إلجام العوام عن علم الكلام

Spread the love

 

بسم الله الرحمن الرحيم

إلجام العوام عن علم الكلام

خطبة الرسالة

الحمد لله الذي تجلى لكافة عباده بصفاته وأسمائه وتاهت عقول الطالبين في بيداء كبريائه، وقص أجنحة الأفكار دون حمى عزته وتعالى بجلاله عن أن تدرك الأفهام كنه حقيقته. واستوفى قلوب أوليائه وخاصته واستغرق أرواحهم حتى احترقوا بنار محبته وبهتوا في إشراق أنوار عظمته، وخرست ألسنتهم عن الثناء على جمال حضرته إلا بما أسمعهم من أسمائهم وصفاته وأنبأهم على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم خير خليقته وعلى أصحابه وعترته.

أما بعد: فقد سألتني أرشدك الله عن الأخبار الموهمة للتشبيه عند الرعاع والجهال من الحشوية الضلال حيث اعتقدوا في الله وصفاته ما يتعالى ويتقدس عنه من الصورة واليد والقدم والنزول والانتقال والجلوس على العرش والاستقرار، وما يجري مجراه مما أخذوه من ظواهر الأخبار وصورها، وأنهم زعموا أن معتقدهم فيه معتقد السلف، وأردت أن أشرح لك اعتقاد السلف، وأن أبين ما يجب على عموم الخلق أن يعتقدوه في هذه الأخبار، وأكشف فيه الغطاء عن الحق، وأميز ما يجب البحث عنه عما يجب الإمساك والكف عن الخوض فيه، فأجبتك إلى طلبتك متقربًا إلى الله سبحانه وتعالى بإظهار الحق الصريح من غير مداهنة ومراقبة جانب ومحافظة على تعصب لمذهب دون مذهب، فالحق أولى بالمراقبة، والصدق والإنصاف أولى بالمحافظة عليه، وأسأل الله التسديد والتوفيق وهو بإجابة داعيه حقيق، وها أنا أرتب الكتاب على ثلاثة أبواب:

باب في بيان حقيقة مذهب السلف في هذه الأخبار.

وباب في البرهان على الحق فيه مذهب السلف وأن من خالفهم فهو مبتدع.

وباب في فصول متفرقة نافعة في هذا الفن.

الباب الأول

ص 320

فى شرح اعتقاد السلف فى هذه الأخبار.

اعلم: أن الحق الصريح الذى لا مراء فيه عند أهل البصائر هو مذهب السلف أعنى مذهب الصحابه والتابعين وها أنا أورد بيانه وبيان برهانه.

فأقول: حقيقه مذهب السلف وهو الحق عندنا أن كل من بلغه حديث من هذه الأحاديث من عوام الخلق يجب عليه فيه سبعة أمور: التقديس , ثم التصديق ، ثم اعتراف بالعجز ، ثم الإمسال ، ثم الكف ، ثم التسليم لأهل المعرفة.

أما التقديس: فأعنى به تنزيه الرب تعالى عن الجسمية توابعها.

وأما التصديق: فهو الإيمان بما قاله صلى الله عليه وسلم وإن ما ذكره حق وهو فيما قاله صادق وأنه حق على الوجه الذى قاله و أراده.

وأما الاعتراف بالعجز: فهو أن يقر بأن معرفة مراده ليست على قدر طاقته وأن ذلك ليس من شأنه وحرفته.

وأما السكوت: فأن لا يسأل عن معناه و لا يخوض فيه ويعلم أن سؤاله عنه بدعة ، وأنه فى خوضه فيه مخاطر بدينه ، وأنه يوشك أن يكفر لو خاض فيه من حيث لا يشعر.

وأما اإمساك: فأن لا يتصرف فى تلك الألفاظ بالتصريف والتبديل بلغة أخرى والزيادة فيه والنقصان منه والجمع والتفريق بل لا ينطق إلا بذلك اللفظ وعلى ذلك الوجه من الإيراد والإعراب والتصرف والصيغة.

وأما الكف: فأن يكف باطنه عن البحث عنه والتفكير فيه.

وأما التسليم لأهله: فأن لا يعتقد أن ذلك إن خفى عليه لعجزه فقد خفى على رسول الله (صلى الله عليه و سلم) أو على اللأنبياء أو على الصديقين و الأولياء، فهذه سبع وظائف اعتقد كافه السلف وجوبها على كل العوام لا ينبغى أن يظن بالسلف الخلاف فى شئ منها، فلنشرحها وظيفه وظيفه إن شاء الله تعالى:

الوظيفه الأولى: التقديس و معناه أنه إذا سمع اليد و الإصبع و قوله (صلى الله عليه و سلم): “إن الله خمر طينة آدم بيده. و إن قلب المؤمنين بين إصباعين من أصابع الرحمن”, فينبغى أن يعلم أن اليد تطلق لمعنيين أحدهما هو الموضع الأصلى و هو عضو مركب من لحم و عصب، و اللحم والعظم و العصب جسم مخصوص و صفات مخصوصه أعنى بالجسم عباره عن مقدار له طول و عرض و عمق يمنع غيره من أن يوجد بحيث هو إلا بأن يتنجى عن ذلك المكان، (وقد يستعار هذا اللفظ) أعنى اليد لمعنى آخر ليس ذلك المعنى بجسم أصلاً كما يقال: البلده فى

ص 321

يد الأمير فإن ذلك مفهوم وإن كان الأمير مقطوع اليد مثلاً فعلى العامى و غير العامى أن يتحقق قطعاً و يقيناً أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لم يرد بذلك جسماً هو عضو مركب من لحم و دم وعظم، و أن ذلك فى حق الله تعالى محال وهو عنه مقدس، فإن خطر بباله أن الله جسم مركب من أعضائه فهو عابد صنم فإن كل جسم فهو مخلوق ، وعبادة المخلوق كفر، وعبادة الصنم كانت كفراً لأنه مخلوق، وكان مخلوقاً لأنه فمن عبد جسماً فهو بإجماع الائمه السلف منهم والخلف. سواء كان ذلك الجسم كثيفاً كالجبال الصم الصلاب، أو لطيفاً كالهواء والماء، وسواء كان مظلماً كالأرض أو مشرقاً كالشمس والقمر والكواكب. أو مشفاً لا لون له كالهواء، أو عظيماً كالعرش والكرسى والسماء، أو صغيراً كالذرة والهباء، أو جماداً كالحجارة، أو حيواناً كالإنسان. فالجسم صنم فإن يقدر حسنه وجماله أو عظمه أو صغره فقد نفى العضوية واللحم والعصب وقدس الرب جل جلاله عما يوجب الحدوث، وليعتقد بعده أنه عبارة عن معنى من المعانى ليس بجسم ولا عرض فى جسم يليق ذلك المعنى بالله تعالى، فإن لا يدرى ذلك المعنى ولا يفهم كنه حقيقته فليس عليه فى ذلك تكليف أصلاً، فمعرفة تأويله ومعناه ليس بواجب عليه بل واجب عليه أن لا يخوض فيه كما سيأتى.

مثال آخر: إذا سمع الصورة فى قوله (صلى الله عليه و سلم) : ” إن الله خلق آدم على صورته”،”وإنى رأيت ربى فى أحسن صورة” فينبغى أن يعلم أن الصوره اسم مشترك قد يطلق ويراد به الهيئة الحاصلة فى أجسام م}لفة مرتبة ترتيباً مخصوصاً مثل الأنف والعين والفم والخد التى هى أجسام وهى لحوم وعظام، وقد يطلق ويراد به ما ليس بجسم ولا هيئة فى جسم ولا هو ترتيب فى أجسام. كقولك عرف صورته وما يجرى مجراه، فليتحقق كل مؤمن أن الصورة فى حق الله لم تطلق لإرادة المعنى الأول الذى هو جسم لحمى وعظمى مركب من أنف وفم وخد، فإن جميع ذلك أجسام وهيئات فى أجسام، وخالق الأجسام والهيئات كلها منزه عن متشابهتها وصفاتها، وإذا علم هذا يقيناً فهو مؤمن فإن خطر له أنه إن لم يرد هذا المعنى فما الذى أراده فينبغى أن يعلم أن ذلك لم يؤمر به بل أمر بأن لا يخوض فيه فإنه ليس على قدر طاقته، لكن ينبغى أن يعتقد أنه أريد به معنى يليق بجلال الله وعظمته بما ليس بجسم ولا عرض فى جسم.

مثال آخر: إذا قرع سمعه النزول فى قوله (صلى الله عليه و سلم): “ينزل الله تعالى فى كل ليلة إلى السماء الدنيا”. فالواجب عليه أن يعلم أن النزول اسم مشترك قد يطلق إطلاقاً يفتقر فيه إلى ثلاثة أجسام: جسم عال هو مكان لساكنه، وجسم سافل كذلك، وجسم منتقل من السافل

ص322

إلى العالى ومن إلى العالى إلى السافل،

صفحة 322:

إلى العالى ومن العالى إلى السافل، فإن كان من أسفل إلى علو سمى صعوداً وعروجاً ورقياً، وإن كان من علو إلى أسفل سمى نزولاً وهبوطاً، وقد يطلق على معنى آخر ولا يفتقر فيه إلى تقدير انتقال وحركة فى جسم، كما قال الله تعالى: {وَأَنزَلَ لَكُم مِّنْ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الزمر:6]. وما رئى البعير والبقر نازلاً من السماء بالانتقال بل هى مخلوقة فى الأرحام ولإنزالها معنى لا محالة، كما قال الشافعى رضى الله عنه: دخلت مصر فلم يقيموا كلامى، فنزلت ثم نزلت ثم نزلت فلم يرد به انتقال جسده إلى أسفل فتحقق المؤمن قطعاً أن النزول فى حق الله تعالى ليس بالمعنى الأول وهو انتقال شخص وجسد من علو إلى أسفل، فإن الشخص والجسد أجسام والرب جل جلاله ليس بجسم فإن خطر له أنه لم يرد هذا فما الذى أراد فيقال له:أنت إذا عجزت عن فهم نزول البعير من السماء فأنت عن فهم نزول الله أعجز، فليس هذا بعشك فادرجى، واشتغل بعبادتك  أو حرفتك واسكت، واعلم أنه أريد به معنى من المعانى التى يجوز أن يراد بها النزول فى لغة العرب. ويليق ذلك المعنى بجلال الله تعالى وعظمته وإن كنت لا تعلم حقيقته وكيقيته.

ومثال آخر: إذا سمع لفظ الفوق فى قوله تعالى {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:18].

وفى قوله تعالى {يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ }[النحل:50]. فليعلم أن الفوق اسم مشترك يطلق لمعنيين:

أحدهما نسبة جسم إلى جسم بأن يكون أحدهما أعلى والآخر أسفل يعنى أن الأعلى من جانب رأس الأسفل وقد يطلق لفوقية الرتبة، وبهذا المعنى يقال: الخليفة فوق السلطان والسلطان فوق الوزير، وكما يقال: العلم فوق العلم، والأول يستدعى جسماً ينسب إلى جسيم.

والثانى: لا يستدعيه فليعتقد المؤمن قطعاً أن الأول غير مراد وأنه على الله تعالى محال، فإنه من لوازم الأجسام أو لوازم أعراض الأجسام وإذا عرف نفى هذا المحال فلا عليه إن لم يعرف أنه لماذا أطلق ماذا أريد فقس على ما ذكرناه.

الوظيفة الثانية: الإيمان والتصديق وهو أنه يعلم قطعاً أن هذه الألفاظ أريد بها معنى يليق بجلال الله وعظمته، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم صادق فى وصف الله تعالى به، فليؤمن بذلك وليوقن بأن ما قاله صدق وما أخبر عنه حق لاريب فيه وليقل آمنا وصدقنا، وأن ما وصف الله تعالى به نفسه أو وصفه به رسوله فهو كما وصفه وحق بالمعنى الذى أراده وعلى الوجه الذى قاله، وإن كنت لا تقف على حقيقته فإن قلت التصديق إنما يكون بعد التصور، والإيمان إنما يكون بعد التفهم، فهذه الألفاظ إذا لم يفهم العبد معانيها كيف يعتقد

صفحة 323:

صدق قائلها فيها؟ فجوابك أن التصديق بالأمور الجميلة ليس بمحال وكل عاقل يعلم انه أريد بهذه الألفاظ معان، وأن كل اسم فله مسمى إذا نطق به من أراد مخاطبة قوم قصد ذلك المسمى فيمكنه أن يعتقد كونه صادقاً مخبراً عنه على ما هو عليه، فهذا معقول على سبيل الإجمال، بل يمكن أن يفهم من هذه الألفاظ أمور جميلة غير مفصلة، ويمكن التصديق كما إذا قال فى البيت حيوان أمكن أن يصدق دون أن يعرف أنه إنسان أو فرس أو غيره، بل لو قال فيه شئ أمكن تصديقه وإن لم يعرف ما ذلك الشئ، فكذلك من سمع الاستواء على العرش فهم على الجملة أنه أريد بذلك نسبة خاصة إلى العرش فيمكنه التصديق قبل أن يعرف أن تلك النسبة هى نسبة الاستقرار عليه أو الإقبال على خلقه أو الاستيلاء عليه بالقهر أو معنى آخر من معانى النسبة فأمكن التصديق به، وإن قلت فأى فائدة فى مخاطبة الخلق بما لا يفهمون وجوابك أنه قصد بهذا الخطاب تفهيم من هو أهله وهم الأولياء والراسخون فى العلم وقد فهموا، وليس من شرط من خاطب العقلاء أن يخاطبهم بما بفهم الصبيان والعوام بالإضافة إلى العارفين كالصبيان بالإضافة إلى البالغين، ولكن على الصبيان أن يسألوا البالغين عما يفهمونه، وعلى البالغين أن يجيبوا الصبيان بأن هذا ليس من شأنكم ولستم من أصله فخوضوا فى حديث غيره فقد قيل للجاهل:{ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ }[النحل:43]. فإن كانوا يطيقوا فهموهم وإلا قالوا لهم: { وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً }[الإسراء:85]. فلا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم، وما لكم وهذا السؤال. هذه معان الإيمان بها واجب والكيفية مجهولة أى لكم، والسؤال عنها بدعة كما قال الإمام مالك: الاستواء معلوم والكيفية مجهولة والإيمان به واجب، فإذاً الإيمان بالجمليات التى ليست مفصلة فى الذهن يمكن ولكن تقديسه الذى هو نفى للمحال عنه ينبغى أن يكون مفصلاً، فإن المنفى هى الجسمية ولوازمها ونعنى بالجسم هاهنا الشخص المقدر الطويل العريض العميق،الذى يمنع غيره من أن يوجد بحيث هو الذى يدفع ما يطلب مكانه إن كان قوياً ويندفع وتنحى عن مكانه بقوة دافعة إن كان ضعيفاً، وإنما شرحنا هذا الفظ مع ظهوره لأن العامى ربما لا يفهم المراد به.

الوظيفة الثالثة: الاعتراف بالعجز ويجب على كل من لا يقف على كنه هذه المعانى وحقيقتها ولم يعرف تأويلها والمعنى المراد به أن يقر بالعجز، فإن التصديق واجب وهو عن دركة عاجز، فإن ادعى المعرفة فقد ذكب وذها معنى قول مالك: الكيفية مجهولة، يعنى تفضيل المراد به غير معلوم، بل الراسخون فى العلم والعارفو من الأولياء إن جاوزوا فى المعرفة حدود العوام وجالوا فى ميدان المعرفة وقطعوا من بواديها أميالاً كثيرة فما بقى لهم مما لم يبلغوه بين أيديهم أكثر بل لا نسبة لما طوى عنهم إلى ما كشف لهم لكثرة المطوى وقلة

صفحة 324:

المكشوف بالإضافة إليه والإضافة إلى المطوى المستور.قال سيد الأنبياء صلوات الله عليه: “لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك”. وبالإضافة إلى المكشوف، قال صلوات الله عليه: “أعرفكم بالله أخوفكم لله وأنا أعرفكم بالله”. ولأجل كون العجز والقصور ضرورياً فى آخر الأمر بالإضافة إلى منتهى الحال قال سيد الصديقين: العجز عن درك الإدراك إدراك، فأوائل حقائق هذه المعانى بالإضافة إلى عوام الخلق كأواخرها بالإضافة إلى خواص الخلق، فكيف لا يجب عليه الاعتراف بالعجز!.

الوظيفة الرابعة: السكوت عن السؤال وذلك واجب على العوام لأن بالسؤال متعرض لما لا يطيقه وخائض فيما ليس أهلاً له، فإن سأل جاهلاً زاده جوابه جهلاً وبما ورطه فى الكفر من حيث لا يشعر، وإن سأل عارفاً عجز العارف عن تفهيم بل عجز عن تفهيم ولده مصلحته فى خروجه إلى المكتب، بل عجز الصائغ عن تفهيم النجار دقائق صناعته، فإن النجار وإن كان بصيراً بصناعته فهو عاجز عن دقائق الصياغة لأنه إنما بعلم دقائق النجر لاستغراقه العمر فى تعلمه وممارسته، فكذلك يفهم الصائغ الصياغة أيضاً لصرف العمر إلى تعلمه وممارسته وقبل ذلك لايفهمه فالمشغولون بالدنيا وبالعلوم التى ليست من قبيل معرفة الله عاجزون عن معرفة الأمور الإلهية عجز كافة المعرضين عن الصناعان عن فهمها، بل عجز الصبى الرضيع عن الاعتذار بالخبز واللحم لقصور فى فطرته لا لعدم الخبز واللحم ولا لأنه قاصر على تغذية الأقوياء، لكن طبع الضعفاء قاصر عن التغذى به فمن أطعم الصبى الضعيف اللحم والخبز وأمكنه من تناوله فقد أهلكه، وكذلك العوام إذا طلبوا بالسؤال هذه المعانى يجب زجرهم ومنعهم وضربهم بالدرة كما كان يفعله عمر ضى الله عنه بكل من سأل عن الآيات المتشابهات، فقال صلى الله عليه وسلم””فبهذا أُمرتُم” وقال: “إنما أهلك من كان قبلكم بكثرة السؤال” أو لفظ هذا معناه كما اشتهر فى الخبر. ولهذا أقول يحرم على الوعاظ على رؤوس المنابر الجواب عن هذه الأسئلة بالخوض فى التأويل والتفصيل، بل الواجب عليهم الاقتصار كما ذكرناه وذكره السلف، وهو المبالغة فى التقديس ونفى التشبيه وأنه تعالى منزه عن الجسمية وعوراضها وله المبالغة فى هذا بما أراد حتى يقول: كل ما خطر ببالكم وهجس فى ضميركم وتصور فى خاطركم فإنه تعالى خالقها وهو منزه عنها وعن مشابهتها وأن ليس المراد بالأخبار شيئاً منذ لك، وأما حقيقة المراد فلستم من أهل معرفتها والسؤال عنها، فاشتغلوا بالتقوى فما أمركم الله تعالى به فافعلوه وما نهاكم عنه فاجتنبوه وهذا قد نهيتم عنه فلا تسألوا عنه ومهما سمعتم منه شيئاً فاسكتوا وقولوا آمنا وصدقنا وما أوتينا من العلم إلا قليلا، وليس هذا من جلمة ما أوتيناه.

صفحة 325:

الوظيفة الخامسة: الإمساك عن التصرف فى ألفاظ واردة يجب على عموم الخلق الجمود على ألفاظ هذه الأخبار والإمساك عن التصرف فيها من ستة أوحه: التفسير، والتأويل، والتصرف، والتفريع، والجمع، والتفريق.

الأول: التفسير وأعنى به تبديل اللفظ بلغة أخرى يقوم مقامها فى العربية أو معناها بالفارسية أو التركية، بل لا يجوز النطق إلا باللفظ الوارد لأن من الألفاظ العربية مالا يوجد لها فارسية تطابقها. ومنها ما يوجد لها فارسية تطابقها لكن ما جرت عادة الفرس باستعارتها للمعانى التى جرت عادة العرب باستعارتها منها. ومنها ما يكون مشتركاً فى العربية ولا يكون فى العجمية كذلك.

أما الأول: مثاله لفظ الاستواء فإنه ليس له فى الفارسية لفظ مطابق يؤدى بين الفرس من المعنى الذى يؤديه لفظ الاستواء بين العرب بحيث لا يشتمل على مزيد إيهام إذ فارسيته أن يقال:”راستا باستان” وهذان لفظان: الأول: ينبئ عن انتصاب واستقامة فيما يتصور أنه ينحنى ويعوج. والثانى: ينبئ عن سكون وثابت فيما يتصور أو يتحرك ويضطرب وإشعاره بهذه المعانى وإشارته إليها فى العجمية أظهر من إشعار لفظ الاستواء وإشارته إليها، فإذا تفاوت فى الدلاة والإشعار لم يكن هذا مثل الأول وإنما يجوز تبديل اللفظ بمثله المرادف له الذى لا يخالفه بوجه من الوجوه لا بما يباينه أو يخالفه ولو بأدنى شئ وأدقه وأخفاه.

ومثال الثانى: أن الأصبع يستعار فى لسان العرب للنعمة يقال لفلان عندى أصبع أى نعمة ومعناها بالفارسية انكشفت وما جرت عادة العجم بهذه الاستعارة، وتوسع العرب فى التجوز والاستعارة أكثر من توسع العجم بل لا نسبة لتوسع العرب إلى جمود العجم، فإذا أحسن إرادة المعنى المستعار له فى العرب وسمج ذلك فى العجم نفر القلب عما سمج ومجه السمع ولم يمل إليه، فإذا تفاوتا لم يكن التفسير تبديلاً بالمثل بل بالخلاف ولا يجوز التبديل إلا بالمثل.

مثال الثالث: العين فإن من فسره بأظهر معانيه، فيقول هو جسم وهو مشترك فى لغة العرب بين العضو الناصر وبين الماء والذهب والفضة، وليس اللفظ اسم وهو مشترك هذا الاشتراك وكذلك لفظ الجنب والوجه يقرب منه، فلأجل هذا نرى المنع من التبديل والاقتصار على العربية، فإن قيل: هذا التفاوت إن ادعيتموه فى جميع الألفاظ فهو غير صحيح إذ لا فرق بين قولك خبز ونان وبين قولك لحم وكوشت، وإن اعترف بأن ذلك فى البعض فامنع من التبديل عند التفاوت لا عند التماثل، فالجواب الحق أن التفاوت فى البعض لا فى الكل فهل لفظ اليد ولفظ دست يتساويان فى اللغتين وفى الاشتراك

صفحة 326:

والاستعارة وسائر الأمور ولكن إذا انقسم إلى ما يجوز وإلى ما لا يجوز وليس إدراك التمييز بينهما والوقوف على دقائق التفاوت جلياً سهلاً يسيراً على كافة الخلق بل يكثر فيه الإشكال ولا يتميز محل التفاوت عن محل التعادل، فنحن بين أن نحسم الباب احيتاطاً إذ لا حاجة ولا ضرورة إلى التبديل وبين أن نفتح الباب ونقحم عموم الخلق ورطة الخطر، فليت شعرى أى الأمرين أعزم واحوط، والمنظور فيه ذات الإله وصفاته وما عندى أن عاقلاً متديناً لا يقر بأن هذا الأمر مخطر، فإن الخطر فى الصفات الإلهية يجب اجتنابه. كيف وقد أوجب الشرع على الموطوءة العدة لبراءة الرحم وللحذر من خلط الأنساب احتياطاً لحكم الولاية والوراثة وما يترتب على النسب، فقالوا مع ذلك تجب العدة على العقيم والآيسة والصغيرة وعند العزل لأن باطن الأرحام إنما يطلع عليه علام الغيوب فإنه يعلم ما فى الأحرام، فلو فتحنا باب النظر إلى التفصيل كنا راكبين متن الخطر فإيجاب العدة حيث لا علوق أهون من ركوب هذا الخطر، كما أن إيجاب العدة حكم شرعى فتحريم تبديل العربية حكم * عن ثبت بالاجتهاد وترجيح الطريق الأول، ويعلم أن الاحتياط فى الخبر عن الله وعن صفاته وعما أراده بألفاظ القرآن أهم وأولى من الاحتياط فى العدة وما ما احتاط به الفقهاء من هذا القبيل.

أما التصرف الثانى: التأويل، وهو بيان معناه بعد إزالة ظاهره وهذا إما يقع من العامى نفسه، أو من العارف مع العامى، أو من العارف مع نفسه وبينه وبين ربه، فهذه ثلاثة مواضع.

الأول: تأويل العامى على سبيل الاشتغال بنفسه وهو حرام يشبه خوض البحر المغرق ممن لا يحسن السباحة. ولاشك فى تحريم ذلك، وبحر معرفة الله أبعد غوراً وأكثر معاطب ومهالك من بحر الماء، لأن هلاك هذا البحر لا حياة بعده وهلاك بحر الدنيا لا يزيل إلا الحياة الفانية وذلك يزيل الحياة الأبدية فشتان بين الخطرين.

الموضع الثانى: أن يكون ذلك من العالم مع العامى وهو أيضاً ممنوع، ومثاله: أن بحر السباح الغواص فى البحر مع نفسه عاجزاً عن السباحة مضطرب القلب والبدن وذلك حرام لأنه عرضة لخطر اللهاك فإنه لا يوقى على حفظه فى لجة البحر، وإن قدر على حفظه فى القرب من الساحل ولو أمره بالوقوف بقرب الساحل لا يطيعه، وإن أمره بالسكون عند التطام الأمواج وإقبال التماسيح وقد فغرت فاها للالتقام اضطرب قلبه وبدنه ولم يسكن على حسب مراده لقصور طاقته، وهذا هو المثال الحق للعالم إذا فتح للعامى باب التأويلات والتصرف فى خلاف الظواهر، وفى معنى العوام الأديب النحوى والمحدث والمفسر والفقيه والمتكلم بل كل عالم سوى المتجردين لعلم السابحة فى بحار المعرفة القاصرين أعمارهم

صفحة 327:

عليه، الصارفين وجوههم عن الدنيا والشهوات، المعرضين عن المال والجاه والخلق وسائر اللذات، المخلصين لله تعالى فى العلوم والأعمال، بجميع حدود الشريعة وآدابها فى القيام بالطاعات وترك المنكرات، المفرغين قلوبهم بالجملة عن غير الله تعالى لله، المستحقرين للدنيا بل الأخرة والفردوس الأعلى فى جنب محبة الله تعالى، فهؤلاء هم أهل الغوص فى بحر المعرفة وهم مع ذلك كله على خطر عظيم يهلك من العشرة تسعة إلى أن يسعد واحد بالذر المكنون والسر المخزون، أولئك الذين سبقت لهم من الله الحسنى فهم الفائزون {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} [القصص:69].

الموضع الثالث: تأويل العارف مع نفسه فى سر قلبه بينه وبين ربه وهو على ثلاثة أوجه، فإن الذى انقدح فى سره أن المراد من لفظ الاستواء والفوق مثلاً إما أن يكون مقطوعاً به أو مشكوكاً فيه أو مظنوناً ظناً غالباً. فإن كان قطعياً فليعتقده، وإن كان مشكوكاً فليجتنبه ولا يحكمن على مراد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم من كلامه باحتمال يعارضه مثله من غير ترجيح، بل الواجب على الشاك التوقف، وإن كان مظنوناً فاعلم أن للظن متعلقين: أحدهما: أن المعنى الذى انقدح عنده هل هو جائز فى حق الله تعالى أم هو محال؟ والثانى: أن يعلم قطعاً جوزاه ولكن تردد فى أنه هل هو مراده أم لا؟

مثال الأول: تأويل لفظ فوق بالعلو المعنوى الذى هو المراد بقولنا السلطان فوق الوزير، فإنا لا نشك فى ثبوت معناها لله تعالى ولكن ربما نتردد فى أن لفظ فوق فى قوله:{ يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ}[النحل:50]. هل أريد به العلو المعنوى أم أريد به معنى أخر يليق بجلال الله تعالى دون العلو بالمكان الذى هو محال على ما ليس بجسم ولا هو صفة فى جسم.

ومثال الثانى: تأويل لفظ الاستواء على العرش، بأنه أراد به النسبة الخاصة التى للعرش ونسبته أن الله تعالى يتصرف فى جميع العالم ويدبر الأمر من السماء إلى الأرض بوسطة العرش فإنه لا يحدث فى العالم صورة ما لم يحدثه فى العرش، كما لا يحدث النقاش والكاتب صورة وكلمة على البياض ما لم يحدثه فى الدماغ. بل لا يحدث البناء صورة الأبنية ما لم يحدث صورتها فى الدماغ، فبواسطة الدماغ يدبر القلب أمر عالمه الذى هو بدنة فربما نتردد فى أن إثبات هذه النسبة للعرش إلى الله تعالى هل جائز، إما لوجود فى نفسه أو لأنه أجرى به سنته وعادته وإن لم يكن خلافه محالاً كما أجرى عادته فى حق قلب الإنسان بأن لا يمكنه التدبير إلا بواسطة الدماغ، وإن كان فى قدرة الله تعالى تمكينه منه دون الدماغ لو سبقت به إرادته الأزلية وحقت به الكلمة القديمة التى هى علمه فصار خلافه ممتنعاً لا لقصور فى ذات القدرة ولكن لاستحالة ما يخالف الإرادة القديمة والعلم السابق

صفحة 328:

الأزلى، ولذلك قال: {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا} [الأحزاب:62 ، الفتح:23]. وإنما لا تتبدل لوجوبها وإنما وجوبها لصدورها عن إرادة أزلية واجبة، ونتيجة الواجب واجبة ونقيضها محال وإن لم يكن محالاً فى ذاته، ولكنه محال لغيره وهو إفضاؤه إلى أن ينقلب العلم الأولى جهلاً ويمنع نفوذ المشيئة الأزلية، فإذاً إثبات هذه النسبة لله تعالى مع العرش فى تدبير المملكة بواسطته إن كان جائزاً عقلاً، فهل واقع وجوداً؟ هذا مما قد يتردد فيه الناظر وبما يظن وجوده هذا مثال الظن فى نفس المعنى، والأول مثال الظن فى كون المعنى مراداً باللفظ مع كون المعنى فى نفسه صحيحاً جائزاً وبينهما فرقان، لكن كل واحد من الظنين إذا انقدح فى النفس وحاك فى الصدر فلا يدخل تحت الاختبار دفعة عن النفس ولا يمكنه أن يظن، فإن للظن أسباباً ضرورية لا يمكن دفعها ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، لكن عليه وظيفتان:

إحداهماك أن لا يدع نفسه تطمئن إليه جزماً من غير شعور بإمكان الغلط فيه، ولا ينبغى أن يحكم من نفسه بموجب ظنه حكما ًجازماً.

والثانى: أنه إن ذكره لم يطلق القول بأن المراد بأن بالاستواء كذا، أو المراد بالفوق كذا، لأنه حكم بما لا يعلم، وقد قال الله تعالى:{ وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء:36]. لكن يقول: أنا أظن كذا فيكون صادقاً عن خبره عن نفسه وعن ضميره، ولا يكون حكماً على صفة الله ولا على مراده بكلامه، بل حكماً على نفسه ونبأ عن ضميره، فإن قيل: وهل يجوز ذكر هذا الظن مع كافة الخلق والتحدث به كما اشتمل ضميره، وكذلك لو كان قاطعاً، فهل له أن يتحدث به؟ قلنا: تحدثه به إنما يكون على أربعة أوجه: فإما أن يكون مع نفسه أو مع من هو مثله فى الاستبصار أو مع من هو مستعد للاستبصار بذكائه وفطنته وتجرده لطلب معرفة الله تعال، أو مع العامى فإن كان قاطعاً فله أن يحدث نفسه به ويحدث من هو مثله فى الاستبصار أو من هو متجرد لطلب المعرفة مستعد له خال عن الميل إلى الدنيا والشهوات والتعصبات للمذاهب وطلب المباهاة لالمعافر والتظاهر بذكرها مع الوام. فمن اتصف بهذه الصفات فلا بأس بالتحدث معه لأن الفطن المتعطش إلى المعرفة للمعرفة لا لغرض آخر يحيك فى صدره أشكال الظواهر وربما يلقيه فى تأويلات فاسدة لشدة شرهه على الفرار عن مقتضى الظواهر ومنع العلم أهله-علم- كبثه إلى غير أهله، وأما العامى فلا ينبغى أن بحدث به وفى معنى العامى كل من لا يتصف بالفات المذكورة، بل مثاله ما ذكرناه من إطعام الرضيع الأطعمة القوية التى لا يطيقها. وأما المظنون فتحدثه مع نفسه اضطرار فإن ما ينطوى عليه الذهن من طن وك وقطع لا زالت النفس تتحدث به ولا قدرة على الخلاص منه، فلا منع منه ولاشك فى منع التحدث

صفحة 329:

به مع العوام، بل هو أولى بالمنع من المقطوع. أما تحدثه مع من هو فى مثل درجته فى المعرفة أو مع المستعد له ففه نظر، فيحتمل أن يقال هو جائز ولا يزيد على أن يقول أظن كذا وهو صادق، ويحتمل المنع لأنه قادر على تركه وهو بذكره متصرف بالظن فى صفة الله تعالى أو فى مراده من كلامه وفيه خطر، واباحته تعرف بنص أو إجماع أو قياس على منصوص ولم يرد شئ من ذلك بل ورد قوله تعالى :{ وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء:36]. فإن قيل يدل على الجواز ثلاثة أمور:

الأول: الدليل الذى دل على إباحة الصدق وهو صادق، فإنه ليس يخبر إلا عن ظنه وهو ظان.

والثانى: أقاويل المفسرين فى القرآن بالحدس والظن، إذ كل ما قالوه غير مسموع من الرسول صلى الله عليه وسلم بل هو مستنبط بالاجتهاد ولذلك كثرت الأقاويل وتعارضت.

والثالث:اجماع التابعين على نقل الأخبار المتشابهة التى نقلها آحاد الصحابة ولم تتواتر، وما اشتمل عليه الصحيح الذى نقله العدل عن العدل فإنهم جوزوا روايته ولا يحصل بقول العدل إلا الظن.

والجواب عن الأول: أن المباح صدق يخشى منه ضرر، وبث هذه الظنون لا يخلو عن ضرر فقد يسمعه من يسكن إليه ويعتقده جزماً فيحكم فى صفات الله تعالى بغير علم وهو خطر والنفوس نافرة عن أشكال الظواهر، فإذا وجد مستروحاً من المعنى ولو كان مظنوناً سكن إليه واعتقد جزماً، وربما يكون غلطاً فيكون قد اعتقد فى صفات الله تعالى ما هو الباطل أو حكم عليه فى كلامه بما لم يرد به.

وأما الثانى: وهو أقاويل المفسرين بالظن فلا نسلم ذلك فيما هو من صفات الله تعالى كالاستواء والفوق وغيره، بل لعل ذلك فى الأحكام الفقهية أو فى حكايات أحوال الأنبياء والكفار والمواعظ والأمثال وما لا يعظم خطر الخطأ فيه.

وأما الثالث: فقد قال قائلون لا يجوز أن يعتمده فى هذا الباب إلا ما ورد فى القرآن أو تواتر عن الرسول صلى الله عليه وسلم تواتراً بعيد العلم. فأما أخبار الآحاد، فلا يقبل فيه ولا نشتغل بتأويله عند من يميل إلى التأويل، ولا بروايته عند من يقتصر على الرواية، لأن ذلك حكم بالمظنون واعتماد عليه، وما ذكروه ليس ببعيد لكنه مخالف لظاهر ما درك عليه السلف، فإنهو قبلوا هذه الأخبار من العدول ورووها وصححوها فالجواب من وجهين:

أحدهما: أن التابعين كانوا قد عرفوا من أدلة الشرع أنه لا يجوز اتهام العدل بالكذب لاسيما فى صفات الله تعالى، فإذا روى الصديق رضى الله عنه خبراً، وقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كذا فرد روايته تكذيب له ونسبة له إلى الوضع أو إلى السهو فقبلوه وقالوا:

صفحة 330

قال أبو بكر ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أنس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذا في التابعين ، فالآن إذا ثبت عندهم بأدلة الشرع أنه لاسبيل إلى اتهام العدل التقى من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين ، فمن أين يجب أن لايتهم ظنون الآحاد وأن ينزل الظن منزلة نقل العدل مع أن بعض الظن إثم. فإذا قال الشارع : ماأخبركم به العدل فصدقوه واقبلوه وانقلوه واظهروه فلا يلزم من هذا أن يقال ماحدثتكم به نفوسكم من ظنونكم فاقبلوه واظهروه وارووا عن ظنونكم وضمائركم ونفوسكم ماقالته ، فليس هذا في معنى المنصوص ، ولهذا تقول مارواه غير العدل من هذا الجنس ينبغي أن يعرض عنه ولايروى ويحتاط فيه أكثر مما يحتاط في المواعظ والأمثال وما يجري مجراها.

والجواب الثاني : أن تلك الأخبار روتها الصحابة لأنهم سمعوه يقينا فما نقلوا إلا تيقنوه والتابعون قبلوه ورووه ، وماقالوا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا ، بل قالوا : قال فلان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكانوا صادقين ، وماأهملوا روايته لاشتمال كل حديث على فوائد سوى اللفظ الموهم عند العارف معنى حقيقياً يفهمه منه ليس ذلك ظنياً في حقه . مثال رواية الصحابي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله : (ينزل الله تعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا فيقول هل من داع فأستجيب له ، هل من مستغفر فأغفر له) ، الحديث. فهذا الحديث سيق لنهاية الترغيب في قيام الليل وله تأثير عظيم في تحريك الدواعي للتهجد الذي هو أفضل العبادات ، فلو ترك هذا الحديث لبطلت هذه الفائدة العظيمة ولاسبيل إلى إهمالها وليس فيه إلا إيهام لفظ النزول عند الصبي ، والعامي الجاري مجرى الصبي ، وماأهون على البصير أن يغرس في قلب العامي التنزيه والتقديس عن صورة النزول بأن يقول له : إن كان نزوله إلى السماء الدنيا ليسمعنا نداءه وقوله فما أسمعنا فأي فائدة في نزوله ، ولقد كان يمكنه أن ينادينا كذلك وهو على العرش أو على السماء العليا ، فهذا القدر يعرف العامي أن ظاهر النزول باطل بل مثاله أن يريد من في المشرق إسماع شخص في المغرب ومناداته ، فيتقدم إلى المغرب بأقدام معدودة وأخذ يناديه وهو يعلم أنه لايسمع ، فيكون نقله الأقدام عملاً باطلاً وفعلاً كفعل المجانين ، فكيف يستقر مثل هذا في قلب عاقل ، بل يضطر بهذا القدر كل عامي إلى أن يتيقن نفي صورة النزول ، وكيف وقد علم استحالة الجسمية عليه واستحالة الانتقال على غير الأجسام كاستحالة النزول من غير انتقال ، فإذاً الفائدة في نقل هذه الأخبار عظيمة والضرر يسير ، فأنى يساوي هذا حكاية الظنون المنقدحة في الأنفس ، فهذه سبل تجاذب طرق الاجتهاد في إباحة ذكر التأويل المظنون أو المنع ، ولايبعد ذكر وجه ثالث وهو أن ينظر إلى قرائن حال السائل والمستمع ، فإن علم أنه ينتفع به ذكره ، وإن علم أنه يتضرر تركه ، وإن ظن أحد الأمرين كان ظنه كالعالم في إباحة الذكر ، وكم من إنسان لاتتحرك داعيته باطناً إلى معرفة هذه المعانى ولايحيك في نفسه إشكال من ظواهرها ، فذكر

=========================================

صفحة 331

التأويل معه مشوش ، وكم من إنسان يحيك في نفسه إشكال الظاهر حتى يكاد أن يسوء اعتقاد في الرسول صلى الله عليه وسلم وينكر قوله الموهم ، فمثل هذا لو ذكر معه الاحتمال المظنون بل مجرد الاحتمال الذي ينبو عنه اللفظ انتفع به ولابأس بذكره معه فإنه دواء لدائه ، وإن كان داء في غيره ، ولكن لاينبغي أن يذكر على رءوس المنابر لأن ذلك يحرك الدواعي الساكنة من أكثر المستمعين ، وقد كانوا عنه غافلين وعن إشكاله منفكين ، ولما كان زمان السلف الأول زمان سكون القلب بالغوا في الكف عن التأويل خيفة من تحريك الدواعي وتشويش القلوب ، فمن خالفهم في ذلك الزمان فهو الذي حرك الفتنة وألقى هذه الشكوك في القلوب مع الاستغناء عنه فباء بالإثم . أما الآن وقد فشا ذلك في بعض البلاد فالعذر في إظهار شيء من ذلك رجاء لإماطة الأوهام الباطلة عن القلوب أظهر واللوم عن قائله أقل فإن قيل فقد فرقتم بين التأويل المقطوع والمظنون فبماذا يحصل القطع بصحة التأويل ؟ قلنا بأمرين :

أحدهما : أن يكون المعنى مقطوعاً ثبوته لله تعالى كفوقية المرتبة.

الثاني : أن لايكون اللفظ محتملاً إلا لأمرين وقد بطل أحدهما وتعين الثاني مثاله قوله تعالى : (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ) (الأنعام: 18) . فإنه إن ظهر في وضع اللسان أن الفوق لايحتمل إلا فوقية المكان أو فوقية الرتبة ، وقد بطل فوقية المكان لمعرفة التقديس لم يبق إلا فوقية الرتبة كما يقال : السيد فوق العبد ، والزوج فوق الزوجة ،والسلطان فوق الوزير ، فالله فوق عباده بهذا المعنى وهذا كالمقطوع به في لفظ الفوق وأنه لايستعمل لسان العرب إلا في هذين المعنيين ، أما لفظ الاستواء إلى السماء وعلى العرش ربما لاينحصر مفهومه في اللغة هذا الانحصار، وإذا تردد بين ثلاثة معان معنيان جائزان على الله تعالى ومعنى واحد وهو الباطل ، فتنزيله على أحد المعنيين الجائزين أن يكون بالظن وبالاحتمال المجرد وهذا تمام النظر في الكف عن التأويل.

التصريف الثالث : الذي يجب الإمساك عنه التصريف ، ومعناه أنه إذا ورد قوله تعالى :(اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ). فلاينبغي أن يقال مستو ويستوي ، لأن المعنى يجوز أن يختلف لأن دلالة قوله هو مستو على العرش على الاستقرار أظهر من قوله : (رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) [الرعد: 2] بل هو كقوله : (خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ) [البقرة :29] . فإن هذا يدل على استواء قد انقضى من إقبال على خلقه أو على تدبير المملكة بواسطته ، ففي تغيير التصاريف مايوقع في تغيير الدلالات والاحتمالات ، فليتجنب التصريف كما يجتنب الزيادة فإن تحت التصرف الزيادة والنقصان.

===========================================

صفحة 332

التصرف الرابع : الذي يجب الإمساك عنه القياس والتفريغ مثل : أن يرد لفظ اليد فلا يجوز إثبات الساعد والعضد والكف مصيراً إلى أن هذا من لوازم اليد ، وإذا ورد الأصبع لم يجز ذكر الأنملة كما لايجوز ذكر اللحم والعظم والعصب ، وإن كانت اليد المشهورة لاتنفك عنه وأبعد من هذه الزيادة إثبات الرجل عند ورود اليد ، وإثبات الفم عند ورود العين أو عند ورود الضحك وإثبات العين والأذن عند ورود السمع والبصر ، وكل ذلك محال وكذب وزيادة ، وقد يتجاسر بعض الحمقى من المشبهة الحشوية فلذلك ذكرناه.

التصرف الخامس: لايجمع بين متفرق ، ولقد بعد عن التوفيق من صنف كتاباً في جمع الأخبار خاصة ورسم في كل عضو باباً فقال : باب في إثبات الرأس وباب في اليد إلى غير ذلك ، وسماه : كتاب الصفات . فإن هذه كلمات متفرقة صدرت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في أوقات متفرقة متباعدة اعتماداً على قرائن مختلفة تفهم السامعين معانٍ صحيحة ، فإذا ذكرت مجموعة على مثال خلق الإنسان صار جمع تلك المتفرقات في السمع دفعة واحدة عظيمة في تأكيد الظاهر وإيهام التشبيه وصار الإشكال في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نطق بما يوهم خلاف الحق أعظم في النفس وأوقع ، بل الكلمة الواحدة يتطرق إليها الاحتمال ، فإذا اتصل بها ثانية وثالثة ورابعة من جنس واحد صار متواليا يضعف الاحتمال بالإضافة إلى الجملة ، ولذلك يحصل من الظن بقول المخبرين وثلاثة مالا يحصل بقول الواحد ، بل يحصل من العلم القطعي بخبر التواتر مالايحصل بالآحاد ويحصل من وكل ذلك نتيجة الاجتماع إذ يتطرق الاحتمال إلى قول كل عدل وإلى كل واحدة من القرائن ، فإذا انقطع الاحتمال أو ضعف فلذلك لايجوز جمع المفترقات.

التصرف السادس : التفريق بين المجتمعات فكما لايجمع بين متفرقة فلا يفرق بين مجتمعة ، فإن كل كلمة سابقة على كلمة أو لاحقة لها مؤثرة في تفهم معناه مطلقاً ومرجحة الاحتمال الضعيف فيه ، فإذا فرقت وفصلت سقطت دلالتها مثال قوله تعالى :(وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ) [الأنعام: 18] . لاتسلط على أن يقول القائل هو فوق ، لأنه إذا ذكر القاهر قبله ظهر دلالة الفوق على الفوقية التي للقاهر مع المقهور وهي فوقية الرتبة ولفظ القاهر يدل عليه بل يجوز أن يقول وهو القاهر فوق غيره ، بل ينبغي أن يقول فوق عباده لأن ذكر العبودية في وصفه في الله فوقه يؤكد احتمال فوقية السيادة إذ لايحسن أن يقال زيد فوق عمر . وقبل أن يتبين تفاوتهما في معنى السيادة والعبودية أو غلبة القهر أو نفوذ الأمر بالسلطنة أو بالأبوة أو بالزوجية ، فهذه الأمور يغفل عنها العلماء فضلاً عن العوام ، فكيف يسلط العوام في مثل ذلك على التصرف بالجمع والتفريق والتأويل والتفسير وأنواع التغيير ، ولأجل هذه الدقائق بالغ السلف في الجمود والاقتصار على موارد التوفيق كما ورد

=======================================

صفحة 333

على الوجه الذي ورد وباللفظ الذي ورد والحق ماقالوه والصواب مارأوه ، فأهم المواضع بالاحتياط ماهو تصرف في ذات الله وصفاته ، وأحق المواضع بإلجام اللسان وتقييده عن الحريات فيما يعظم فيه الخطر وأي خطر أعظم من الكفر.

الوظيفة السادسة : في الكف بعد الإمساك . وأعني بالكف كف الباطن عن التفكير في هذه الأمور ، فذلك واجب عليه كما وجب عليه إمساك اللسان عن السؤال والتصرف ، وهذا أثقل الوظائف وأشدها وهو واجب كما وجب على العاجز الزمن أن يخوض غمرة البحار ، وإن كان يتقاضاه طبعه أن يغوص في البحار ويخرج دررها وجواهرها ، ولكن لا ينبغي أن تغره نفاسة جواهرها مع عجزه عن نيلها ، بل ينبغي أن ينظر إلى عجزه وكثرة معاطبها ومهالكها ويتفكر أنه إن فاته نفائس البحار فما فاته إلا زيادات وتوسعات في المعيشة وهو مستغن عنها ، فإن غرق أو التقمه تمساح فإنه أص الحياة . فإن قلت : إن لم ينصرف قلبه من التفكر والتشوف إلى البحث فما طريقه ؟ قلت : طريقه أن يشغل نفسه بعبادة الله وبالصلاة وقراءة القرآن والذكر ، فإن لم يقدر فبعلم آخر لايناسب هذا الجنس من لغة أو نحو أو خط أو طب أو فقه ، فإن لم يمكنه فبحرفة أو صناعة ولو الحراثة والحياكة ، فإن لم يقدر فبلعب ولهو وكل ذلك خير له من الخوض في هذا البحر البعيد غوره وعمقه العظيم خطره وضرره ، بل لو اشتغل العامي بالمعاصي البدنية ربما كان أسلم له من أن يخوض في البحث عن معرفة الله تعالى ، فإن ذلك غايته الفسق وهذا عاقبته الشرك (إِنَّ اللهَ لايَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلكَ لِمَنْ يَشَاءُ) [النساء :116].

فإن قلت : العامي إذا لم تكن نفسه إلى الاعتقادات الدينية إلا بدليل ، فهل يجوز أن يكون له الدليل فإن جوزت ذلك فقد رخصت له في التفكر والنظر ، وأي فرق بينه وبين غيره؟

الجواب : أني أجوز له أن يسمع الدليل على معرفة الخالق ووحدانيته وعلى صدق الرسول وعلى اليوم الآخر ولكن بشرطين : أحدهما : أن لايزاد معه على الأدلة التي في القرآن. والآخر : أن لايمارى فيه مراءً ظاهراً ولايتفكر فيه إلا تفكراً سهلاً جلياً ولايمعن في التفكر ولايوغل غاية الإيغال في البحث ، وأدلة هذه الأمور الأربعة ماذكر في القرآن.

أما الدليل على معرفة الخالق فمثل قوله تعالى : (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ) [يونس :31] . وقوله : (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ

==============================================

صفحة 334

بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) ) [ق: 6-10]. وكقوله : ( فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا ) [عبس: 24-31] . وقوله : (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا) إلى قوله : (وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً) [النبأ : 6-16]. وأمثال ذلك هي قريب من خمسمائة آية جمعناها في كتاب جواهر القرآن بها ينبغي أن يعرف الخلق جلال الله الخالق وعظمته لابقول المتكلمين إن الأعراض حادثة ، وإن الجواهر لاتخلو عن الأعراض الحادثة ثم الحارث يفتقر إلى محدث ، فإن تلك التقسيمات والمقدمات وإثباتها بأدلتها الرسمية يشوش قلوب العوام ، والدلالات الظاهرة القريبة من الأفهام على مافي القرآن تنفعهم وتسكن نفوسهم وتغرس في قلوبهم الاعتقادات الجازمة.

وأما الدليل على الوحدانية فيقنع فيه بما في القرآن من قوله تعالى 🙁 لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا) [الأنبياء:22]. فإن اجتماع المديرين سبب إفساد التدبير ، وبمثل قوله : (لَوْ كَانَ مَعَهُ آَلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا) [الإسراء:42]. وقوله تعالى : (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ) [المؤمنون :91] . وأما صدق الرسول فيستدل عليه بقوله تعالى :(قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا) [الإسراء: 88] . وبقوله :(فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ) [البقرة:23]. وقوله :(قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ) [هود: 13] . وأمثاله ، وأما اليوم الآخر : فيستدل عليه بقوله تعالى : (قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ) [يس: 78،79] . وبقوله :(أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى) إلى قوله :(أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى) [القيامة: 36، 40]. وبقوله :(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ) إلى قوله :(فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) [الحج: 5]. وأمثال ذلك كثير في القرآن ، فلاينبغي أن يزاد عليه.

فإن قيل : فهذه الأدلة التي اعتمدها المتكلمون وقرروا وجه دلالتها ، فما بالهم يمتنعون عن تقرير هذه الأدلة ولايمتنعون عنها ، وكل ذلك مدرك بنظر العقل وتأمله فإن فتح للعامي باب النظر فليفتح مطلقاً أو ليسد عليه طريق النظر رأساً وليكلف التقليد من غير دليل.

الجواب: إن الدلالة تنقسم إلى مايحتاج فيه إلى تفكر وتدقيق خارج عن طاقة العامي وقدرته ، وإلى ماهو جلي سابق إلى الأفهام ببادئ الرأي من أول النظر مما يدركه

========================================

صفحة 335

كافة الناس بسهولة ، فهذا لا خطر فيه ، ومايفتقر إلى التدقيق فليس على حد وسعه ، فأدلة القرآن مثل الغذاء ينتفع به كل إنسان ، وأدلة المتكلمين مثل الدواء ينتفع به آحاد الناس وتستضر به الأكثرون ، بل أدلة القرآن كالماء الذي ينتفع به الصبي الرضيع والرجل القوي وسائر الأدلة كالأطعمة التي ينتفع بها الأقوياء مرة ويمرضون بها أخرى ولاينتفع بها الصبيان أصلاً ، ولهذا قلنا أدلة القرآن أيضاً ينبغي أن يصغي إليها إصغاء إلى كلام جلي ولا يماري في الإمراء ظاهراً ، ولايكلف نفسه تدقيق الفكر وتحقيق النظر ، فمن الجلي أن من قدر على الابتداء فهو على الإعادة أقدر ، كما قال : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الروم :27]. وأن التدبير لاينتظم في دار واحدة بمدبرين ، فكيف ينتظم في كل العالم؟ وأن من خلق علم كما قال تعالى : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ) [الملك : 14] . فهذه الأدلة تجري للعوام مجرى الماء الذي جعل الله منه كل شيء حي ، وماأخذه المتكلمون وراء ذلك من تنقير وسؤال وتوجيه إشكال ثم اشتغال بحله فهو بدعة وضرره في حق أكثر الخلق ظاهر ، فهو الذي ينبغي أن يتوقى. والدليل على تضرر الخلق به المشاهدة والعيان والتجربة وماثار من الشر منذ نبغ المتكلمون وفشت صناعة الكلام مع سلامة العصر الأول من الصحابة عن مثل ذلك ، ويدل عليه أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة بأجمعهم ماسلكوا في المحاجة مسلك المتكلمين في تقسماتهم وتدقيقاتهم لا لعجز منهم عن ذلك ، فلو علموا أن ذلك نافع لأطنبوا فيه ولخاضوا في تحرير الأدلة خوضاً يزيد على خوضهم في مسائل الفرائض.

فإن قيل : إنما أمركو عنه لقلة الحاجة ، فإن البدع إنما نبغت بعدهم فعظم حاجة المتأخرين ، وعلم الكلام راجع إلى علم معالجة المرضى بالبدع ، فلما قلت في زمانهم أمراض البدع قلت عنايتهم بجميع طرق المعالجة ، فالجواب من وجهين.

أحدهما : أنهم في مسائل الفرائض مااقتصروا على بيان حكم الوقائع ، بل وضعوا المسائل وفرضوا فيها ماتنقضي الدهور ولايقع مثله لأن ذلك مما أمكن وقوعه فصفوا علمه ورتبوه قبل وقوعه إذ علموا أنه لاضرر في الخوض فيه وفي بيان حكم الواقعة قبل وقوعها ، والعناية بإزالة البدع ونزعها عن النفوس أهم فلم يتخذوا ذلك صناعة لأنهم عرفوا أن الاستضرار بالخوض فيه أكثر من الانتفاع ، ولولا أنهم كانوا قد حذروا من ذلك وفهموا تحريم الخوض لخاضوا فيه.

والجواب الثاني : أنهم كانوا محتاجين إلى محاجة اليهود والنصارى في إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، وإلى إثبات البعث مع منكريه ، ثم مازادوا في هذه القواعد التي هي أمهات العقائد على أدلة القرآن ، فمن أقنعه ذلك قبلوه ومن لم يقنع قتلوه وعدلوا إلى السيف

====================================

صفحة 336

والسنان بعد إفشاء أدلة وماركبوا ظهر اللجاج في وضع المقاييس العقلية وترتيب المقدمات وتحريم طريق المجادلة وتذليل طرقها ومنهاجها ، كل ذلك لعلمهم بأن ذلك مثار الفتن ومنبع التشويش ومن لايقنعه أدلة القرآن لايقمعه إلا السيف والسنان ، فما بعد بيان الله بيان على أننا ننصف ولاننكر أن حاجة المعالجة تزيد بزيادة المرض وأن لطول الزمان وبعد العهد عن عصر النبوة تأثيراً في إثارة الإشكالات وأن للعلاج طريقين:

أحدهما: الخوض في البيان والبرهان إلى أن يصلح واحد يفسد به اثنان ، فإن صلاحه بالإضافة إلى الأكياس وفساده بالإضافة إلى البله وما أقل الأكياس وما أكثر البله والعناية بالأكثر أولى.

الطريق الثاني : طريق السلف في الكف والسكوت والعدول إلى الدرة والسوط والسيف ، وذلك مما يقتنع الأكثرين وإن كان لايقنع الأقلين ، وآية إقناعه أن من يسترق من الكفار من العبيد والإماء تراهم يسلمون تحت ظلال السيوف ثم يستمرون عليه حتى يصير طوعاً ماكان في البداية كرهاً ، ويصير اعتقاداً جزماً ماكان في الابتداء مراءً وشكاً ، وذلك بمشاهدة أهل الدين والمؤانسة بهم وسماع كلام الله ورؤية الصالحين وخبرهم وقرائن من هذا الجنس تناسب طباعهم مناسبة أشد من مناسبة الجدل والدليل ، فإذا كان كل واحد من العلاجين يناسب قوماً دون قوم وجب ترجيح الأنفع في الأكثر ، فالمعاصرون للطبيب الأول المؤيد بروح القدس المكاشف من الحضرة الإلهية الموحي إليه من الخبير البصير بأسرار عباده وبواطنهم أعرف بالأصوب والأصلح قطعاً ، فسلوك سبيلهم لامحالة أولى.

الوظيفة السابعة : التسليم لأهل المعرفة وبيان أنه يجب على العامي أن يعتقد أن ما انطوى عنه من معاني هذه الظواهر وأسرارها ليس منطويا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعن الصديق ، وعن أكابر الصحابة ، وعن الأولياء والعلماء الراسخين ، وأنه إنما انطوى عنه لعجزه وقصور معرفته ، فلاينبغي أن يقيس بنفسه غيره فلاتقاس الملائكة بالحدادين وليس مايخلو عنه مخادع العجائز يلزم منه أن يخلو عنه خزائن الملوك ، فقد خلق الناس أشتاتا متفاوتين كمعادن الذهب والفضة وسائر الجواهر ، فانظر إلى تفاوتها وتباعد مابينهما صورة ولونا وخاصية ونفاسة ، فكذلك القلوب معادن لسائر جواهر المعارف ، فبعضها معدن النبوة والولاية والعمل ومعرفة الله تعالى ، وبعضها معدن للشهوات البهيمية والاخلاق الشيطانية ، بل ترى الناس يتفاوتون في الحرف والصناعات فقد يقدر الواحد بخفة يده وحذاقة صنعته على أمور لايطمع الآخر في بلوغ أوائله فضلاً عن غايته ، ولو اشتغل بتعلمه جميع عمره. فكذلك معرفة الله تعالى ، بل كما ينقسم الناس إلى جبان عاجز لايطيق النظر إلى التطام أمواج البحر وإن كان على ساحله ، وإلى من يطيق ذلك لكن لايطيق رفع الرجل عن

=============================

صفحة 337

الأرض اعتماداً على السباحة ، وإلى من يطيق السباحة إلى حد قريب من الشط لكن لا يمكنه الخوض في أطرافه وإن كان قائماً في الماء على رجله ، وإلى من يطيق ذلك لكن لا يطيق خوض البحر إلى لجته والمواضع المغرقة المخطرة ، وإلى من يطيق ذلك لكن لايطيق الغوص في عمق البحر إلى مستقره الذي فيه نفائسه وجوهره ، فهكذا مثال بحر المعرفة وتفاوت الناس فيه مثله حذو القذة بالقذة من غير فرق.

فإن قيل : فالعارفون محيطون بكمال معرفة الله سبحانه حتى لاينطوي عنهم شيء.

قلنا : هيهات فقد بينا بالبرهان القطعي في كتاب المقصد الأقصى في معاني أسماء الله الحسنى أنه لايعرف الله كنه معرفته إلا الله ، وأن الخلائق وإن اتسعت معرفتهم وغزر علمهم ، فإذا أضيف ذلك إلى علم الله سبحانه فما أوتو من العلم إلا قليلاً ، لكن ينبغي أن يعلم أن الحضرة الإلهية محيطة بكل مافي الوجود إذ ليس في الوجود إلا الله وأفعاله ، فالكل من الحضرة الإلهية كما أن جميع أرباب الولايات في المعسكر حتى الحراس هم من المعسكر فهم من جملة الحضرة السلطانية ، وأنت لاتفهم الحضرة الإلهية إلا بالتمثيل إلى الحضرة السلطانية ، فاعلم أن كل مافي الوجود داخل في الحضرة الإلهية ، ولكن كما أن السلطان له في مملكته قصر خاص وفي فناء قصره ميدان واسع ولذلك الميدان عتبة يجتمع عليها جميع الرعايا ولايمكنون من مجاوزة العتبة ولا إلى طرف الميدان ثم يؤذن لخواص المملكة في مجاوزة العتبة ودخول الميدان والجلوس فيه على تفاوت في القرب والبعد بحسب مناصبهم ، وربما لم يطرق إلى القصر الخاص إلا الوزير وحده ، ثم إن الملك يطلع الوزير من أسرار ملكه على مايريد ويستأثر عنه بأمور لايطلعه عليها ، فكذلك فافهم على هذا المثال تفاوت الخلق في القرب والبعد من الحضرة الإلهية ، فالعتبة التي هي آخر الميدان موقف العوام ومردهم لاسبيل لهم إلى مجاوزتها ، فإن جاوزوا حدهم استوجبوا الزجر والتنكيل ، وأما العارفون فقد جاوزوا العتبة وانسرحوا في الميدان ولهم فيه جولان على حدود مختلفة في القرب والبعد وتفاوت مابينهم كثير ، وإن اشتركوا في مجاوزة العتبة وتقدموا على العوام المفترشين.  وإما حظيرة القدس في صدر الميدان فهي أعلى من أن يطأها أقدام العارفين وأرفع من أن يمتد إليها أبصار الناظرين ، بل لايلمح ذلك الجناب الرفيع صغير وكبير إلا غض عن الدهشة والحيرة طرفه فانقلب إليه البصر خاسئاً وهو حسير ، فهذا ما يجب على العامي أن يؤمن به جملة وإن لم يحط به تفصيلاً ، فهذه الوظائف السبع الواجبة على عوام الخلق في هذه الأخبار التي سألت عنها حقيقة مذهب السلف ،

 وأما الآن فنشغل بإقامة الدليل على أن الحق هو مذهب السلف.

=======================================

صفحة 338

الباب الثاني

 

في إقامة البرهان على أن الحق مذهب السلف وعليه برهانان : عقلي وسمعي . أما العقلي فاثنان كلي وتفصيلي . أما البرهان الكلي على أن الحق مذهب السلف فينكشف بتسليم أربعة أصول هي مسلمة عند كل عاقل .

الأول : أن أعرف الخلق بصلاح أحوال العباد بالإضافة إلى حسن المعاد هو النبي صلى الله عليه وسلم ، فإن ماينتفع به في الآخرة أو يضر لاسبيل إلى معرفته بالتجربة ، كما عرف الطبيب إذ لامجال للعلوم التجريبية إلا بما يشاهد على سبيل التكرر ، ومن الذي رجع من ذلك العالم فأدرك بالمشاهدة مانفع وضر وأخبر عنه ولايدرك بقياس العقل ، فإن العقول قاصرة عن ذلك ، والعقلاء بأجمعهم معترفون بأن العقل لايهتدي إلى مابعد الموت ولايرشد إلى وجه ضرر المعاصي ونفع الطاعات. لاسيما على سبيل التفصيل والتحديد كما وردت به الشرائع بل أقروا بجملتهم أن ذلك لايدرك إلا بنور النبوة وهي قوة وراء العقل يدرك بها من أمر الغيب في الماضي والمستقبل أمور لاعلى طريق التعرف بالأسباب العقلية ، وهذا مما اتفق عليه الأوائل من الحكماء فضلاً عن الأولياء والعلماء والراسخين القاصرين نظرهم على الاقتباس من حضرة النبوة المقربين بقصور كل قوة سوى هذه القوة.

الأصل الثاني : أنه صلى الله عليه وسلم أفاض إلى الخلق ماأوحى إليه من صلاح العباد في معادهم ومعاشهم ، وأنه ماكتم شيئاً من الوحي وأخفاه وطواه عن الخلق فإنه لم يبعث إلا لذلك ، ولذلك كان رحمة للعالمين ، فلم يكن منهما فيه وعرف ذلك علماً ضرورياً من قرائن أحواله في حرصه على إصلاح الخلق وشغفه بإرشادهم إلى صلاح معاشهم ومعادهم ، فما ترك شيئاً مما يقرب الخلق إلى الجنة ورضاء الخالق إلا دلهم عليه وأمرهم به وحثهم عليه ولاشيئاً مما يقربهم إلى النار وإلى سخط الله إلا حذرهم منه ونهاهم عنه ، وذلك في العلم والعمل جميعاً.

الأصل الثالث : أن أعرف الناس بمعاني كلامه وأحراهم بالوقوف على كنهه ودرك أسرار الذين شاهدوا الحي والتنزيل وعاصروه وصاحبوه ، بل لازموه آناء الليل والنهار متشمرين لفهم معاني كلامه وتلقيه بالقبول للعمل به أولاً ، وللنقل إلى من بعدهم ثانياً ، وللتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بسماعه وفهمه وحفظه ونشره ، وهم الذين حثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على السماع والفهم والحفظ والأداء فقال : (نَضَّرَ اله امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاها فَأَدَّاهَا كَمَا سَمِعَها) الحديث. فليت شعري أيتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بإخفائه وكتمانه عنهم حاشا منصب النبوة عن ذلك ، أويتَّهم أولئك الأكابر في فهم كلامه وإدراك مقاصده أو

 

=======================================

صفحة 339

يتهمون في إخفائه وأسراره بعد الفهم أو يتهمون في معاندته من حيث العمل ومخالفته على سبيل المكابرة مع الاعتراف بتفهيمه وتكليفه. فهذه الأمور لايتسع لتقديرها عقل عاقل.

الأصل الرابع : أنهم في طول عصرهم إلى آخر أعمارهم مادعوا الخلق إلى البحث والتفتيش والتفسير والتأويل والتعرض لمثل هذه الأمور بل بالغوا في زجر من خاض فيه وسأل عنه وتكلم به على ماسنحكيه عنهم ، فلو كان ذلك من الدين أو كان من مدارك الأحكام وعلم الدين لأقبلوا عليه ليلاً ونهاراً ودعوا إليه أولادهم وأهليهم وتشمروا عن ساق الجد في تأسيس أصوله وشرح قوانينه تشميراً أبلغ من تشميرهم في تمهيد قواعد الفرائض والمواريث ، فنعلم بالقطع من هذه الأصول أن الحق ماقالوه والصواب ما رأوه ، لاسيما وقد أثنى عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : (خَيْرُ النَّاسٍ قَرْنِي ثُمَّ الَّذينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذينَ يَلُونَهُمْ) ، وقال صلى الله عليه وسلم :(سَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي نَيِّفاً وَسَبْعينَ فرْقَةً النَّاجِية منْهُمْ وَاحِدَة). فقيل من هم ؟ فقال : (أَهْلُ السُّنَّة وَالجَمَاعة). فقال (مَا أَنَا عَلَيْه الآنَ وَأَصْحَابِي)

البرهان الثاني : هو التفصيلي. فتقول ادَّعينا أن الحق هو مذهب السلف وأن مذهب السلف هو توظيف الوظائف السبع على عوام الخلق في ظواهر الأخبار المتشابهة ، وقد ذكرنا برهان كل وظيفة معها فهو برهان كونه حقاً فمن يخالف؟ ليت شعري يخالف في قولنا الأول أنه يجب على العامي التقديس للحق عن التشبيه ومشابهة الأجسام ، أو في قولنا الثاني إنه يجب عليه التصديق والإيمان بما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم بالمعنى الذي أراده أو في قولنا الثالث إنه يجب عليه الاعتراف بالعجز عن درك حقيقة تلك المعاني ، أو في قولنا الرابع إنه يجب عليه السكوت عن السؤال والخوض فيهما وراء طاقته ، أو في قولنا الخامس إنه يجب عليه إمساك اللسان عن تغيير الظواهر بالزياد والنقصان والجمع والتفريق ، أو في قولنا السادس إنه يجب عليه كف القلب عن  التذكير فيه والفكر مع عجزه عنه ، وقد قيل لهم تفكروا في الخلق ولاتفكروا في الخالق ، أو في قولنا السابع إنه يجب عليه التسليم لأهل المعرفة من الأنبياء والأولياء والعلماء الراسخين فهذه أمور بيانها برهانها ولايقدر أحد على جحدنا وإنكارها إن كان من أهل التمييز فضلاً عن العلماء والعقلاء. فهذه هي البراهين العقلية.

النمط الثاني: البرهان السمعي على ذلك ، وطريقه أن نقول : الدليل على أن الحق مذهب السلف أن نقيضه بدعة والبدعة مذمومة وضلالة ، والخوض من جهة العوام في التأويل ، والخوض بهم فيه من جهة العلماء بدعة مذمومة ، وكان نقيضه وهو الكف عن ذلك سنة محمودة فها هنا ثلاثة أصول :

أحدها : أن البحث والتفتيش والسؤال عن هذه الأمور بدعة.

34                                                          مجموعة رسائل الإمام الغزالي

والثاني : أ، كل بدعة فهي مذمومة.

والثالث : أن البدعة إذا كانت مذمومة كان نقيضها وهي السنة القديمة محمودة ولا يمكن النزاع في شئ من هذه الأصول ، فإذا سلم ذلك ينتج أن الحق مذهب السلف.

فإن قيل : فبم تنكرون على من يمنع كون البدعة مذمومة أو يمنع كون البحث والتفتيش بدعة فيتنازع في هذين وان لم ينازع في الثالث لظهورة؟ فتقول : الدليل على إثبات الأصل الأول من كون البدعة مذمومة اتفاق الامة قاطبة على ذم البدعة وزجر المبتدع وتغيير من يعرف بالبدعة ، وهذا مفهوم على الضرورة من الشرع وذلك غير واقع في محل الظن ، فذم رسول الله صلى الله عليه وسلم البدعة علم بالتواتر بمجموع اخبار يفيد العلم القطعي جملتها ، وإن كان الاحتمال يتطرق إلى آحادها ، وذلك كعلمنا بشجاعة علي راضى الله عنه ، وسخاوة حاتم ، وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة رصى الله عنها وما يجري مجراه ، فإن علم قطعا بأخبار آحاد بلغت في الكثرة مبلغا لا يحتمل كذب ناقليها ، وإن لم تكن آحاد تلك الاخبار متواترة ، وذلك مثل ما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ” عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهدين من بعدى عضوا عليها بالنواجذ واياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار ” وقال صلى الله عليه وسلم : ” اتبعوا ولا تبتدعوا وإنما هلك من كلن قبلكم لما ابتدعوا في دينهم وتركوا سنن انبيائهم وقالوا بآرائهم فضلوا وأضلوا” وقال صلى الله عليه وسلم : ” إذا مات صاحب بدعة فقد فتح على الإسلام فتح”. وقال صلى الله عليه وسلم : ” من مشى إلى صاحب بدعة ليوقره فقد أعان على هدم الإسلام “. وقال صلى الله عليه وسلم : ” من أعرض عن صاحب بدعة بغضا له في الله ملا الله قلبه أمنا وإيمانا ومن أنتهر صاحب بدعة رفع الله له مائة درجة، ومن سلم على صاحب بدعة أو لقيه بالبشر أو استقبله بما يسره فقد استخف بما انزل على محمد صلى الله عليه وسلم “. وقال صلى الله عليه وسلم : ” إن الله لا يقبل لصاحب بدعة صوما ولا صلاة ولا زكاة ولا حجا ولا عمرة ولا جهادا ولا صرفا ولا عدلا، ويخرج من الاسلام كما يخرج السهم من الرمية أو كما تخرج الشعرة من العجين”. فهذا وأمثاله مما يجاوز حد الحصر أفاد علما ضروريا يكون البدعة مذمومة.

فإن قيل : سلمنا أن البدعة مذمومة ، ولكن ما دليل الأصل الثاني وهو أن هذه بدعة فإن البدعة عبارة عن كل محدث ، قال الشافعي رصى الله عنه الجماعة في التراويح بدعة وهي بدعة حسنة، وخوض الفقهاء في تفاريع الفقة ومناظرتهم فيها مع ما ابدعوه من نقص وكر وفساد وضع وتركيب ونحوه من فنون مجادلة والزام كل ذلك مبدع لم يؤثر عن الصحابة شئ من ذلك فدل على أن البدعة المذمومة ما رفعت سنة مأثورة ، ولا نسلم أن هذا رافع لسنة ثابتة لكنه محدث خاض فيه الألوان إما فشتغالهم لما هو أهم منه وإما لسلامة القلوب

مجموعة رسائل الإمام الغزالي                                                                431

في العصر الأول عن الشكوك والترددات فاستغنوا لذلك وخاض فيه من بعدهم لمسيس الحاجة ، حيث حدثت الأهواء والبدع إلى إبطالها وإقحام منتحلها؟

الجواب : أما ما ذكرتموه من أن البدعة المذمومة ما رفعت سنة قديمة هو الحق وهذا بدعة رفعت سنة قديمة. إذ كان سنة الصحابة المنع من الخوض فيه، وزجر من سأل عنه، والمبالغة في تأديية ومنعه بفتح باب السؤال عن هذه المسائل ، والخوض بالعوام في غمرة هذه المشكلات على خلاف ما تواتر عنهم، وقد صح ذلك عن الصحابة بتواتر النقل عند التابعين من نقلة الآثار، وسير السلف حجة لا يتطرق إليها ريب ولا شك كما تواتر خوضهم في مسائل الفرائض ومشاورتهم في الوقائع الفقهية وحصل العلم ايضا باخبار آحاد لا يتطرق الشك إلى مجموعها ، كما نقل عن عمر رضى الله عنه أنه سأل سائل عن آيتين متشابهتين فعلاه بالدرة، وكما روى أنه سأل سائل عن القرآن أهو مخلوق أم لا، فتعجب عمر من قوله فأخذ بيده حتى جاء به إلى علي رضى الله عنه فقال : يا أبا الحسن استمع ما يقول هذا الرجل قال : وما يقول يا أمير المؤمنين ؟ فقال الرجل : سألته عن القرآن أمخلوق هو أم لا ؟ فوجم لها رضى الله عنه وطأطأ رأسه، ثم رفع رأسه وقال : سيكون لكلام هذا نبأ في أخر الزمان ولو وليت من أمره ما وليت لضربت عنقه.

وقد روى أحمد بن حنبل هذا الحديث عن ابى هريرة ، فهذا قول على بحضور عمر وأبي هريرة رضى الله عنه ولم يقولا له ولا أحد ممن بلغه ذلك من الصحابة، ولا عرف علي رضى الله عنه في نفسه أن هذا سؤال عن مسألة دينية وتعرف لحكم كلام الله تعالى وطلب معرفة لصفة القرآن الذي هو معجزة دالة على صدق الرسول ، بل هو الدليل المعرف لأحكام التكليف، فلم يستوجب طالب المعرفة هذا التشديد، فانظر إلى فراسة على وإشرافه على أن ذلك فرع لباب الفتنة، وأن ذلك سينتشر في آخر الزمان الذي هو موسم الفتن ومطيتها بوعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وانظر إلى تشديده وقوله : ولو وليت لضربت عنقه، فمثل أولئك السادة الأكابر الذين شاهدوا الوحي والتنزيل وإطلعوا على أسرارالدين وحقائقه ، وقد قال صلى الله عليه وسلم في أحدهما : ” لو لم أبعث لبعث عمر” .  وقال في الثاني : “أنا مدينة العلم وعلى بابها ” يزجرون السائل عن هذا السؤال ، ثم يزعم من بعدهم من المشغوفين بالكلام والمجادلة وممن لو انفق مثل أحد دهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه . أن الحق والصواب قبول هذا السؤال والخوض في الجواب وفتح هذا الباب ، ثم يعتقد فيه أنه محق ، وفي عمر وعلى أنهما مبطلان . هيهات ما أبعد عن التحصيل وما أخلى عن الدين من قاس الملائكة بالحدادين ويرجح المجادلين على الائمة الراشدين والسلف ، فإذا قد عرف على القطع أن هذه بدعة مخالفة لسنة السلف لا كخوض الفقهاء في التفاريع والتفاصيل ، فإنه ما نقل عنهم زجر عن

 

342                                                        مجموعة رسائل الإمام الغزالي

الخوض فيه ، بل إمعانهم في الخوض ، وأما ما أبدع من فنون المجادلات فهي بدعة مذمومةعند أهل التحصيل ذكرنا وجه ذمها في كتاب قواعد العقائد من كتب الاحياء.وأما مناظرتهم إن كان القصد منها التعاون على البحث عن مأخذ الشرع ومدارك الحكام، فهي سنة السلف ولقد يتشاورون ويتناظرون في المسائل الفقهية كما أبدعوا الفاظا وعبارات للتنبيه على مقاصدهم الصحيحة فلا حرج في العبارات بل هي يستعبرها ويستعملها ،وأن كان مقاصدهم المذموم من النظر الإفحام دون الإعلام  ، والإلزام دون الاستعلام، فذلك بدعة على خلاف السنة المأثورة.

الباب الثالث في فصول متفرقة نافعة في هذا الفن

فصل

إن قال قائل : ما الذي دعا الله صلى الله عليه وسلم إلى إطلاق هذه الألفاظ الموهمة مع الاستغناء عنها ، أكان لا يدرى أنه يوهم التشبيه ويغلط الخلق ويسوقهم إلى اعتقاد الباطل في ذات الله تعالى وصفاته ، وحاشا منصب النبوة أ، يخفى عليه ذلك، أو عرف لكن لم بيال بجهل الجهال وضلالة الضلال ،وهذا ابعد واشنع لانه بعث شارحا لا مبهما ، ملبسا ملغزا ، وهذا إشكال له وقع في القلوب حتى جر بعض الخلق إلى سوء الاعتقاد فيه فقالوا : لو كان نبيا لعر فالله ولو عرفه لما وصفع بما يستحيل عليه في ذاته وصفاته، ومالت طائفة أخرى إلى اعتقاد الظواهر ، وقالوا : لو لم يكن حقا لما ذكره كذلك مطلقا ولعدل عنها إلى غيرها أو قرنها بما يزيل الإبهام عنها في سبيل حل هذا الإشكال العظيم.

الجواب : أن هذا الإشكال منحل عند أهل البصيرة ، وبيانه أن هذه الكلمات ما جمعها رسول الله دفعة واحدة وما ذكرها ، وإنما جمعها المشبهة وقد بينا أن لجمعها من التأثير في الإبهان والتلبيس على الأفهام ما ليس لأحادها المفرقة، وإنما هي كلمات لهج بها في جميع عمره في أوقات متباعدة وإذا اقتصر منها على ما في القرآن والاخبار المتواترة رجعت إلى كلمات يسيرة معدودة، وإن أضيف إليها الاخبار الصحيحة في أيضا قليلة، وإنما كثرت الروايات الشاذة الضعيفة التى لا يجوز التعويل عليها، ثم ما تواتر منها إن صح معها إبهام التشبيه وقد ادركها الحاضرون المشاهدون ، فإذا نقل الالفاظ مجردة عن تلك القرائن ظهر الإبهام ، وأعظم القرائن في زوال الابهام المعرفة السابقة بتقديس الله تعالى عن قبول هذه  الظواهر ، ومن سبقت معرفته بذلك كانت تلك المعرفة ذخيرة له راسخة في نفسه مقارنة لكل ما يسمع ، فينمحق معه الابهام انمحاقا لا شك فيه ، ويعرف هذا بأمثلة :

الأول : أنه صلى الله عليه وسلم سمى الكعبة ببيت الله تعالى ، وإطلاق هذا يوهم عند الصبيان وعند

مجموعة رسائل الإمام الغزالي                                                                343

من تقرب درجتهم منهم أن الكعبة وطنه ومثواه، لكن العوام الذين اعتقدوا انه في السماء وان استقراره على العرش يتمحق في حقهم هذا الإبهام على وجه لا يشكون فيه ، فلو قيل لهم : ما الذي دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الى اطلاق هذا اللفظ الموهم المخيل الى السامع ان الكعبة مسكنه لها دورا بأجمهم ، وقالوا : هذا إنما يوهم في حق الصبيان والحمقى ، واما من تكرر على سمعه ان الله مستقر على عرشه ، فلا شك عند سماع هذا اللفظ انه ليس المراد به أن البيت مسكنه ومأواه ، بل يعلم البديهة أ، المراد بهذه الإضافة تشريف البيت أو معنى سواه غير ما وضع له لفظ المضاف الى ربه وساكنه. أليس كان اعتقاده أنه على العرش قرينة أفادته علما قطعيا بأنه ما أريد بكون الكعبة بيته أنه مأواه، وإن هذا أنما يوهم في حق من لم يسبق الى هذه العقيدة فكذا رسول الله صلى الله عليه وسلم خاطب به بهذه الالفاظ جماعة سبقوا الى علم التقديس ونفى التشبيه وانه منزه عن الجسمية وعوارضها، وكان ذلك قرينة قطعية مزيلة للابهام لا يبقى معه شك ، وان جاز أن يبقى لبعضهم تردد في تأويلها وتعيين المراد به من جملة ما يحتمله اللفظ ويليق بجلالة الله تعالى.

المثال الثاني : إذا جرى لفقيه في كلامه لفظ الصور بين يدي الصبي أو العامي فقال : صورة هذه المألة كذا وصورة الواقعة كذا، ولقد صورت للمسألة صورة غاية الحسن ربما توههم الصبي أو العامي الذي لا يفهم معنى المسألة أن المسألة شئ له صورة وفي تلك الصورة أنف وفم وعين على ما عرفه والشتهر عنده ،أما من عرف حقيقة المسألة وانها عبارة عن علوم مرتبة ترتيبا مخصوصا فهل يتصور ان يفهم عينا وأنفا وفما كصورة الأجسام؟ هيهات . بل يكفيه معرفته بان المسألة منزهة عن الجسمية وعوارضها فكذلك معرفة نفى الجسمية عن الإله وتقدسه عنها تكون قرينة في قلب كل مستمع مفهمة لمعنى الصورة في قوله خلق الله ادم على صورته ويتعجب العارف بتقديسه عن الجسمية ممن يتوهم لله تعالى الصورة الجسمية كما يتعجب ممن يتوهم للمسألة صورة جسمانية.

المثال الثالث : إذا قال القائل بين يدي الصبي : بغداد في يد الخليفة ربما يتوهم أن بغداد بين اصابعه ، وانه قد احتوى عليها براحته كما يحتوى على حجره ومدره ، وكذلك كل عامي لم يفهم المراد بلفظ بغداد أما من علم أن بغداد عبارة عن بلدة كبيرة هل يتصور ان يعترض على قائله ويقول : لماذا قلت بغداد في يد الخليفة؟ وهذا يوهم خلاف الحق ويفضى الى الجهل حتى يعتقد ان بغداد بين اصابعه بل يقال له : يا سليم القلب هذا انما يوهم الجهل عند من لايعرف حقيقة بغداد فأما من علمه فبالضرورة يعلم أنه ما اريد بهذه اليد العضو المشتمل على الكف والاصابع بل معنى اخر ولا يحتاج في فهمه الى قرينة سوى هذه المعرفة ، فكذلك جميع الالفاظ الموهمة فى الاخبار

 

344                                                        مجموعة رسائل الإمام الغزالي

يكفى في دفع ابهامها قرينة واحدة موهى معرفة الله ، وأنه ليس من جنس الأجسام ، وهذا مما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم بنيانه في أول بعثته قبل النطق بهذه الالفاظ.

المثال الرابع : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسائه : ” أطولكن يد أسرعكن لحاقا بي ” فكان بعض نسوته يتعرف الطول بالمساحة ووضع اليد على اليد ، حتى ذكر لهن أنه ازاد بذلك المساحة في الجود دون الطول للعضو، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر هذه اللفظه مع قرينة أفهم بها إرادة الجود بالتعبير يطول اليد عنه، فلما نقل اللفظ مجردا عن قرينته حصل الابهام، فهل كان لأحد أن يعترض على رسول الله صلى الله عليه وسلم في اطلاقه لفظا جهل بعضهم معناه؟ انما ذلك لانه اطلق اطلاقا مفهما في حق الحاضرين مقرونا مثلا بذكر السخاوة، والناقل قد ينقل اللفظ كما سمعه ولا ينقل القرينة، أو كان يبحث لا يمكن نقلها ، أو ظن أنه لا حاجة إلى نقلها ، وأن من يسمع يفهمه هو كما فهمه هو لما سمعه ، فربما لا يشعر أن فهمه إنما كان بسبب القرينة ، فذلك يقتصر على نقل اللفظ ، فمثل هذه الاسباب بقيت الالفاظ مجردة عن قرائنها فقصرت عن التفهيم مع أن قرينة معرفة التقديس بمجردها كافية في نفى الإبهام وأن كانت ربما لا تكفى في تعيين المراد به فهذه الدقائق لا بد من التنبه لها كالمثال الخامس.

إذا قال القائل بين يدي الصبي ومن يقرب منه درجة ممن لم يمارس الأحوال ، ولا عرف العادات في المجالسات فلان دخل مجمعا وجلس فوق فلان ربما يتوهم السامع الجاهل الغبي انه جلس على رأسه أو على مكان فوق رأسه ، ومن عرف العادات وعلم أن ما هو أقرب إلى الصدر من الرتبة، وأن الفوق عبارة عن العلو بقهم منه أنه جلس بجنبه لا فوق رأسه ، لكن جلس أقرب إلى الصدر، فالاعتراض على من خاطب بهذا الكلام وأهل المعرفة بالعادات من حيث إنه يجهله الصبيان أو الاغبياء اعتراض باطل لا أصل له، وأمثلة ذلك كثيرة ، فقد فهمت على القطع بهذه الأمثلة أن هذه الألفاظ الصريحة انقلبت مفهوماتها عن أوضاعها الصريحة بمجرد قرينة، ورجعت تلك القرائن الكثيرة التي بعضها هي المعارف، والواحدة منها معرفتهم أنهم لم يؤمروا بعبادة الأصنام، أن من عبد جسما فقد عبد صنما كان الجسم صغيرا أو كبيرا ، قبيحا أو جميلا، سافلا أو عاليا على الارض أو على العرش وكان نفى الجسيمة ونفى لوازمها معلوما لكافتهم على القطع بإعلام رسول الله  صلى الله عليه وسلم المبالغة في التنزيه بقوله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) (الشورى 11) وسورة الاخلاص وقوله : ( فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلَّهِ أَندَادًا) (البقرة 22) وبألفاظ كثيرة لا حصر لها مع قرائن قاطعة لا يمكن حكايتها، وعلم ذلك إلا علما لا ريب فيه وكان ذلك كافيا في تعريفهم استحالة يد

مجموعة رسائل الإمام الغزالي                                                  345

هي عضو مركب من لحم وعظم، وكذا في سائر الظواهر لانها لا تدل إلا على الجسمية وعوارضها لو أطلق على جسم ولو أطلق على غير الجسم على ضرورة أنه ما أريد به ظاهرة بل معنى أخر مما يجوز على الله تعالى ربما يتعين ذلك المعنى وربما لا يتعين، فهذا مما يزيل الإشكال.

فإن قيل : فلم لم يذكر بألفاظ ناصة عليها بحيث لا يوهم ظاهرها جهلا ولا في حق العامي والصبي ؟

قلنا : لأنه إنما كلم الناس بلغة العرب، وليس في لغة العرب ألفاظ ناصة على تلك المعاني، فكيف يكون في اللغة لها نصوص وواضع اللغة لم يفهم تلك المعاني، فكيف وضع لها النصوص بل هي معان أدركت بنور النبوة خاصة أو بنور العقل بعد طول البحث، وذلك أيضا في بعض تلك الأمور لا في كلها، فلما لم يكن لها عبارات موضوعة كان استعارة الالفاظ من موضعات اللغة ضرورة كل ناطق بتلك اللغة، كما أنا لا نستغنى عن أن نقول صورة هذه المسألة كذا وهي تخالف صورة المسألة الآخرى، وهس مستارة من الصور الجسمانية، لككن واضع اللغه لما لم يضع لهيئة المسألة وخصوص ترتيبها اسما نصا إما لأنه لم يفهم المسألة أو فهم، لكن لم تحضره أو حضرته لكن لم يضع لها نصا خاصا اعتمادا على إمكان الاستعارة أو لأنه علم أنه عاجز عن أن يضع لكل معنى لفظا خاصا اعتمادا على إمكان الاستعارة أو لانه علم أنه  عاجز عن أن يضع لكل معنى لفظا خاصا ناصا، لان المعاني غير منتاهية العدد والموضوعات بالقطع يحب أن تناهي فتبقى معان لها يجب ان يستعار اسمها من الموضوع، فاكتفى بوضع البعض وسائر اللغات اشد قصورا من لغة العرب، فهذا وأمثاله من الضرورة يدعو إلى الاستعارة لمن يتكلم بلغة قوم إذ لا يمكنه أن عن لغتهم. كيف، ونحن نجوز الاستعارة حيث لا ضرورة اعتمادا على القرائن، فإن لا نفرق بين أن يقول القائل : جلس زيد فوق عمرو، وبين أن يقول جلس أقرب منه إلى الصدر، وأن بغداد في ولاية الخليفة أو في يد إذا كان الكلام مع العقلاء، وليس في الإمكان حفظ الألفاظ عن إفهام الصبيان والجهال، فالاشتغال بالاحتراز عن ذلك ركاكة في الكلام وسخافة في العقل وثقل في اللفظ.

فإن قيل : فلم لم يكشف الغطاء عن المراد بإطلاق لفظ الإله ولم يقل إنه موجود ليس بجسم ولا جوهر ولا عرض ولا هو داخل العالم ولا خارجة ولا متصل ولا منفصل ولا هو في مكان ولا هو في جهة ، بل الجهات كلها خالية عنه، فهذا هو الحق عند قوم والإفصالح عنه كذلك، كما أفصح عنه المتكلمون ممكن ولم يكن في عبارته صلى الله عليه وسلم قصوره ولا في رغبته في كشفه الحق فتور، ولا في معرفته نقصان؟

قلنا : من رأى هذا الحق اعتذر بأن هذا لو ذكره لنفر الناس عن قبوله ، ولبادروا

346                                                        مجموعة رسائل الإمام الغزالي

بالإنكار وقالوا : هذا عين المحال ووقعوا في التعطيل ولا خير في المبالغة في تنزيه ينتج التعطيل في حق الكافة إلا الاقلين، وقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم داعيا للخلق الى سعادة الأخرة رحمة للعالمين. كيف ينطق بما فيه هلاك الاكثرين، بل أمر أن لا يكلم الناس إلا على قدر عقولهم، وقال صلى الله عليه وسلم : ” من حدث الناس بحديث لا يفهمونه كان فتنة على بعضهم” . أو لفظ هذا معناه.

فإن قيل : إن كان في المبالغة في التنزيه خوف التعطيل بالإضافة إلى البعض ففى استعماله الالفاظ الموهمة خوف التشبيه بالإضافة إلى البعض.

قلنا : بينهم فرق من وجهين.

أحدهما : أن ذلك يدعو إلى التعطيل في حق الأكثرين ، وهذا يعود إلى التشبيه في حق الأقلين، وأهون الضررين أولى بالاحتمال ، وأعلم الضررين أولى بالاجتناب.

والثاني : أن علاج وهم التشبيه أسهل من علاج التعطيل ، إذ يكفى أن يقال مع هذه الظواهر: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) (الشورى 11) وأنه ليس بجسم ولا مثل الأجسام واما إثبات موجود في الاعتقاد على ما ذكرناه من المبالغة في التنزيه شديدا جدا، بل لا يقبله واحد من الألف لا سيما الأمة العربية.

فإن قيل : فعجز الناس عن الفهم هل يمهد عذر الأنبياء في أن يثبتوا في عقائدهم أمورا على خلاف ما هي عليها ليثبت في اعتقادهم أصل الإلهية حتى توهموا عندهم مثلا أن الله مستقر على العرش وأنه في السماء ، وأنه فوقهم فوقية المكان؟

قلنا : معاذ الله أن نظن ذلك أو يتوهم بنبى صادق أن يصف الله بغير ما هو متصف به ، وأن يلقى ذلك في اعتقاد الخلق، فإنما تأثير قصور في استعمال الألفاظ مستعارة ربما يغلط الأغبياء في فهمهما ، وذلك لقصور اللغات وضرورة الخلق في أن يذكر لهم ما يطقون فهمه ومالا يفهمونه. فكيف عنه علاك عجز الخلق وقصورهم ولا ضرورة في تفهيمهم خلاف الحق قصدا لا سيما في صفات الله . نعم ، به ضرورة الماورات . فأما تفهيمهم خلاف الحق قصدا إلى التجهيل فمحال، سوء فرض فيه مصلحة أو لم تفرض.

فإن قيل : قد جهل أهل التشبيه جهلا يستند إلى ألفاظه في الظواهر تقضى إلى جهلهم، فمهما جاء بلفظ مجمل ملبس فرضي به لم يفترق الحال بين أ، يكون مجرد قصده إلى التجهيل، وبين أن يقصد التجهيل مهما حصل التجهيل ، وهو عالم به وراض.

قلنا : لا نسلم أ، جهل أهل التشبية حصل بألفاظه، بل بتقصيرهم في كسب معرفة التقديس وتقديمه على النظر في الألفاظ ، ولو حصلوا تلك المعرفة أولا وقدموها لما

مجموعة رسائل الإمام الغزالي                                                  347

جهلوها، كما أن من حصل علم التقديس لم يجهل عند سماعه صورة المسألة، وإنما الواجب عليهم تحصيل هذا العلم، ثم مراجعة العلماء إذا شكوا في ذلك، ثم كف النفس عن التأويل وإلزامها التقديس، وإذا رسم لهم العلماء، فإذا لم يفعلوا جهلوا وعلم الشارع بأن الناس طباعهم الكسل والتقصير والفضول بالخوض فيما ليس من شانهم ليس رضا بذلك ولا سعيا في تحصيل الجهل، لكنه رضا بقضاء الله وقدره في قسمته حيث قال : (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (هود : 119) وقال : (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً) (هود : 118) (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ) (يونس 99) (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ) (يونس : 100) (لاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ

119-إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (هود 118 :119) فهذا هو القهر الإلهي في قطرة الخلق ولا قدرة للأنبياء في تغيير سنته التي لا تبديل لها.

فصل في جواب مالك رضى الله عنه

لعلك تقول الكف عن السؤال والإمساك عن الجواب من أين يغنن، وقد شارع في البلاد هذه الاختلافات وظهرت التعصبات، فكيف سبيل الجواب إذا سئل عن هذه المسائل؟

قلنا : الجواب ما قاله مالك رضى الله عنه في الاستواء إذ قال : الاستواء معلوم ، الحيث فيذكر هذا الجواب في كل مسألة سئل عنها العوام لينحسم سبيل الفتنة.

فإن قيل : فإذا سئل الفوق واليد والأصبع فبم يجيب.

قلنا : الجواب أن يقال ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم وقال الله تعالى وقد صدق حيث قال : (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) (طه : 5) فيعلم قطعا أنه ما أراد الجلوس والاستقرار الذي هو صفة الأجسام ، ولا ندري ما الذي أراده ولم نكلف معرفته وصدق حيث قال : (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ) (الانعام : 18) وفوقيه المكان محال، فإنه كان قبل المكان فهو الأن كما كان، وما أراد فلسنا نعرفه وليس علينا ولا عليك أيها السائل معرفته فكذلك نقول ولا يجوز إثبات اليد ولأصبع مطلقا، بل يجوز النطق بما نطق به رسول الله صلى الله عليه وسلم على الوجه الذي نطق به من غير زيادة ونقصان وجمع وتفريق وتأويل وتفصيل كما سبق، فتقول صدق حيث قال : ” خمر طينة آدم بيده” وحيث قال : ” قلب المؤمن بين أصبع من أصابع الرحمن” فتؤمن بذلك ولا نزيد ولا ننقص، وننقله كما روى ونقطع بنفى العضو المركب من اللحم والعصب، وإذا قيل : القرآن قديم أو مخلوق ؟ قلنا : هو غير مخلوق لقوله صلى الله عليه وسلم : ” القرآن كلام الله غير مخلوق” . فإن قال : الحروف قديمة أو لا؟ قلنا : الجواب في هذه

348                                                        مجموعة رسائل الإمام الغزالي

المسألة لم يذكرها الصحابة، فالخوضغ فيها بدعة فلا تسألوا عنها، فإن ابتلى الإنسان بهم في بلدة غلبت فيها الحشوية وكفروا من لا يقول بقدم الحروف، فيقول المضطر إلى الجواب : عنيت بالحروف نفس القرآن فالقرآن قديم، وإن أردت بها غير القرآن وصفات الله تعالى فما سوى الله وصفاته محدث ولا يزيد عليه، لأن تفهيم العوام حقيقة هذه المسألة عسيرة جدا، فإن قالوا: قد قال النبى صلى الله عليه وسلم : ” من قرأ حرفا من القرآن فله كذا” فأثبت الحروف للقرآن ووص القرآن بأنه غير مخلوق، فلزم منه أن الحروف قديمة. قلنا : لا نزيد على ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم وهو أن القرىن غير مخلوق وهذه مسالة ثالثة ولم نرد عليه فلا نقول به، ولا نزيد على ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم فأن زعموا أنه يلزم المسألتين السابقتين هذه المسألة. قلنا : هذا قياس وتفريع، وقد بينا أن لا سبيل إلى القياس والتفريع، بل يجب الاقتصار على ما ورد من غير تفريق، وكذلك إذا قالوا عربية القرآن قديمة لأنه قال القرآن قديم وقال (أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا) (يوسف : 2) فالعربي قديم فنقول : أما أن القرآن عربي فحق إذ نطق به القرآن وأما أن القرآن قديم فحق إذ نطق به رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلى هذا الوجه يلجم العوام والحشوية على التصرف فيه ونزمهم عن القياس والقول باللوازم، بل نزيد في التضييق على هذا ونقول : إذا قال القرآن كلام الله غير مخلوق فهذا لا يرخص في أن يقول القرآن قديم ما لم يرد لفظ القديم إذ فرق بين غير مخلوق والقديم، إذ يقال : كلام فلان غير مخلوق أى غير موضوع، وقد يقال : المخلوق بمعنى المختلق فلفظ غير مخلوق يتطرق إليه هذا ولا يتطرق إلى لفظ القديم، فبينهما فرق، نحن نعتقد قدم القرآن لا بمجرد هذا اللفظ ، فإن هذا اللفظ لا ينبغي أن يحرف ويبدل ويغير ويصرف، بل يلزم أن يعتقد أنه حق بالمعنى الذي أراه، وكل من وصف القرآن بأنه مخلوق من غير نقل نص فيه مقصود، فقد أبدع وزاد ومال عن مذهب السلف وحاد.

فصل في أن الإيمان قديم

فإن قيل : من السائل المعروفة قولهم إن الإيمان قديم، فإذا سئلنا عنه فبم نجيب؟

قلنا: إن ملكنا زمام الأمر واستولينا على السائل منعناه عن هذا الكلام السخيف الذي لا جدوى له، وقلنا : إن هذا بدعة، وإن كنا مغلوبين في بلادهم فنجيب ونقول ما الذي أردت بالإيمان؟ أن أردت به شيئا من معارف الخلق وصفاتهم فجميع صفات الخلق مخلوقة، وأن أردت به شيئا من القرآن أو من صفات الله تعالى فجميع صفات الله تعالى قديمة، وإن أردت ما ليس صفة للخلق ولا صفة الخالق فهو غير مفهوم ولا متصور وما لا يفهم ولا

مجموعة رسائل الإمام الغزالي                                                  349

يتصور ذاته، كيف يفهم حكمه في القدم والحدوث والأصل زجر السائل والسكوت عن الجواب هذا صفو مقصود مذهب السلف ولا عدول عنه إلا بضرورة وسبيل المضطر ما ذكرنا فإن وجدناه ذكيا مستفهما لفهم الحقائق كشفنا الغطاء عن المسألة وخلصناه عن الإشكال في القرآن وقلنا :

اعلم أن كل شئ فله في الوجود أربع مراتب : وجود في الأعيان، ووجود في الاذهان، ووجود في اللسان، ووجود في البياض المكتوب عليه كالنار مثلا، فإن لها وجودا في التنور ووجودا في الخيال والذهن، وأعنى بهذا الوجود العلم بنفس النار وحقيقتها ولها وجود في اللسان وهي الكلمة الدالة عليه، أعنى لفظ النار ولها وجود في البياض المكتوب عليه بالرقوم. والاحراق صفة خاصة للنار كالقدم للقرآن ولكلام الله تعالى، والمحرق من هذه الجملة الذي في التنور دون الذي في الاذهان، وفي اللسان وعلى البياض إذ لو كان المحرق في البياض أو اللسان لاحترق ، ولكن لو قيل لنا: النار محرقة؟ قلنا : لا ، فإن قيل : مرقوم هذه الحروف على البياض محرقة؟ قلنا : لا، فإن قيل : المذكور بكلمة النار أو المكتوب بكلمة النار محرق، قلنا : نعم. لأن المذكور والمكتوب بهذه الكلمة ما في التنور وما في التنور محرق ، فكذلك القد وصف كلام الله تعالى كإلاحراق وصف النار وما يطلق عليه اسم القرآن وجوده على أربع مراتب . أولها : وهي الاصل وجوده قائما بذات الله تعالى يضاهي وجود النار في التنور (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ)(النحل : 60) ولكن لا بد من هذه الامثلة في تفهيم العجزة والقدم وصف خاص لهذا الوجود . والثانية : وجوده العلمي في أذهاننا عند التعليم قبل أن ننطق بلساننا، ثم وجوده في لساننا بتقطيع اصواتنا، ثم وجوده في الاوراق بالكتب، فإذا سئلنا عما في أذهاننا من علم القرآن قبل النطق به. قلنا : علمنا صفته وهي مخلوقة لكن المعلوم به قديم ، كما أن بالنار وثبوت صورتها في خيالنا غير محرق لكن المعلوم به محرق، وإن سئلنا عن صوتنا وحركة لساننا ونطقنا قلنا : ذلك صفة لساننا فلسناننا حادث وصفته توجد بعده وما هو بعد الحادث حادث بالقطع ، لكن منطوقنا ومذكورنا ومقروءنا ومتلونا بهذه الأصوات الحادثة قديم، كما أ، ذكرنا حروف النار بلساننا كان المذكور بهذه الحروف محرفا وأصواتنا وتقطيع أصواتنا غير محرق إلا أ، يقول قائل : حروف النار عبارة عن نفس النار. قلنا : أن كان كذلك ، فحروف النار محرفة وحروف القرآن إن كان عبارة عن نفس المقروء فهي قديمة، وكذلك المخطوط برقوم النار والمكتوب به محرق لأنه الأوراق من غير إحراق واحتراق، فهذه أربع درجات في الوجود تشتبه على العوام لا يمكنهم إدراك تفاصيلها وخاصة كل واحدة منهن، فلذلك لا نخوض

(ص350)

بهم فيها لا لجهلنا بحقيقة هذه الأمور وكنه تفاصيلها. إن النار من حيث إنها في التنور توصف بأنها محرقة وخامدة ومشتعلة، ومن حيث إنها في اللسان يوصف بأنها عجمي وتركي وعربي، وكثيرة الحروف وقليلة الحروف، وما في التنور لا ينقسم إلى العجمي والتركي والعربي، وما في اللسان لا توصف بالخمود والاشتعال، وإذا كان مكتوبًا على البياض يوصف بأنه أحمر وأخضر وأسود وأنه بقلم المحقق أو الثلث والرقاع، أو قلم النسخ وهو في اللسان لا يمكن أن يوصف بذلك، واسم النار يطلق على ما في التنور وما في القلب وما في اللسان وما على القرطاس، لكن باشتراك الاسم فأطلق على ما في التنور حقيقة وعلى ما في الذهن من العلم لا بالحقيقة ولكن بمعنى أنه صورة محاكية للنار الحقيقي، كما أن ما يرى في المرآة يسمى إنسانًا ونارًا لا بالحقيقة ولكن بمعنى أنها صورة محاكية للنار الحقيقي والإنسان وما في اللسان من الكلمة يسمى باسمه بمعنى ثالث، وهو أنه دلالة دالة على ما في الذهن وهذا يختلف بالاصطلاحات والأول والثاني لا اختلاف فيهما، وما في القرطاس يسمى نارًا بمعنى رابع، وهو أنها رقوم تدل بالاصطلاح على ما في اللسان ومهما فهم اشتراك اسم القرآن والنار، وكل شيء من هذه الأمور الأربعة، فإذا ورد الخبر أن القرآن في قلب العبد وأنه في لسان القارئ وأنه صفة ذات الله صدق بالجميع وفهم معنى الجميع، ولم يتناقص عند الأذكياء وصدق بالجميع مع الإحاطة بحقيقة المراد، وهذه أمور جلية دقيقة لا أجلى منها عند الفطن الذكي ولا أدق، وأغمض منها البليد الغبي، فحق البليد أن يمنع من الخوض فيها ويقال له: قل القرآن غير مخلوق واسكت ولا تزد عليه ولا تنقص ولا تفتش ولا تبحث، وأما الذكي فيروح عن غمه هذا الإشكال في لحظة ويوصى بأن لا يحدث العامي به حتى لا يكلفه ما ليس في طاقته، وهكذا جميع موضع الإشكالات في الظواهر فيها حقائق جلية لأرباب البصائر ملتبسة على العميان من العوام، فلا ينبغي أن يظن بأكابر السلف عجزهم عن معرفة هذه الحقيقة، وإن لم يحرروا ألفاظها تحرير صنعة ولكنهم عرفوه وعرفوا عجز العوام فسكتوا عنهم وأسكتوهم وذلك عين الحق والصواب. ولا أعني بأكابر السلف الأكابر من حيث الجاه والاشتهار، ولكن من حيث الغوص على المعاني والاطلاع على الأسرار، وعند هذا ربما انقلب الأمر في حق العوام واعتقدوا في الأشهر أنه الأكبر، وذلك سبب آخر من أسباب الضلال.

فصل

فإن قال قائل: العامي إذا منع من البحث والنظر لم يعرف الدليل، ومن لم يعرف الدليل كان جاهلاً بالمدلول، وقد أمر الله تعالى كافة عباده بمعرفته. أي الإيمان به والتصديق

(ص351)

بوجوده أولاً، وبتقديسه عن سمات الحوادث ومتشابهة غيره ثانيًا، وبوحدانيته ثالثًا، وبصفاته من العلم والقدرة ونفوذ المشيئة وغيرها رابعًا، وهذه الأمور ليست ضرورية فهي إذًا مطلوبة. وكل علم مطلوب فلا سبيل إلى انتقاصه وتحصيله إلا بشبكة الأدلة والنظر في الأدلة والتفطن لوجه دلالتها على المطلوب، وكيفية إنتاجها، وذلك لا يتم إلا بمعرفة شروط البراهين وكيفية ترتيب المقدمات واستنتاج النتائج، ذلك شيئًا فشيئًا إلى تمام علم البحث واستيفاء علم الكلام إلى آخر النظر في المعقولات ، وكذلك يجب على العامي أن يصدق الرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما جاء به، وصدقه ليس بضروري بل هو بشر كسائر الخلق فلا بد من دليل يميزه عن غيره ممن تحدى بالنبوة كاذبًا ولا يمكن ذلك إلا بالنظر في المعجزة ومعرفة حقيقة المعجزة وشروطها إلى آخر النظر في النبوات وهو لب علم الكلام.

قلنا: الواجب على الخلق الإيمان بهذه الأمور، والإيمان عبارة عن تصديق جازم لا تردد فيه، ولا يشعر صاحبه بإمكان وقوع الخطأ فيه، وهذا التصديق الجازم يحصل على ست مراتب.

الأولى: وهي أقصاها ما يحصل بالبرهان الستقصى المستوفى شروطه المحرر أصوله ومقدماته درجة درجة وكلمة كلمة حتى لا يبقى مجال احتمال وتمكن التباس، وذلك هو الغاية القصوى، ربما يتفق ذلك في كل عصر لواحد أو اثنين ممن ينتهي إلى تلك الرتبة، وقد يخلو العصر عنه، ولو كانت النجاة مقصورة على مثل المعرفة لقلَّت النجاة وقلَّ الناجون.

الثانية: أن يحصل بالأدلة على الوهمية الكلامية المبنية على أمور مسلمة مصدق بها لإشهارها بين أكابر العلماء وشناعة إنكارها ونفرة النفوس عن إبداء المراء فيها، وهذا الجنس أيضًا يفيد في بعض الأمور وفي حق بعض الناس تصديقًا جازمًا بحيث لا يشعر صاحبه بإمكان خلافه أصلاً.

الثالثة: أن يحصل التصديق بالأدلة الخطابية، أعني القدرة التي جرت العادة باستعمالها في المحاورات والمخاطبات الجارية في العادات، وذلك يفيد في حق الأكثرين تصديقًا ببادئ الرأي وسابق الفهم إن لم يكن الباطن مشحونًا بالتعصب وبرسوخ اعتقاد على خلاف مقتضى الدليل، ولم يكن المشنع مشغوفًا بتكليف المماراة والتشكك ومنتجعًا بتحديق المجادلين في العقائد، وأكثر أدلة القرآن من هذا الجنس، فمن الدليل الظاهر المقيد للتصديق قولهم: لا ينتظم تدبير المنزل بمدبرين، لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا، فكل قلب باق على الفطرة غير مشوش بمماراة يبق من هذا الدليل إلى فهمه تصديق جازم بوحدانية الخالق، لكن لو شوشه مجادل وقال: لم يبعد أن يكون العالم بين إلهين يتوافقان

(ص352)

على التدبير ولا يختلفان فإسماعه هذا القدر يشوش عليه تصديقه، ثم ربما يعسر سل هذا السؤال ودفعه في حق بعض الأفهام القاصرة فيستولي الشلك ويتعذر الرفع، وكذلك من الجلي أن من قدر على الخلق فهو على الإعادة أقدر، كما قال: (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ) (يس: 79) فهذا لا يسمعه أحد من العوام ذكي أو غبي إلا ويبادر إلى التصديق، ويقول: نعم ليست الإعادة بأعسر من الابتداء بل أهون، ويمكن أن يشوش عليه بسؤال ربما يعسر عليه فهم جوابه، والدليل المستوفى هو الذي يفيد التصديق بعد تمام الأسئلة وجوابها بحيث لا يبقى للسؤال مجال والتصديق يحصل قبل ذلك.

الرابعة: التصديق لمجرد السماع ممن حسن الاعتقاد فيه بسبب كثرة ثناء الخلق عليه، فإن من حسن اعتقاده في أبيه وأستاذه أو في رجل من الأفاضل المشهورين قد يخبره عن شيء كموت شخص أو قدوم غائب أو غيره، فيسبق إليه اعتقاد فيه، فالمجرب بالصدق والورع والتقوى مثل الصديق رضي الله عنه إذا قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، فكم من مصدق به جزمًا وقابل له قبولاً مطلقًا لا مستند لقوله إلا حسن اعتقاده فيه، فمثله إذا لقن العامي اعتقادًا وقال له: اعلم أن خالق العالم واحد قادر وأنه بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم رسولاً بادر إلى التصديق ولم يمازجه ريب ولاشك في قوله، وكذلك اعتقاد الصبيان في آبائهم ومعلميهم فلا جرم يسمعون الاعتقادات ويصدقون بها ويستمرون عليها من غير حاجة إلى دليل وحجة.

الرتبة الخامسة: التصديق به الذي يسبق إليه القلب عند سماع الشيء مع قرائن أحوال لا تفيد القطع عند المحقق ولكن يلقي في قلب العوام اعتقادًا جازمًا كما إذا سمع بالتواتر مرض رئيس البلد ثم ارتفع صراخ وعويل من داره، ثم يسمع من أحد غلمانه أنه قد مات اعتقد العامي جزمًا أنه مات وبنى عليه تدبيرًا ولا يخطر بباله أن الغلام ربما قال ذلك عن إرجاف سمعه، وأن الصراخ والعويل لعله عن غشية أو شدة مرض أو سبب آخر، لكن هذه خواطر بعيدة لا تخطر للعوام فتنطبع على في قلوبهم الاعتقادات الجازمة، وكم من أعرابي نظر إلى أسارير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى حسن كلامه ولطف شمائله وأخلقه فآمن به وصدقه جزمًا لم يخالجه ريب من غير أن يعالجه بمعجزة يقيمها ويذكر وجه دلالتها.

الرتبة السادسة: أن يسمع القول فيناسب طبعه وأخلاقه، فيبادر إلى التصديق لمجرد موافقته لطبعه لا من حسن اعتقاده في قائله، ولا من قرينة تشهد له، لكن لمناسبة ما في طباعه، فالحريص على موت عدوه وقتله وعزله يصدق جميع ذلك بأدنى إرجاف ويستمر على اعتقاده جازمًا، ولو أخبر بذلك في حق صديقه أو بشيء يخالف شهوته هواه توقف فيه أو أباه كل الإباء، وهذه أضعف التصديقات وأدنى الدرجات لأن ما قبله استند إلى دليل

(ص353)

ما. وإن كان ضعيفًا من قرينة أو حسن اعتقاد في المخبر أو نوع من ذلك وهي أمارات يظنها العامي أدلة فتعمل في حقه عمل الأدلة فإذا عرفت مراتب التصديق، فاعلم أن مستند إيمان العوام في هذه الأسباب وأعلى الدرجات في حقه أدلة القرآن وما يجري مجراه مما يحرك القلب إلى التصديق، ولا ينبغي أن يجاوز بالعامي إلى ما وراء أدلة القرآن وما في معناه من الجليات المسكنة للقلوب المستجرة لها إلى الطمأنينة والتصديق وما وراء ذلك ليس على قدر طاقته، وأكثر الناس آمنوا في الصبا وكان سبب تصديقهم مجرد تقليد للآباء والمعلمين لحسن ظنهم بهم وكثرة ثنائهم على أنفسهم، وثناء غيرهم عليهم وتشديدهم النكير بين أيدهم على مخالفيهم، وحكايات أنواع النكال النازل بمن لا يعتقد اعتقادهم وقولهم إن فلانًا اليهودي في قبره مسخ كلبًا، وفلانًا الرافضي انقلب خنزيرًا، أو حكايات منامات وأحوال هذا الجنس ينغرس في نفوس الصبيان النفرة عنه، والميل إلى ضده حتى ينزع الشك بالكلية عن قلبه، فالتعلم في الصغر كالنقش على الحجر، ثم يقع نشوءه عليه ولايزال يؤكد ذلك في نفسه، فإذا بلغ استمر على اعتقاده الجازم تصديقه المحكم الذي لا يخالجه فيه ريب، ولذلك ترى أولاد النصارى والروافض والمجوس والمسلمين كلهم لا يبلغون إلا على عقائد آبائهم، واعتقاداتهم في الباطل والحق جازمة, ولو قطعوا إربًا إربًا لما رجعوا عنها وهم قط لم يسمعوا عليه دليلاً لا حقيقيا ولا رسميًا، وكذا ترى العبيد والإماء يسبون من المشرك ولا يعرفون الإسلام، فإذا وقعوا في أسر المسلمين وصحبوهم مدة ورأوا ميلهم إلى الإسلام مالوا معهم واعتقدوا اعتقادهم وتخلقوا بأخلاقهم. وكل ذلك لمجرد التقليد والتشبيه بالتابعين، والطباع مجبولة على التشبيه لا سيما طباع الصبيان وأهل الشباب فبهذا يعرف أن التصديق الجازم غير موقوف على البحث وتحرير الأدلة.

فصل

لعلك تقول: لا أنكر حصول التصديق الجازم في قلوب العوام بهذه الأسباب، ولكن ليس من المعرفة في شيء، وقد كلف الناس المعرفة الحقيقية دون اعتقاد من جنس الجهل الذي لا يتميز فيه الباطل على الحق. فالجواب: أن هذا غلط ممن ذهب إليه، بل سعادة الخلق في أن يعتقدوا الشيء على ما هو عليه اعتقادًا جازمًا لتنقش قلوبهم بالصورة الموافقة لحقيقة الحق، حتى إذا ماتوا وانكشف لهم الغطاء فشاهدوا الأمور على ما اعتقدوها لم يفتضحوا ولم يحترقوا بنار الخزي والخجلة ولا بنار جهنم ثانيًا، وصورة الحق إذا انتقش بها قلبه فلا نظر إلى السبب المفيد له دليل حقيقي أو رسمي أو إقناعي، أو قبول بحسن الاعتقاد في قائله أو قبول لمجرد التقليد من غير سبب فليس المطلوب الدليل المقيد، بل الفائدة وهي

(ص:354)

حقيقة الحق على ما هي عليه فمن اعتقد حقيقة الحق في الله وفي صفاته وكتبه ورسله واليوم الآخر على ما هو عليه فهو سعيد، وإن لم يكن ذلك بدليل محرر كلامي ولم يكلف الله عباده إلا ذلك وذلك معلوم على القطع بجملة أخبار متواترة من رسول الله صلى الله عليه وسلم في موارد الأعراب عليه وعرضه الإيمان عليهم وقبولهم ذلك وانصرافهم إلى رعاية الإبل والمواشي من غير تكليفه إياهم التفكر في المعجزة، ووجه دلالته والتفكر في حدوث العالم وإثبات الصانع. وفي أدلة الوحدانية وسائر الصفات، بل الأكثر من أجلاف العرب لو كلفوا ذلك لم يفهموه ولم يدركوه بعد طول المدة. بل كان الواحد منه يخلفه ويقول: الله أرسلك رسولاً. فيقول: والله الله أرسلني رسولاً وكان يصدقه بيمينه وينصرف، ويقول الآخر إذا قدم عليه ونظر إليه: والله ما هذا وجه كذاب، وأمثال ذلك مما لا يحصى، بل كل يسلم في غزوه واحدة في عصره وعصر صحابة آلاف لا يفهم الأكثرون منهم أدلة الكلام، و من كان يفهمه يحتاج إلى أن يترك صناعته ويختلف إلى مسلم مدة مديدة ولم ينقل قط شيء من ذلك، فعلم علمًا ضروريًا أن الله تعالى لم يكلف الخلق إلا الإيمان والتصديق الجازم بما قاله كيفما حصل التصديق.

نعم، لا ينكر أن للعارف درجة على المقلد، ولكن المقلد في الحق مؤمن كما أن العارف مؤمن.

فإن قلت: فبم يميز المقلد بين نفسه وبين اليهود والمقلد؟

قلنا: المقلد لا يعرف التقليد ولا يعرف أنه مقلد، بل يعتقد في نفسه أنه محق عارف ولا يشك في معتقده ولا يحتاج مع نفسه إلى التمييز لقطعه بأن خصمه مبطل وهو محق، ولعله أيضًا يستظهر بقرائن وأدلة ظاهرة وإن كانت غير قوية يرى نفسه مخصوصًا بها ومميزًا بسببها عن خصومه، فإن كان اليهودي يعتقد في نفسه مثل ذلك فلا يشوش ذلك على المحق اعتقاده، كما أن العارف الناظر يزعم أنع يميز نفسه عن اليهودي بالدليل، واليهودي المتكلم الناظر أيضًا يزعم أنه مميز عنه بالدليل ودعواه ذلك لا يشك الناظر العارف، وكذلك لا يشكك المقلد القاطع ويكفيه في الإيمان أن لا يشككه في اعتقاده معارضة المبطل كلامه بكلامه، فهل رأيت عاميًا فقط قد اغتم وحزن ومن حيث يعسر عليه الفرق بين تقليد اليهودي، بل لا يخطر ذلك ببال العوام، وإن خطر ببالهم وشوفهوا به ضحكوا من قائله وقالوا: ما هذا الهذيان وكان به بين الحق والباطل مساواة حتى يحتاج إلى فرق فارق تبيينًا أنه على الباطل، وإني على الحق، وأنا متيقن لذلك غير شاك فيه. فكيف أطلب الفرق حيث يكون الفرق معلومًا قطعًا من غير طلب، فهذه حالة المقلدين الموقنين وهذا إشكال لا يقع لليهودي المبطل لقطعه مذهبه مع نفسه، فكيف للمسلم المقلد الذي وافق اعتقاده ما هو

(ص:355)

الحق عند الله تعالى، فظهر بهذا عند القطع للمسلك المقلد الذي وافق اعتقاده ما هو الحق عند الله تعالى، فظهر بهذا على القطع أن اعتقاداتهم جازمة، وأن الشرع لم يكلفهم إلا ذلك.

فإن قيل: فإن فرضنا عاميًا مجادلاً لجوجًا ليس يقلد وليس يقنعه أدلة القرآن ولا الأقاويل الجليلة المفرقة السابقة إلى الأفهام فماذا تصنع به؟

قلنا: هذا مريض مال طبعه عن صحة الفطرة وسلامة الخلقة الأصلية فينظر في شمائله فإن وجدنا اللجاج والجدل غالبًا على طبعه ولم نجادله وطهرنا وجه الأرض عنه إن كان يجاحدنا في أصل من أصول الإيمان، وإن توسمنا فيه بالفراسة مخائل الرشد والقبول إن جاوزنا به من الكلام الظاهر إلى توفيق في الأدلة عالجناه بما قدرنا عليه من ذلك، وداوينا بالجدال المر والبرهان الحلو، وبالجملة فنجتهد أن نجادله بالأحسن كما أمر الله تعالى ورخصنا في القدر من المداواة لا تدل على فتح باب الكلام مع الكافة، فإن الأدوية يستعمل في حق المرضى وهم الأقلون، وما يعالج به المريض بحكم الضرورة يجب أن يوقى عنه الصحيح، والفطرة الصحيحة الأصلية معدة لقبول الإيمان دون المجادلة وتحرير حقائق الأدلة، وليس الضرر في استعمال الدواء مع الأصحاء بأقل من الضرر في إهمال المداواة مع المرضى، فليوضع كل شيء موضعه كما أمر الله تعالى نبيه حيث قال: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل: 125) . والمدعو بالحكمة إلى الحق قوم، وبالموعظة الحسنة قوم آخرون، وبالمجادلة الحسنة قوم آخرون على ما فصلنا أقسامهم في كتاب القسطاس المستقيم فلا نطول بإعادته.

 

Related posts

Leave a Comment