منها قوته إلا أن حاجة الآدمي أشد واولى. تأمل الحكمة في خلق الشجر وأصناف النبات فإنها لما كانت محتاجة إلى الغذاء الدائم كحاجة الحيوانات ولم يخلق فيها حركات تتبعث بعها ولا آلات توصل إليها غذاءها جعلت أصولها مركوزة في الأرض لتجذب الماء من الأرض، فتتغذى بها أصولها وما علا منها من الأغصان و الأوراق والثمار، فصارت الأرض كالأم المربية لها، وصارت أصولها وعروقها كالأفواه الملتقمة لها، وكأنها ترضع لتبلغ منها الغذاء كما يرضع أصناف الحيوان أمهاتها. ألم ترى إلى عمد الخيم والفسطاط كيف يمتد بالأطناب من كل جانب ليثبت منصته فلا يسقط ولا يميل، فهكذا أمر النبات كله له عروق منتشرة في الأرض ممتدة إلى كل جانب وتمسكه وتقيمه، ولولا ذلك لم تثبت الأشجار العالية، لا سيما في الرياح العاصفة. فانظر إلى حكمة الخالق كيف سبقت حكمة الصناعة واقتدى الناس في اعمالهم بحكمة الله في مصنوعاته، وتأمل خلق الورق فإنك ترى في الورقة شبه العروق مبثوثة، فمنها غلاظ ممتدة في طولها وعرضها، منها دقائق تتخلل تلك الغلاظ منسوجة نسجاً دقيقاً عجيباً، لو كان مما يصنع بأيدي البشر لما فرغ من ورقة شجرة واحدة إلا في مدة طويلة، وكان يحتاج إلى آلات وطول علاج. فانظر كيف يخرج منه في المدة القليلة ما يملأ السهل والجبال وبقاع الأرض بغير الآلة ولا حركة إلا قدرة البارئ وإرادته وحكمه، ثم انظر تلك العروق كيف تتخلل الورق بأسره لتسقيه وتوصل إليه المادة وهي بمنزلة العروق المبثوثة في بدن الإنسان لتوصيل الغذاء إلى كل عضو منه، وأما ما غلظ من العروق فإنها تمسك الورق بصلابتها وقوتها لئلا ينتهك ويتمزق.
ثم انظر إلى العجم والنوى والعلة فيه، فإنه جعل في جوف الثمرة ليقوم مقامه إذا عدم ما يغرس أو عاقه سبب، فصار ذلك كالشيء النفيس الذي يخزن في مواضع شتى لعظم الحاجة إليه، فإن حدث على الذي في بعض المواضع من حادث وجد منه في موضع آخر، ثم في صلابته يمسك رخاوة الثمار ورقتها، ولولاه لسرحت وسرح الفساد إليها قبل إدراكها، وفي بعضها حب يؤكل وينتفع بدهنه ويستعمل في مصالح. ثم انظر إلى خلق الله
ص 45
تعالى فوق النواة من الرطب وفوق العجم من العنبة والهيئة التي تخرج عليها، وما في ذلك من الطعم واللذة والاستمتاع للعباد، ثم تأمل خلق الحب والنوى وما أودع فيه من قوة وعجائب، كالمودع في الماء الذي يخلق منه الحيوان وهو سر لا يعلم حقيقته إلا الله سبحانه وما علم من ذلك يطول شرحه.
ثم انظر كيف حفظ الحب والنوى بصلابة وخلقت في ظاهره قشرة حتى أنه بسبب ذلك إن سقط في تراب أو غيره لا يفسد سريعاً ، وإذا ادخر لوقت الزراعة بقى محفوظاً، فصار قشره الخارج حافظاً لما في باطنه بمنزلة شيء نفيس عمل له صندوق يحفظه، عندما يوضع في الأرض ويسقى يخرج منه عرق في النوى وغصن في الهواء، وكما ازداد غصناً ازداد عرقاً تتقوى به أصل الشجرة وينصرف الغذاء منه إلى الغصن فهي كذلك إذ يتم غصنها قوتها فتكون الفروع محفوظة عن السقوط بالهواء والانكسار بالنقل أو بغيره ويصعد الماء في جذورها إلى أعالي الشجرة فيقسمه الله سبحانه بالقسط وميزان الحق، فينصرف للورق غذاء صالح له وللعروق المشتبكة في الأوراق لاتصال الغذاء إلى جوانب الورق ما يليق لغذائها، وللثمار غذاء صالح لها، وللأقماع واللحا والأزهار غذاء صالح لكل من ذلك ما يليق به ويصلحه، فهو كذلك حتى يكمل في الثمار نموها وطعمها ورائحتها وألوانها المختلفة وحلاوتها وطيبها، ثم انظر كيف جعل الله سبحانه خروج الأوراق سابقاً لخروج الثمار لأن الثمرة ضعيفة عند خروجها تتضرر بحر الشمس وبرد الهواء، فكانت الأوراق ساترة لها، وصار ما بينها من الفرج لدخول أجزاء من الشمس والهواء لا غنى للثمرة عنها فيحفظها ذلك من المن والعفن وغير ذلك من الفساد.
ثم انظر كيف رتب البارئ سبحانه الأشجار والثمار والأزهار، وجعلها مختلفة الألوان والأشكال والطعوم والروائح. فأشكالها ما بين طويل وقصير وجليل وحقير. وألوانها ما بين أحمر وأبيض وأصفر وأخضر، ثم كل لون منها مختلف إلى شديد وصاف ومتوسط، وطعومها ما بين حلو وحامض ومز وتفه ومر، وروائحها إلى عطرات لذيذات مختلفات، وقد أوضح الكتاب العزيز من ذلك ما ذكرناه بما يشرح الصدور برؤيتها وتنتعش النفوس لرونق بهجتها، وأودع الله سبحانه فيها منافع لا تحصى مختلفة التأثير. فمنها ما تقوى به القلوب، ومنها أغذية تحفظ الحياة، وجعلها مطعومة لذيذة عند تناولها، وخلق فيها بروزاً لحفظ نوعها تزرع عند جفافها وانفصال وقت نضارتها. انظر وتأمل ما في قوله عز وجل : ( وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلآكِلِينَ ) ( المؤمنون : 20 ). فأخرج سبحانه فيما
ص 46
بين الحجرو الماء زيتاً صافياً لذيذاً نافعاً كما اخرج اللبن من بين رفث ودم، ومن أخرج من النخل شراباً عسلاً مختلفاً ألوانه فيه شفاء للناس، ولو جمعت هذه الأشياء في مستقر لكانت مثل الأنهار وكل ذلك لمنافع العباد. فانظر ما فيه من العبرة لذوي الأفكار، ثم انظر إلى الماء الصاعد من العروق الراسخة الحافظة للأعلى من الشجرة، وكيف قسم البارئ في غذاء النخلة، فقسم للجذر ما يصلح لها وللجريد، وما فيه من السل ما يصلح لها ويناسب جريدها ويرسل للثمرة ما يليق بها، وكذلك الليف الحافظ للأصول مع الثمرة وجعل الثمرة لما كانت ضعيفة في أول أمرها متراصة متراكمة بعضها فوق بعض مجموعة من غلاف متقن يحفظها مما يفسدها ويغيرها حتى إذا قويت صلحت أن تبرز للشمس والهواء، فشق عنها غلافها بالتدريج، وهو الذي كان حافظاً لها، فيصير يفترق شيئاً بعد شيء على قدر ما تحتمله الثمرة من الهواء والشمس حتى تكتمل قوتها، فتظهر جميعها حتى ما يضر بها ما يلقاها من حر وبرد، ثم تراها في النضج والطيب إلى بلوغ الغاية المقصودة منها فيلتذ حينئذٍ بأكلها ويمكن الانتفاع بادخارها وتصف في المآرب التي هيئت لها، واعتبر ذلك في جميع الأشجار، فإنك ترى من أسباب الحفظ ولطائف الصنع ما يتعبر به كل ذي فهم ولب، فمن ذلك خلق الرمانة وما فيها من غرائب التدبير، فإنك ترى فيها شحماً مركوماً في نواصيها غليظ الأسفل رقيق الأعلى كأمثال التلال في تلوينه أو البناء الذي وسع أسفله للاستقرار ورقق أعلاه حتى صار مرصوفاً رصفاً كأنه منضد بالأيدي، بل تعجز الأيدي عن ذلك التداخل الذي نظم حبها في الشحم المذكور، وتراه مقسوماً أقساماً، وكل قسم منه مقسوم مقسوم بلفائف رقيقة منسوجة أعجب نسج وألطفه لتحجب حبها حتى لا يلتقي بعضه ببعض فيفسد ولا يلحق البلوغ والنهاية، وعليها قشر غليظ يجمع ذلك كله، ومن حكمة هذه الصنعة أن حبها لو كان حشوها منه صرفاً بغير حواجز لم يمد بعضه بعضاً في الغذاء، فجعل ذلك الشحم خلاله ليمده بالغذاء، ألا ترى أصول الحب كيف هي مركوزة في ذلك الشحم ممدودة منه بعروق رقاق توصل إلى الحب غذاءها، وإلى حبة حبة غذاءها ومن رقها وضعفها لا تكدر على الأقل ولا تعرف بها، ثم انظر ما يصير من الحلاوة في الحب من أصول مرة شديدة المرارة قابضة، ثم تلك اللفائف على الحب تمسكه على الاضطراب وتحفظه، ثم حفظ الجميع وغشاه بقشر صلب شديد القبض والمرارة وقاية له من الآفات، فإن هذا النوع من النبات للعباد به انتفاعات وهو ما بين غذاء ودواء وتدعو الحاجة إليه في غير زمانه الذي يجني فيه من شجرة فحفظ على هذه الصفة لذلك.
انظر إلى عود الرمانة الذي ي متعلقة به كيف خلق مثبتاً متقناً حتى تستكمل خلقها فلا تسقط قبل بلوغها الغاية المحتاج إليها وهي من الثمرة المختصة بالإنسان دون غيره من
ص 47
الحيوان. انظر إلى النبات الممتد على وجه الأرض مثل البطيخ واليقطين وما أشبه ذلك وما فيه من التدبير، فإنه لما كان عود هذا النبات رقيقاً رياناً ذا احتياج إلى الماء لا ينبت إلا به جعل ما ينبت به منبسطاً على وجه الأرض، فلو كان منتصباً قائماً كغيره من الشجر لما استطاع حمل هذه الثمار مع طراوة عودها ولينها، فكانت تسقط قبل بلوغها بلوغ غاياتها، فهي تمتد على وجه الأرض لبلوغ الغاية وتحمل الأرض عودها وأصل الشجرة والسقي بمدها. وانظر هذه الأصناف كيف لا تخلق إلا في الزمن الصالح لها ولمن تناولها، فهي له معونة عند الحاجة إليها ولو أتت في زمان البرد لنفرت النفوس عنها ولأضرت بأكثر من يأكلها.
ثم انظر إلى النخل لما كانت الانثى منه تحتاج إلى التلقيح خلق فيها الذكر الذي تحتاج إليه لذلك حتى صار الذكر في النخل كأنه الذكر في الحيوان، وذلك ليتم خلق بزراعته تحفظ أصول هذا النوع. ثم انظر ما في النبات من العقاقير النافعة البديعة، فواحد يفور في البدن فيستخرج الفضلات الغليظة، وأخر لشد البطن في الطبيعة، وآخر للإسهال، وآخر للقئ، وآخر لروائحه، وآخر للمرضى والضعفاء، وكل ذلك من الماء، فسبحان من دبر ملكه بأحسن التدبير.
باب ما تستشعر به القلوب من العظمة لعلام الغيوب
قال الله العظيم : ( تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ) ( الإسراء : 44 )
وقال تعالى : ( تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ ) ( الشورى : 5 )
وقال تعالى : ( وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ ) ( الرعد : 13 ).
اعلم وفقنا الله وإياك أن جميع ما تقدم ذكره في هذا الكتاب من بدائع الخلق وعجائب الصنع وما ظهر في مخلوقاته من الحكم آيات بينات، وبراهين واضحة، ودلائل دالات على جلال بارئها وقدرته ونفوذ مشيئته وظهور عظمته، فإنك إذا نظرت إلى ما هو أدنى إليك وهي نفسك رأيت فيها من العجائب والآيات ما سبق التنبيه عليه وأعظم منع، ثم إنك إذا نظرت إلى مستقرك وهي الأرض وأجلت فكرك فيها وأطلت النظر في استرسال ذهنك فيما جعل فيها وعليها من جبال شامخات، وما أحيط بها من بحار زاخرات، وما جرى فيها من الأنهار، وما انبث فيها من أصناف النباتات والأشجار، وما بث فيها من
ص 48
الدواب إلى غير ذلك مما يعتبر به أولو الألباب، ثم إذا نظرت إلى سعتها وبعد أكنافها، وعلمت عجز الخلائق عن الإحاطة بجميع جهاتها وأطرافها، ثم إذا نظرت فيما ذكرته العلماء عن نسبة هذا الحق العظيم إلى السماء وأن الأرض وما فيها بالنسبة إلى السماء كحلقة ملقاة في أرض فلاة وما ذكره النظار من أن الشمس في قدرها تزيد على قدر الأرض مائة ونيفاً وستين جزءاً، وأن من الكواكب ما يزيد عن الأرض مائة مرة، ثم إنك ترى هذه النيرات كلها من شمس وقمر ونجوم قد حوتها السموات وهي مركوزة فيها، ففكر في السماء الحاوية لهذا القدر العظيم كيف يكون قدرها، ثم انظر كيف ترى الشمس والقمر والنجوم والسماء الجامعة لذلك في حدقة عينك مع صغرها، وبهذا تعرف بعد هذا كله منك وعظم ارتقائه، ولأجل البعد ترى هذه النيرات صغيرة في رأي العين، ثم انظر إلى عظم حركتها وأنت لا تحس بها ولا تدركها لبعدها، ثم إنك لا تشك أن الفلك يسير في لحظة قدر الأرض مائة مرة وأكثر من ذلك وأنت غافل عن ذلك، ثم فكر في عظم قدر هذه الأشياء، واسمع قسم الرب سبحانه بها في مواضع من الكتاب العزيز فقال عز وجل : ( وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ ) ( البروج : 1 ) ( وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ ) ( الطارق 1 – 3 )
وقال : ( فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ) ( الواقعة : 75 ، 76 )
إلى غير ذلك من الآي، ثم ترق بنظرك إلى ما حواه العالم العلوي من الملائكة وما فيها من الخلق العظيم، وما اخبر به جبريل عليه السلام النبي صلى الله عليه وسلم عن إسرافيل عليه السلام، يقول جبريل : فكيف لو رأي إسرافيل، وإن العرش لعلى كاهله، وإن رجليه لفي تخوم الأرض السفلى، وأعظم من هذا كله قوله عز وجل : ( وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ ) ( البقرة : 255 ). فما ظنك بمخلوق وسع هذا الأمر العظيم، فارفع نظرك إلى البارئ العظيم واستدل بهذا الخلق العظيم على قدر هذا الخالق العظيم، وعلى جلاله وقدرته وعلمه، ونفوذ مشيئته وإتقان حكمته في بريته، وانظر كيف جميع هذا الصنع العظيم ممسوك بغير عمد تقله، ولا علائق من فوقعه ترفعه وتثبته، فمن نظر في ملكوت السموات والأرض ونظر ذلك بعقله ولبه، استفاد بذلك المعرفة بربه والتعظيم لأمره، وليس للمتفكرين إلى غير ذلك سبيل، وكلما ردد العقل الموفق النظر والتفكر في عجائب الصنع وبدائع الخلق ازداد معرفة ويقيناً وإذعاناً لبارئه وتعظيماً، ثم الخلق في ذلك متفاوتون، فكل مثال من ذلك على حسب ما وهبه له من نور العقل ونور الهداية. وأعظم شيء موصل إلى هذه الفوائد المشار إليها تلاوة الكتاب العزيز، وتفهم ما ورد فيه وتدبر آياته مع ملازمة تقوى الله سبحانه.
ص 49
فهذا هو باب المرعفة بالله واليقين بما عند الله، ثم انظر وتأمل ما نشير إليه، فإنك علمت على الجملة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسرى به إلى أن بلغ المنتهى ورأى من آيات ربه الكبرى. واطلع على ملكوت ربه وتحقق أمر الآخرة والأولي. ودنا من ربه حتى كان كقاب قوسين أو أدنى. فما ظنك بعلم من شرف بهذا المعنى ثم أمر بأن يقول : ( وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا ) ( طه : 114 ). علمك بمعرفته ومن عليك بنور هدايته واستعملنا وإياك بطاعته. وجعلنا بكرمه أجمعين من أهل ولايته بمنه وكرمه وجوده إنه ولي ذلك.
صفحة 50