روضة الطالبين وعمدة السالكين.

Spread the love

بسم الله الرحمن الرحيم

روضة الطالبين وعمدة السالكين

الإمام الغزالي

خطبة الكتاب

 قال الشيخ الإمام العالم العلامة الأوحد حجة الإسلام أبو حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي الطوسي تغمده الله برحمته ورضوانه وأسكنه فسيح جناته: الحمد لله الذي أحرق قلوب أوليائه بنيران محبته، واستوفى هممهم وأرواحهم بالشوق إلى لقائه ومشاهدته، ووقف أبصارهم وبصائرهم على ملاحظة جمال حضرته حتى أصبحوا من نسيم روح الوصال سكرى وأصبحت قلوبهم من ملاحظة الجلال والهيبة حيرى، فلم يروا في الكونين إلا إياه، وإن أصبحت لأبصارهم صور عبرت إلى الصور بصائرهم، وإن قرعت أسماعهم نغمة سبقت إلى المحبوب سرائرهم، وإن ورد عليهم صوت مزعج أو مقلق أو مطرب أو محزن أو مهيج أو مشوق لم يكن انزعاجهم إلا إليه ولا طربهم إلا به، ولا قلقهم إلا عليه، ولا حزنهم إلا فيه، ولا شوقهم إلا إلى ما لديه، و أتبعائهم إلا له، ولا ترددهم إلا حواليه فمنه سماعهم، وإليه استماعهم فقد أقفل عن غيره أبصارهم وأسماعهم. أولئك الذين اصطفاهم لولايته واستخلصهم من بين أصفيائه وخاصته، وصلى الله على المبعوث برسالته وعلى آله وأصحابه أئمة الحق وقادته وسلم تسليماً. أما بعد: فقد ألفت هذا الكتاب ليتمسك به طالب الحق ويستعين به على سلوكه إن شاء الله تعالى، وأستعين في ذلك بالله تعالى من الخلل والزلل وهو خير ناصر ومعين وإياه أسأل أن ينفع به إن قريب مجيب وسميته: (روضة الطلابين وعمدة السالكين) وفيه أبواب ومقدمة وفصول: المقدمة في تمهيد الكتاب. أعلم أن انقطاع الخلق عن الحق بوقوفهم مع الخلق ومع أنفسهم ورؤيتهم أفعالهم وانحرافهم عن العقيدة الصحيحة باختلاف أهويتهم التي نفوس البشر مجبولة عليها وحب الجاه والمال والدنيا والرئاسة والشهرة وطول الأمل والتسويف والشح ولاهوى ولاعجب وفحش أغذيتهم من المطعم والمشرب والملبس وفساد دنياهم وغلبة الشهوات النفسانية على قلوبهم وترك مجاهدة لانفس وإهمالها ترفع في شهواتها ورعونتها والتزين للناس والتلبس بالأوصاف المذمومة نحو الغل والحقد والحسد والجهل والحمق والرياء والنفاق، وانبعاث الجوارح في غير طاعة الله تعالى كالعين والسمع واللسان واليد والرجل: “كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً” الإسراء: 36. والكسل والبلادة والغفلة وغير ذلك مما يبعد عن الله تعالى.

صفحة 101

الباب الأول: في بيان أركان الدين. الباب الثاني: في بيان معنى الأدب. الباب الثالث: في بيامن معنى السلوك والتصرف. الباب الرابع: في بيان الوصول والوصال. الباب الخامس: في بيان معنى التوحيد والمعرفة. الباب السادس: في بيان النفس والروح والقلب والعقل. الباب السابع: في بيان معنى المحبة. الباب الثامن: في بيان معنى الأنس بالله تعالى. الباب التاسع: في بيان معنى الحياء والمراقبة. الباب العاشر: في بيان معنى القرب. الباب الحادي عشر: في بيان شرف العلم ووجوب طلبه. الباب الثاني عشر: في بيان معنى الأسماء لاحسنى. الباب الثالث عشر: في بيان الاعتقاد والتمسك بعقيدة صحيحة. الباب الرابع عشر: في بيان صفات الله تعالى. الباب الخامس عشر: في بيان معنى حقيقة الإخلاص. الباب السادس عشر: في الرد على أجاز الصغائر على النبي صلى الله عليه وسلم. الباب السابع عشر: في بيان الخواطر وأقسامها. الباب الثامن عشر: في بيان معنى آفات اللسان. الباب التاسع عشر: في البطن وحفظه. الباب العشرون: في بيان الشيطان ومخادعاته. الباب الحادي والعشرون: في بيان ما تجب رعايته. الباب الثاني والعشرون: في بيان معنى حسن الخلق وسوئه. الباب الثالث والعشرون: في بيان معنى الفكر. الباب الرابع والعشرون: في بيان معنى التوبة. الباب الخامس والعشرون: في بيان الصبر. الباب السادس العشرون: في بيان الخوف. الباب السابع والعشرون: في بيان الرجاء. الباب الثامن والعشرون: في بيان الفقر. الباب التاسع والعشرون: في بيان الزهد. الباب الثلاثون: في بيان المحاسبة. الباب الحادي والثلاثون: في بيان الشكر. الباب الثاني والثلاثون: في بيان التوكل.

صفحة 102

الباب الثالث والثلاثون: في النية. الباب الرابع والثلاثون: في بيان الصدق. الباب الخامس والثلاثون: في بيان الرضا. الباب السادس والثلاثون: في بيان النهي عن الغيبة. الباب السابع والثلاثون: في بيان الفتوة. الباب الثامن والثلاثون: في بيان مكارم الأخلاق. الباب التاسع والثلاثون: في بيان القناعة. الباب الأربعون: في بيان السائل. الباب الحادي والأربعون: في الشفقة على خلق الله تعالى. الباب الثاني والأربعون: في بيان آفة الذنوب. الباب الثالث والأربعون: في صفة صلاة أهل القرب. فصل في آن ما سوى الحق حجاب عنه. أعلم أن الوقوف مع الخلق والنفس حجاب عن الحق ورؤية الأفعال شرك، لأن أفعال العباد مضافة إلى الله تعالى خلقاً وإيجاداً وإلى العبد كسباً ليثاب على الطاعة ويعاقب على المعصية، فحين تعلق العبد بشيء ما يوجده الاقتدار الإلهي يسمى كسباً. هذا مذهب أهل السنة، فقدرة العبد عند مباشرة العمل لا قبله فحينما يباشر العمل يخلق الله تعالى له اقتداراً عند مباشرته فيسمى كسباً. فمن نسب المشيئة والكسب إلى نفسه فهو قدري، ومن نفاهما عن نفسه فهو جبري، ومن نسب المشيئة غلى الله تعالى والكسب إلى العبد فهو سني صوفي رشيد، وفيه كلام طويل ليس هذا موضعه، سيأتي قريباً إن شاء الله تعالى. وأما الانحراف عن العقيدة الصحيحة، فلغلبة الأهواء على القلوب والتعصب لمذهب أهل البدع. قال بعض الأئمة: رب أقوام تنجيهم عقائدهم مع قلة عملهم، ورب أقوام تهلكهم عقائدهم مع كثرة عملهم، وحب الجاه والمال والدنيا سم قاتل، والرئاسة والشهرة يورثان الكبر والدخول في الدنيا وهما فساد الدين. قال بعضهم: ما عملت عملاً وأطلع عليه الناس إلا أسقطته. وأما طول الأمل: فإنه يمنع من حسن العمل ويصد عن الحق والتسويف من أعظم جنود الشيطان، وأما الشح والهوى وإعجاب المرء بنفسه: فهن من المهلكات.

صفحة 103

وأما فحش الغذاء: فإنه يظلم القلب ويورث القسوة والبعد عن الله تعالى، وطيب الغذاء ينور القلب ويورث الرقة والقرب من الله عز وجل. قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) البقرة: 172. والطيبات هي الحلال: أطيب مطعمك ومشربك وما عليك ألا تقوم الليل ولا تصوم النهار، وطيب المطعم أصل كبير في طريق القوم، ولو قام العبد قيام السارية لم ينفعه ذلك، حتى يعلم ما يدخل جوفه. وأسرع الناس جوازاً على الصراط أكثرهم ورعاً في الدنيا. يقول الله عز وجل: “عبدي تجوع تراني تتورع تعرفني تجرد تصل إلي” قال الله تعالى: “وأما الورعون فأستحي أن أعذبهم” قال بعض السادة من الأكابر: عليك بالعلم والجوع والخمول والصوم فإن العلم نور يستضاء به، والجوع حكمة. قال ابو يزيد: ما جعت لله يوماً إلا وجدت في قلبي باباً من الحكمة لم أجده قبل. والخمول راحة وسلامة، ولاصوم صفة صمدانية ما مثلها شيء لقوله تعالى (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) الشورى: 11. فمن تلبس بها أورث العلم والمعرفة والمشاهدة، ولذلك قال تعالى: “كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا الذي أجزي له”. ولخلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك والاشتغال بالدنيا وغلبة الشهوات على القلب يورث جميع الأوصاف المذمومة فلا طمع في القرب ما لم تبدل الأوصاف المذمومة بالمحمودة. قال بعضهم: ما دام العبد ملوثاً بالغير لا يصلح قلبه للقرب والمجالسة حتى يطهر قلبه من السوى. قال عثمان رضي الله عنه: (لو طهرت القلوب لم تشبع من قراءة القرآن لأنها بالطهارة تترقى إلى مشاهدة المتكلم دون غيره). فصل. أعلم أن ما سوى الحق حجاب عنه. ولولا ظلمة الكون لظهر نور الغيب، ولولا فتنة لانفس لارتفعت الحجب، ولولا العوائق لانكشفت الحقائق، ولولا العلل لبرزت القدرة، ولولا الطمع لرسخت المحبة، ولولا حظ باق لأحرق الأرواح الاشتياق، ولولا البعد لشوهد الرب، فإذا انكشف الحجاب تجشم هذه الأسباب وارتفعت العوائق بقطع هذه العلائق: بدا لك سر طال عنك اكتتامه، ولاح صباح كنت أنت ظلامه، فأنت حجاب القلب عن سر غيبه، ولولاك لم يطبع عليك ختامه، فإن غبت عنه حل فيه وطنبت، على منكب الكشف المصون خيامه.

صفحة 104

وجاء حديث لا يمل سماعه، شهي إلينا نثره ونظامه. قال بعضهم: إذا أراد الله بعبد سوءاً مد عليه باب العمل وفتح عليه باب الكسل. جاء رجل إلى معاذ فقال: أخبرني عن رجلين أحدهما يجتهد في العبادة كثير في لاعمل قليل الذنوب إلا أنه ضعيف اليقين يعتوره الشك. قال معاذ: ليحبطن شكه أعماله. قال: فأخبرني عن رجل قليل العمل إلا أنه قوي اليقين وهو في ذلك كثير الذنوب فسكت. فقال: والله لئن أحبط شك الأول أعمال بره ليحبطن يقين هذا ذنوبه كلها. قال فأخذه معاذ بيده. وقال: ما رأيت الذي هو أفقه من هذا. فصل في عمل أبي يزيد البسطامي. قال أبو يزيد البسطامي رضي الله عنه: (مكث اثنتى عشرة سنة حداد نفسي، وخمس سنين كنت أجلو مرآة قلبي، وسنة أنظر فيما بينهما فإذا في وسطى (نار فعملت في قطعه خمس سنين أنظر كيف أقطعه فكشف لي فرأيت الخلق موتى فكبرت عليهم أربع تكبيرات). ومعنى هذا الكلام – والله أعلم – أنه عمل في مجاهدة نفسه وإزالة أدغالها وخبثها وما حشيت به من العجب والكبر والحرص والحقد والحسد وما شابه ذلك مما هو من مألوفات النفس، فعمد إلى إزالة ذلك بأن أدخل نفسه كبر التخويف، ثم طرقها بمطارق الأمر والنهي حتى أجهده ذلك. فظن أنها قد تصفت، ثم نظر في مرآة إخلاص قلبه، فإذا بقايا من الشرك الخفي وهو الرياء والنظر إلى الأعمال وملاحظة الثواب والعقاب والتشوف إلى الكرامات والمواهب. وهذا شرك في الإخلاص عند أهل الاختصاص وهو الزنار الذي أشار إليه فعمل في قطعه: يعني قطع نفسه وفطمها عن العلائق وأعرض عن الحلائق حتى أمات من نفسه ما كان حياً وأحيا من قلبه ما كان ميتاً حتى ثبت قدمه في شهود القدم وأنزل ما سواه منزلة العدم. فعند ذلك كبر على الخلق أربع تكبيرات وانصرف إلى الحق، ومعنى قوله: كبرت على الخلق أربع تكبيرات لأن الميت يكبر عليه أربع تكبيرات، ولأن حجاب الخلق عن الحق أربع: النفس، والهوى، والشيطان والدنيا. فأمات نفسه وهواه ورفض شيطانه ودنياه فلذلك كبر على كل واحدة ممن فنى عنه تكبيرة لأنه هو الأكبر وما سواه أذل وأصغر ثم أعلم أنك لا تصل إلى منازل القربات حتى تقطع ست عقبات: العقبة الأولى: فطم الجوارح عن المخالفات الشرعية.

صفحة 105

العقبة الثانية: فطم النفس عن المألوفات العادية. العقبة الثالثة: فطم القلب عن الرعونات البشرية. العقبة الرابعة: فطم السر عن الكدورات الطبيعية. العقبة الخامسة: فطم الروح عن البخارات الحسية. العقبة السادسة: فطم العقل عن الخيالات الوهمية. فتشرف من العقبة الأولى على ينابيع الحكم القلبية، وتطلع من العقبة الثانية على أسرار العلوم اللدنية وتلوح لك من العقبة الثالثة أعلام المناجاة الملكوتية، وتلمع لك في العقبة الرابعة أنوار المنازلات القريبة، وتطلع لك في الخامسة أقمار المشاهدات الحيية، وتهبط من العقبة السادسة على رياض الحضرة القدسية. فهنالك تغيب مما تشاهد من اللطائف الآتية عن الكثائف الحية، فإذا أرادك بخصوصيته الاصطفائية سفاك بكأس محبته شربة فتزداد بذلك الشرب ظمأ وبالذوق شوقاًن وبالقرب طلباً وبالسكون قلقاً. فإذا تمكن منك هذا السكر أدهشك فإذا أدهشك حيرك، فأنت ها هنا مريد، فإذا فنيت ذاتك وذهبت صفاتك وفنيت ببقائه عن فنائك وخلع عليك خلعة (قبي يسمع ويي يبصر) فيكون هو مستوليك وواليك، فإن نطقت فبأذكاره وإن نظرت فبأنواره، وإن تحركت فبإقداره، وإن بطشت فبإقتداره، فهنالك تذهب الأثنينية واستحالت البينية، فإن رسخ قدمك وتمكن سرك حال سكرك. قلت: هو وإن غلب عليك وجدك تجاوز بك حدك عن حد الثبوت. قلت أنت: فأنت في الأول متمكن، وفي الثاني مسئلون ومن هنا أشكل على الأفهام حل رمز هذا الكلام. الباب الأول. في بيان أركان الدين. أعلم أن كلمتي الشهادة على إيجازهما يتضمنان إثبات ذات الإله سبحانه وإثبات صفاته وإثبات أفعاله وإثبات صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبناء الإيمان على هذه الأركان الأربعة: الركن الأول: في معرفة ذات الله سبحانه وتعالى ومداره على عشرة أصول وهي: العلم بوجود الله تعالى، وقدمه وبقائه، وأنه ليس بجوهر ولا جسم، ولا عرض، وأنه ليس بمختص بجهة، ولا مستقر على مكان، وأنه يرى وأنه واحد. الركن الثاني: في معرفة صفات الله سبحانه وتعالى ومداره على عشرة أصول وهي: العلم بكونه تعالى حياً، عالماً، قادراً، مريداً، سميعاً، بصيراً، متكلماً، صادقاً في أخباره، منزهاً عن حلول الحوادث، وأنه قديم الصفات.

صفحة 106

الركن الثالث: في معرفة أفعال الله سباحنه وتعالى ومداره على عشرة أصول وهي: أن أفعال العباد مخلوقة الله تعالى ومرادة له وأنها مكتسبة لهم، وأنه منفصل بالخلق، وأنه له تكليف ما لايطاق، وله إيلام البرىء ولا يجب عليه رعاية الأصلح، وأنه لا واجب إلا بالشرع وأن بعثة الأنبياء صلى الله عليهم وسلم جائزة، وأن نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ثابتة مؤبدة بالمعجزات. الركن الرابع: في السمعيات ومداره على عشرة أصول وهي: الحشر والنشر، وعذاب القبر، وسؤال منكر ونكير، والميزان ، والصراط، وخلق الجنة والنار، وأحكام الإمامة. الباب الثاني. في بيلن الأدب. روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “أدبني ربي فأحسن تأديبي” والأدب تأديب الظاهر والباطن، فإذا تهذب ظاهر العبد وباطنه صار صوفياً أديباً، ومن ألزم نفسه آداب السنة نور الله قلبه بنور المعرفة، ولا مقام أشرف من متابعة الحبيب صلى الله عليه وسلم في أوامره وأفعاله وأخلاقه والتأدب بآدابه قولاً وفعلاً وعقداً ونية. وبالإنصاف قيما بين الله تعالى وبين العبد في ثلاثة: في الاستعانة والجهد والأدب، فمن العبد الاستعانة، ومن الله الإعانة على التوبة، ومن العبد الجهد، ومن الله التوفيق، ومن العبد الأدب، ومن الله الكرامة. ومن تأدب بآداب الصالحين، فإنه يصلح لبساط الكرامة، وبآداب الأولياء لبساط القربة، وبآداب الصديقين لبساط المشاهدة، وبآداب الأنبياء لبساط الأنس والانبساط، ومن حرم الأدب حرم جوامع الخيرات، ومن لم تريضه أوامر المشايخ وتأديباتهم، فإنه لا يتأدب بكتاب ولا سنة، ومن لم يقم بآداب أهل البداية كيف يستقيم له دعوى مقامات أهل النهاية. ومن لم يعرف الله عز وجل لم يقبل عليه، ومن لم يتأدب بأمره ونهيه كان عن الأدب في عزلة. وآداب الخدمة الفناء عن رؤيتها مع المبالغة فيها برؤية مجربها. العبد يصل بطاعته إلى الجنة وبأدبه إلى الله تعالى، والتوحيد موجب يوجب الإيمان فمن لا إيمان له لا توحيد له والإيمان موجب يوجب الشريعة فمن لا شريعة له لا إيمان له ولا توحيد له، والشريعة موجب يوجب الأدب فمن لا أدب له فلا شريعة له ولا إيمان له ولا توحيد له، وترك الأدب موجب يوجب الطرد، فمن أساء الأدب على البساط رد إلى الباب، ومن أساء الأدب على الباب رد إلى سياسة الدواب، وأنفع الآداب النفقة في الدين والزهد في الدنيا والمعرفة بما الله عليك وإذا ترك العارف أدبه مع معروفة فقد هلك مع الهالكين. وقيل: ثلاث خصال ليس معهن غربة: مجانية أهل الريب، وحسن الأدب، وكف

صفحة 107

الأذى، وأهل الدين أكثر آدابهم في تهذيب النفوس، وتأديب الجوارح، وحفظ الحدود، وترك الشهوات، وأهل الخصوصية أكثر آدابهم في طهارة القلوب، ومراعاة الأسرار، والوفاء بالعهود، وحفظ الوقت، وقلة الالتفات إلى الخواطر، وحسن الأدب في مواقف الطلب، وإدمان الحضور، ومن قهر نفسه بالأدب فهو الذي يعبد الله بالإخلاص. وقيل: هو معرفة اليقين. وقيل يقول الحق سبحانه: “من آلزمنه القيام مع أسمائي وصفاتي ألزمته الأدب، ومن أراد الكشف عن حقيقة ذاتي ألزمته العطب، فأختر أيهما شئت: الأدب أو العطب؟ ومن لم يتأدب للوقت فوقته مقت، وإذا خرج المريد عن استعمال الأدب فإنه يرجع من حيث جاء”. وحكى عن أبي عبيد القاسم بنم سلام قال: دخلت مكة فربما كنت أقعد بحذاء الكعبة وربما كنت أستلقي وأمد رجلي فجاءتني عائشة المكية فقالت لي: يا أبا عبيد: يقال إنك من أهل العلم اقبل مني كلمة لا تجالسه إلا بالأدب وإلا فيمحى اسمك من ديوان أهل القرب، قال أبو عبيد:وكانت من العارقات وقال بعضهم: الزم الأدب ظاهراً وباطناً فما أساء أحد الأدب في ظاهر إلا عوقب ظاهراً، وما اساء أحد الأدب باطناً إلا عوقب باطناً فالأدب استخراج ما في القوة والخلق إلى الفعل وهذا يكون لمن ركبت السجية الصالحة فيه والسجية فعل الحق لا قدرة للبشر على تكوينها كتكون النار في الزناد إذ هو فعل الله المحض واستخراجه يكسب الآدمي فهكذا الآداب منبعها بالسجايا الصالحة والمنح الإلهية، ولما هيأ الله تعالى بواطن الصوفية بتكميل السجايا الكاملة فيها تواصلوا بحسن الممارسة والرياضة إلى استخراج ما في النفوس مركوزة بخلق الله إلى الفعل فصاروا مؤدبين مهذبين. فصل في آداب أهل الحضرة الإلهية لأهل القرب. كل الآداب تتلقى من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه صلى الله عليه وسلم مجمع الآداب ظاهراً وباطناً، وأخبر الله سبحانه عن حسن أدبه في الحضرة بقوله تعالى: (مَا زَاغَ الْبَصرُ ومَا طَغَى) النجم: 17. وهذه غامضة من غوامض الآداب اختص بها رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر الله عن اعتدال قلبه لمقدس في الإعراض والإقبال أعرض عما سوى الله، وتوجه إلى الله، وترك وراء ظهر، لأرضين والدار العالجة بحظوظها والسموات والدار الآخرة بحظوظها ولا لحقه الأسف على الفائت في إعراضه. قال الله تعالى: (لِكَيْلا تَأْسَوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ) الحديد: 23. فهذا الخطاب للعموم، وما زاغ البصر إخبار عن حال النبي صلى الله عليه وسلم بوصف خاص من معنى ما خاطب به العموم، فكان ما زاغ البصر حالع في طرف الإعراض، وفي طرف الإقبال تلقى ما ورد عليه في مقام: قاب قوسين بالروح والقلب، ثم فر من الله حياء منه وهيبة وإجلالاً وطوى نفسه في مطاوي انسكاره وافتقاره، لكيلا تنبسط النفس فتطغى، فإن الطغيان عند

صفحة 108

الاستغناء وصف النفس. قال الله تعالى (كًلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى (6) أَن رَآهُ اسْتَغْنَى) العلق: 6، 7. ولانفس عند المواهب الواردة على الروح والقلب تسترق السمع ومتى نالت قسطاً من المنح استغنت وطغت، والطغيان يظهر منه فرط البسط، والإفراط في البسط يد باب المزيد، وطغيان النفس لضيق وعاتها من المواهب فموسى عليه السلام صح له في الحضرة أحد الظرفين. ما زاغ بصره، وما التفت إلى ما فاته متأسفاً لحسن أدبه، ولكن امتلأ من المنح واسترقت النفس السمع وتطلعت إلى القسط والحظ فلما حظيت النفس استغنت وطفح عليها ما وصل إليها وضاق نطاقها فتجاوز الحد من فرط البسط وقال: (أَرِنِي أَنظُرُ إلَيْك) الأعراف: 143. فمنع ولم يطق صبراً وثباتاً في قضاء المزيد وظهر الفرق من الحبيب والكليم عليهما الصلاة والسلام. وقال سهل بن عبد الله التستري: لم يرجع رسول لاله صلى الله عليه وسلم إلى شاهد نفسه ولا إلى مشاهدتها وإنما كان مشاهداً بكليته لربه. يشاهد ما يظهر عليه من الصفات التي أوجبت الثبوت في ذلك المحلوهذا الكلام لمن اعتبره موافق لكا شرحناه برمز في ذلك من كلام سهل بن عبد الله، والله أعلم. الباب الثالث. في بيان معنى السلوك والتصرف. أعلم: أن السلوك هو تهذيب الأخلاق والأعمال والمعارف. وذلك اشتغال بعمارة الظاهر والباطن، والعبد في جميع ذلك مشغول عن ربه إلا أنه مشتغل بتصفية باطنه ليستعد للوصول. والذي يفسد على السالك سلوكه شيئان: اتباع الرخص بالتأويلات، والاقتداء بأهل الغلط من متبعي الشهوات. ومن ضيع حكم وقته فهو جاهل، ومن قصر فيه فهو غافل، ومن أهمله فهو عاجز. لا تصح إرادة المريد حتى يكون الله ورسوله وسواس قلبه، ويكون نهاره صائماً ولسانه صامتاً. لأن كثرة الطعام والكلام والمنام نقصى القلب. وظهره راكعاً وجبهته ساجدة وعينه دامعة وغامضة، وقلبه حزيناً ولسانه ذاكراً. وبالجملة: قد شغل كل عضو فيه ومعنى فيه بوظيفة ندبه الله ورسوله إليها وترك ما كره الله ورسوله له. وللورع معانقاً ولأهوائه تاركاً مطلقاً وراثياً جميع ما وفقه الله تعالى له من فضل الله عليه، ويجتهد أن يكون ذلك كله احتساباً لا ثواباً، وعبادة لا عادة، لأنه من لاحظ المعمول له اشتغل به عن رؤية الأعمال ونفسه تاركاً للشهوات، فصحة الإرادة ترك الاختيار والسكون إلى مجاري الأقدار كما قيل: أريد وصاله ويريد هجري، فأترك ما أريد لما يريد. وافن عن الخلق بحكم الله وعن هواك بأمر الله، وعن إرادتك بفعل الله، فحينئذ

صفحة 109

تصلح أن تكون وعاء لعلم الله فعلامة فنائك عن الخلق انقطاعك عنهم وعن التردد إليهم والإياس عما في أيديهم، وعلامة فنائك عنك وعن هواك ترك التكسب، والتعلق بالسبب في جلب النفع ودفع الضر فلا تتحرك فيك بك، ولا تعتمد عليك لك، ولا تذب عنك ولا تضر نفسك، لكن تكل ذلك كله إى من تولاه أولاً ليتولاه آخراً، كما كان ذلك موكلاً إليه في حال كونك مغيباً في الرحم، وكونك رضيعاً في مهدك، وعلامة فنائك عن إرادتك بفعل الله أن لا تريد مراداً قط لأنك لا تريد مع إرادة الله سواها، بل يجري فعله فيك فتكون أنت إرادة الله وفعله ساكن الجوارح مطمئن الجنان، مشروح الصدر، منور الوجه، عامر البطن، تقلبك القدرة ويدعوك لسان الأزل، ويعلمك رب الملك، ويكسوك من نور الحلل، وينزلك منازل من سلف من أولى العلم. فصل في لزوم العزلة. على السالك أن يلزم العزلة ليستظهر بها على أعدائه. وهي نوعان: فريضة وفضيلة. فالفريضة: العزلة عن الشر أهله. والفضيلة العزلة عن الفضول وأهله. وقيل: الخلوة غير العزلة، والخلوة عن الأغيار، والعزلة من النفس وما تدعو إليه وتشغل عن الله. وقيل: السلامة عشرة أجزاء تسعة منها في الصمت وواحدة في العزلة. وقيل: الحكمة عشرة أجزاء تسعة منها في الصمت عما لا يعني. والعاشرة في العزلة عن الناس. كثير من ندم على الكلام وقل من ندم على السكوت. وقيل: الخلوة أصل والخلطة عارض. فيلزم الأصل ولا يخالط إلا بقدر الحاجة، وإذا خالط يلازم الصمت فإنه أصل. وإذا صفا لك من زمانك واحد، فهو المراد فأين ذاك الواحد. وقيل: الخلوة بالقلب فيكون مستغرقاً بكليته مع الله تعلاى معكوفاً قلبه عليه مشغوفاً به والهاً إليه متحققاً كأنه بين يديه. قيل: أول مبادئ السالك أن يكثر الذكر بقلبه ولسانه بقوة حتى يسري الذكر في أعضائه وعروقه، وينتقل الذكر إلى قلبه فحينئذ يسكت لسانه ويبقى قلبه ذاكراً يقول (الله الله) باطناً مع عدم رؤيته لذكره، ثم يسكن قلبه ويبقى ملاحظاً لمطلوبه مستغرقاً به معكوفاً عليه مشغوفاً إليه مشاهداً له، ثم يغيب عن نفسه بمشاهدته، ثم يفنى عن كليته بكليته حتى كأنه في حضرة (لِمِنِ الْمُلْكُ الْيُوْمَ لِلهِ الْوَاحِدِ الْقَهَارِ) غافر: 16. فحينئذ يتجلى الحق على قلبه فيضطرب عند ذلك ويندهش ويغلب عليه السكر وحالة الحضور والإجلال والتعظيم، فلا يبقى فيه متسع لغير مطلوبه الأعظم. كما قيل: فلا حاجة لأهل الحضور إلى غير شهود عوانه. وقيل: في قوله تعالى: (وشاهد ومشهود) البروج: 3.

رسائل الامام  الغزالى—————————————-              ص110

فالشاهد: هو الله، والمشهود : هو عكس جمال الحضرة الصمدية فهو الشاهد والمشهود.

فصل

يا حبيبى أطبق جفنيك وانظر ماذا ترى ، فإن قلت لا أرى شيئا حينئذ فهو خطأ منك بل تبصر . ولكن ظلام الوجود لفرط قربه من بصيرتك لا تجده .فإن أحببت أن تجده وتبصره قدامك مع أنك مطبق جفنيك ،فانقص من وجودك شيئا فشيئا أو أبعد من وجودك شيئا وطريق تنقيصه والإبعاد منه قليلاً المجاهدة ومعنى المجاهدة بذل الجهد فى دفع الأغيار أو قتل الأغيار والأغيار الوجود والنفس والشيطان .وبذل الجهد مضبوط بطرق :

الأول: تقليل الغذاء بالتدريج ،فإن مدد الوجود والنفس والشيطان من الغذاء ،فإذا قل الغذاء قل سلطانه .

والثانى:ترك الإختيار وإفنائه فى اختيار شيخ مأمون ليختار له ما يصلحه ،فإنه مثل الطفل الصبى الذى لم يبلغ مبلغ الرجال أو السفيه المبذر .وكل هؤلاء لابد لهم من وصى أو ولى أو قاض أو سلطان يتولى أمرهم.

والثالث: من الطرق طريقة الجنيد قدس الله روحه وهو ثمان شرائط .دوام الوضوء،ودوام الصوم،ودوام السكوت ،ودوام الخلوة ودوام الذكر وهو قول (لا اله إلا الله )

ودوام ربط القلب بالشيخ واستفادة علم الواقعات منه بفناء تصرفه فى تصرف الشيخ ,ودوام نفى الخواطر ,ودوام ترك الاعتراض على الله تعالى فى كل ما يرد منه عليه ضرّاًكان أو نفعا ًوترك السؤال عنه من جنة او تعوذ من نار .

والفرق بين الوجود والنفس والشيطان فى مقام المشاهدة : أن الوجود شديد الظلمة فى الأول ,فإذا صفا قليلاً تشكل قدامك بشكل الغيم الأسود فإذا عرش الشيطان كان أحمر فإذا صلح وفنى الحظوظ منه وبقى الحقوق صفا وابيض مثل المزن ،والنفس إذا بدت فلونها لون السماء وهى الزرقة , ولها نبعان كنبعان الماء من اصل الينبوع .فإذا كانت عرش الشيطان فكأنها عين من ظلمة ونار ويكون نبعها أقل .فإن الشيطان لا خير فيه وفيضان النفس على الوجود وتربيته منها فإن صفت وزكت أفاضت عليه الخير وما نبت منه .فإن أفاضت عليه الشر فكذلك ينبت منه الشر , والشيطان نار غير صافية ممتزجة بظلمات الكفر فى هيئة عظيمة وقد يتشكل قدامك كأنه زنجى طويل ذو هيبة يسعى  كأنه يطلب الدخول فيك .فإذا طلبت منه الانفكاك فقل فى قلبك يا غياث المستغيثين أغثنا فإنه يفر عنك .

رسائل الامام  الغزالى—————————————-              ص111

فصل فى التصوف

حكم الصوفى أن يكون الفقر زينته والصبر حليته والرضى مطيته والتوكل شأنه .

والله عزوجل وحده حسبه يستعمل جوارحه فى الطاعات وقطع الشهوات والزهد فى الدنيا والتورع عن جميع حظوظ النفس وأن لا يكون له رغبة فى الدنيا البته ,فإن كان ولا بدّ فلا تجاوز

رغبته كفايته ويكون صافى القلب من الدنس وُلِهَاً بحب ربه فاراً الى الله تعالى بسره يأوى اليه كل شىء ,ويأنس به وهو لا يأوى إلى شىء ,أى لا يركن إلى شىء

ولا يأنس بشىء سوى معبوده آخذ بالأولى والأهم والأحوط فى دينه مؤثرا الله على كل شىء .

التصوف : طرح النفس فى العبودية وتعلق القلب بالربوبية .وقيل : كتمان الفاقات ومدافعة الآفات .

وقال سهيل بن  عبد الله : الصوفى من صفا من الكدر وامتلاء من الفكر واستوى عنده الذهب والمدر .وقيل :التصوف تصفية القلب عن مرافقة البرية ،ومفارقة الأخلاق الطبيعية ، وإخماد صفات البشرية ،ومجانية الدواعى النفسانية ،ومنازلة الصفات الروحانية ،والتعلق بالعلوم الحقيقية وإتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الشريعة . وقيل :الصوفى هو الذى يكون دائم التصفية لايزال يصفى الأوقات عن شوب الاقدار بتصفية القلب عن شوب النفس ومعينه على على هذه دوام إفتقاره الى مولاه ، فبدوام الافتقار يتفطن للكدر كلما تحركت النفس وظهرت بصفة من صفاتها أدركها ببصيرته النافذة وفر منها إلى ربه، فبدوام تصفيته جمعيته وبحركة نفسه تفرقته وكدره فهو قائم بربه على قلبه وقائم بقلبه على نفسه. قال الله تعالى)  كونوا قوامين لله شهداء بالقسط)(المائدة:8) وهذه لله على النفس هو تحقق بالتصوف.

فصل فى أصول التصوف

أكل الحلال والإقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم فى أخلاقه وأفعاله وأوامره وسنته. ومن لم يحفظ القرآن ويكتب الحديث لا يقتدى به فى هذا الامر لأن علمنا مضبوط بالكتاب والسنه . أخذ هذا المذهب بالورع والتقوى لا بالدعاوى.

التصوف:أوله علم وأوسطه عمل وأخره موهبة . فالعلم : يكشف عن المراد ،والعمل : يعين على الطلب ،والموهبة : تبلغ غاية الأمل.

والعمل :يعين على الطلب ، والموهبة : تبلغ غاية الامل .

وأهله على ثلاث طبقات :مريد طالب ،ومتوسط سائر ،ومنته واصل. فالمريد صاحب وقته ،والمتوسط صاحب حال ،والمنتهى صاحب يقين ،وأفضل الأشياء عندهم عد الأنفاس . فمقام

رسائل الامام  الغزالى—————————————-              ص112

المريد المجاهدات والمكابدات وتجرع المرارات ومجانية الحظوظ وما على فيه تبعة . ومقام المتوسط ركوب الأهوال فى طلب المراد ومراعاة الصدق وإستعمال الأدب فى المقامات وهو مطالب بأداب المنازل وهو صاحب تلوين ،لأنه ينتقل من حال إلى حال وهو الزيادة . ومقام المنتهى الصحو والثبات وإجابة الحق من حيث دعاه قد تجاوز المقامات ،وهو فى محل التمكين لا تغيره الأهوال ولا تؤثر فيه الأحوال.قد استوى فى حال الشدة او الرخاء والمنع والعطاء والجفاء والوفاء – أكله كجوعه ونومه كسهره . قد فنيت حظوظه وبقيت حقوقه ظاهرة مع الخلق،وباطنه مع الحق كل ذلك من أحوال النبى صلى الله عليه وسلم . المنتهى لو نصب له سنان

فى أعلى شاهق فى الأرض وهبت له الرياح الثمانية ما حركت  منه شعرة واحدة.وقيل : سموا صوفية لأنهم وقفوا فى الصف الأول بين يدى الله عز وجل بإرتفاع هممهم وإقبالهم على الله تعالى بقلوبهم ووقوفهم بين يديه بسرائرهم .

فصل فى الملامتيه

حكم الملامتى أن لايظهر خيرا ولا يضمر شرا . وشرح هذا : هو أن الملامتى تشربت عروقه طعم الإخلاص وتحقق بالصدق فلا يحب أن يطلع أحد على حاله وأعماله .

والملامتيه لهم مزيد إختصاص بالتمسك والإخلاص يرون كتم الأحوال ويتلذذون بكتمها حتى لو ظهرت أعمالهم وأحوالهم لأحد إستوحشوا من ذلك ،كما يستوحش العاصى من ظهور معصيته . فالملامتى عظم موقع الإخلاص وموضعه  وتمسك به معتمدا به . والصوفى غاب فى إخلاصه.

قال أبو يعقوب السوسى : متى شهدوا فى إخلاصه والإخلاص إحتاج إخلاصهم إلى إخلاص . قال بعضهم : صدق الإخلاص نسيان رؤية الخلق بدوام  النظر الى الحق ، والملامتى يرى فيخفى عمله  وحاله . قال جعفر الخلدى : سألت أبا القاسم الجنيد قلت:بين الإخلاص والصدق فرق؟قال: نعم الصدق أصل وهو الأول والإخلاص فرع وهو تابع.

وقال : بينهما فرق لأن الإخلاص لا يكون إلا بعد الدخول فى العمل .  ثم قال :إنما هو إخلاص ومخالصة الإخلاص وخالصته كائنة فى المخالصة . فعلى هذا  الإخلاص حال الملامتى ، ومخالصة الإخلاص حال الصوفى ،والخالصة الكائنة فى المخالصة ثمرة مخالصة الإخلاص وهو فناء العبد عن رسومه برؤية قيامه بقيومه، بل غيبته عن رؤية قيامه وهو الإستغراق فى العين عن الأثار والتخلص عن لوث الإستتار وهو فقد حال الصوفى. والملامتى مقيم فى أوطان إخلاصه غير متطلع إلى حقيقة إخلاصه.

وهذا فرق واضح بين الملامتى والصوفى . فالملامتى وإن كان متمسكا بعروة الإخلاص مستفرشا بساط الصدق . ولكن عليه بقية رؤية الخلق وما أحسنها من بقية تحقق الإخلاص والصدق. والصوفى صفاء من هذه البقية فى طرفى العمل والترك للخلق وعزلهم بالكلية ورائهم بعين الفناء والزوال، ولاح له ناصية التوحيد وعاين سر(كل شئ هالك إلا وجهه )(القصص:88). كما قال بعضهم فى بعض غلباته : ليس  فى الدارين غير الله . وقد يكون إخفاء

رسائل الامام  الغزالى—————————————-              ص113

الملامتى الحال على وجهين : أحد الوجهين لتحقيق الإخلاص والصدق ، والوجه الأخر وهو الأتم لستر الحال عن غيره بنوع غيره،

فإنه من خلا بمحبوبه يكره إطلاع الغير عليه ، بل يبلغ فى صدق المحبة أن يكره اطلاع احد على حبه لمحبوبه ،وهذا وإن على ففى طريق الصوفى علة و نقص . فعلى هذا يتقدم الملامتى على المتصوف  ويتأخر عن الصوفى . وقيل : من أصول أهل الملامة أن الذكر على أربعة أقسام : ذكر اللسان ، وذكر القلب، وذكر بالسر، وذكر بالروح. فإذا صح ذكر الروح سكت السر والقلب واللسان عن الذكر وذلك ذكر المشاهدة ، وإذا صح ذكر السر سكت القلب واللسان عن  الذكر

وذلك ذكر الهيبة ، وإذا صح ذكر  القلب عن الذكر وذلك ذكر الألاء والنعماء ،وإذا غفل القلب عن الذكر أقبل اللسان على الذكر . وذلك ذكر العادة .

ولكل واحد من هذه الأذكار عندهم أفة ، فأفة ذكر الروح إطلاع السر عليه وأفة ذكر السر إطلاع القلب عليه ،وأفة ذكر القلب إطلاع النفس عليه ، وأفة ذكر النفس رؤية ذلك وتعظيمه وطلب ثواب أو ظن أنه يصل إلى شئ من المقامات به

وأقل الناس قيمة عندهم من يريد إظهاره وإقبال الخلق عليه بذلك . وسر هذا الأصل الذى بنو عليه أن ذكر الروح ذكر اللذات ، وذكر السر ذكر الصفات بزعمهم ، وذكر القلب من الألاء والنعماء ذكر أثر الصفات ، وذكر النفس متعرض للعلات ، فمعنى قولهم : إطلاع السر على الروح يشيرون إلى التحقيق بالفناء عن ذكر الذات ، وذكر الهيبة فى ذلك الوقت ذكر الصفات وهو وجود الهيبة ، ووجود الهيبة يستدعى وجودا أو بقية ، وذلك يناقض حال الفناء . وهكذا ذكر السر وجود هيبة وهو ذكر الصفات مشعر بنصيب القرب ، وذكر القرب الذى هو ذكر الألاء والنعماء مشعر ببعد ما لا به إشتغال بذكر النعمة وذهول عن المنعم، والإشتغال برؤية العطاء عن رؤية المعط ضرب من بعد المنزلة وإطلاع النفس نظرا إلى الأغراض إعتداد بوجود العمل ،وذلك عين الإعتلال حقيقة ،وهذه إقسام هذه الطائفة وبعضها أعلى من بعض .والله أعلم.

الباب الرابع

فى بيان معنى الوصول والوصال

إعلم:أن الوصول هو أن يُكشف للعبد حلية الحق ويصير مستغرقا به، فإن نظر إلى معرفته فلا يعرف إلا الله وإن نظر إلى همته فلا همة له سواه . فيكون كله مشغولاَ بكله مشاهدة وهمّا ولا يلتفت فى ذلك إلى نفسه ليعمّر ظاهره بالعباده أو باطنه بتهذيب الأخلاق وكل ذلك طهارة وهى البداية, وأما النهاية أن ينسلخ من نفسه بالكلية ويتجرد له فيكون كأنه هو وذلك هو الوصول,فافهم جدا: ومعنى الوصال هو الرؤية والمشاهدة بسر القلب فى الدنيا وبعين الرأس فى الآخرة, فليس معنى الوصال إتصال الذات بالذات تعالى الله عن ذلك علوّاَ كبيرا.قال بعضهم:

                    وإن طــــرفي موصـــــول برؤيتــه

                                                      وإن تباعد عن مثواي مثواه

رسائل الامام  الغزالى—————————————-              ص114

إعلم: أن مباني الصوفية على أربعة أشياء وهى : إجتهاد, وسلوك ,وسير,وطير.

فالإجتهاد:التحقق بحقائق الإسلام. والسلوك : التحقق بحقائق الإيمان . والسير:التحقق بحقائق الإحسان. والطير:الجذبة بطريق الجود والإحسان إلى معرفة الملك المنان , منزلة الإجتهاد من السلوك , منزلة الإستنجاء من الوضوء , فمن لا إستنجاء له لا وضوء له

فهكذا من لا إجتهاد له لا سلوك له , ومنزل السلوك من السير منزلة الوضوء من الصلاة فمن لا وضوء له لا صلاة له . فكذا من لا سلوك له لا سير له .وبعده الطير وهو الوصول , والله تعالى أعلم.

فهذة طريق السالكين ومنازل السائرين , وبعد ذلك طريق الوصول ومنازل الواصلين وهو الطير. والله أعلم

فصـل فى الإتصال

قال الثوري: الإتصال مكاشفات القلوب ومشاهدات الأسرار فى مقام الذهول.

إعلم: أن الإتصال والمواصلة فيما أشارت اليه الشيوخ وكل من وصل الى صفو اليقين بطريق الذوق والوجد فهو رتبة من الوصول. ثم يتفاوتون فمنهم من يجد الله بطريق الأفعال وهو رتبة فى التجلي فيفنى فعله وفعل غيره لوقوفه مع الله تعالى ويخرج فى هذه الحالة من التدبير والإختيار . وهذة رتبة فى الوصول. ومنهم من يوقف فى مقام الهيبة والأنس بما يكاشف قلبه من مطالعة الجلال والجمال, وهذا تجلى بطريق الصفات وهو رتبة فى الوصول. ومنهم من يرقى الى مقام الفناء مستمليا على باطنه أنوار اليقين والمشاهدة مغيبا فى شهوده عن وجوده, وهذا ضرب من تجلى الذات لخواص المقربين, وهذة رتبة فى الوصول وفوق هذا الحق اليقين ويكون من ذلك فى الدنيا للخواص لمح وهو سريان نور المشاهدة فى كليه العبد حتى يحظى به روحه وقلبه ونفسه حتى قالبه.وهذا من أعلى الرتب الوصول , وإذا تحققتا الحقائق يعلم العبد مع هذه الأحوال لاشريفة أنه يعد فى أول المنزل. فأين الوصول ؟ هيهات منازل طريق الوصول لا تقطع أبد الآباد فى الآخرة الأبدي. فكيف فى العمر القصير الدنيوي؟ والله أعلم.

رسائل الامام  الغزالى—————————————-             

ص115

الباب الخامس

فى بيان معنى التوحيد والمعرفة ويضاف إليهما البصيرة

والمكاشفة والمشاهدة والمعاينة والحياة واليقين والإلهام

والفراسة لأنها من مواريثهما

أما التوحيد: فهو إفراد القدم عن الحدوث والإعراض عن الحادث والإقبال القديم على القديم حتى لا يشهد نفسه فضلا عن غيره, لأنه لو شاهد نفسه فى حال توحيد الحق تعالى أو غيره لكان مثنيا لا موحداَََََ ذاته القديمة بوصف الوحدانية موصوفة وبنعت الفردانية منعوته, وصفات المحدثات من المشاكلة والمماثلة والإتصال والإنفصال والمقارنة والمجاورة والمخالطة والحلول والخروج والدخول  والتغيير  والزوال  والتبدل والانفتال من قدس ذاته  ونزاهة صفاته  مسلوبة، ولا ينسب نقصان الى كمال  جماله وكمال جمال احديته مبرا عن وصمة ملاحظة  الافكار ، وجلال

صمديته معرى عن مزاحمة ملابسة الاذكار ، ضاقت عبارات المبارزين فى ميدان الفصاحة عن وصف كبريائه ، وعجز بيان السابقين فى عرصة المعرفة عن تعريف ذاته تعالى , وتعالى إدراكه عن مناولة الحواس ومحاولة القياس ، وليس لأصحاب البصائر فى أشعة النور عظمته سبيل التعامى والتغاشى. إن قلت :أين ؟ فالمكان خلقه و، وإن قلت : متى  ؟ فالزمان إيجاده ، وإن قلت : كيف ؟ فالمشابهة والكيف مفعولة ، وإن قلت : كم.؟ فالمقدار والكمية مجعولة ، أزل والأبد مندرج تحت إحاطته ، والكون والمكان منطو فى بساطه كل  ما يسع العقل والفهم والحواس والقياس ذات الله تعالى مقدسة عنه إذ كل ذلك محدث والمحدث لا يدرك إلا المحدث  دليل وجوده وبرهان شهوده الإدراك فى هذا المقام عجز . والعجز عن الإدراك إدراك . لا يصل بكنه الواحد إلا الواحد ، وكل ما انتهى إدراك الموحد اليه فهو غاية إدراكه لا غاية الواحد تعالى عن ذلك علوا كبيرا وكل من ادعى أن معرفة الواحد منحصرة فى معرفته فهو  بالحقيقة ممكور ومغرور . وقوله تعالى ( وغركم بالله الغرور )(الحديد :14) إشارة إلى هذا الغرور

فصل فى التوحيد

والتوحيد فى البداية نفى التفرقة  والوقوف على الجمع. وأما فى النهاية فيمكن ان يكون الموحد حال التفرقة مستغرقا فى عين الجمع وفى عين الجمع بعين الجمع ناظرا الى  التفرقة بحيث كل واحد من الجمع والتفرقة لا يمنع من الاخر . وهذا هو كمال  التوحيد وذلك أن بصير حال التوحيد وصفا لازما لذات الموحد ، وتتلاشى وتضمحل ظلمة رسوم وجوده فى غلبة إشراق أنوار توحيده ، ونور علم توحيده يستتر ويندرج فى نور حاله على مثال إندراج الكواكب فى نور الشمس ، فلما استبان الصبح أدرج ضوئه بإسفاره أضواء نور الكواكب . وفى هذا المقام يستغرق وجود الموحد فى مشاهدة جمال الواحد فى عين الجمع بحيث لا يشاهد غير ذات الواحد تعالى وغير صفاته عز وجل واستلبه أمواج بح التوحيد وغرق فى عين الجمع من هنا.

رسائل الامام  الغزالى—————————————-             

ص116

قال الجنيد :- قدس الله روحه- معنى ذلك اضمحل فيه الرسوم وتندرج فيه العلوم ويكون الله تعالى كما يزل . وقيل : من وقع فى بحار التوحيد لا يزداد على ممر الزمان إلا عطشا.

فصل فى بيان أنواع  التوحيد

اعلم : أن إثبات التوحيد خمسة أشياء فى أصول التوحيد لابد لكل مكلف من إعتقادهن.

إحداها : وجود البارئ تعالى ليبرأ به من التعطيل .

ثانيها :وحدانيته تعالى ليبرأ به من الشرك .

وثالثها: تنزيهه تعالى عن كونه جوهرا أو عرضا . وعن لوازم  كل منها ليبرأ به من التشبيه.

ورابعها: إبداعه تعالى  بقدرته واختياره لكل ما سواه ليبرأ به عن القول بالعلة والمعلول.

وخامسها : تدبيره تعالى لجميع مبتدعاته ليبرأ به عن تدبير الطبائع والكواكب والملائكه؛ وقوله (لا اله إلا الله) يدل على الخمسة.0

فصل

إتفق المسلمون على أن الله تعالى موصوف بكل كمال . برىء من كل نقصان؛ لكنهم اختلفو فى بعض الأوصاف فاعتقد بعضهم انها كمال فأثبتها له واعتقد أخرون أنها نقصان فنفوها عنه .ولذلك أمثله :

إحدها: قول المعتزله أن الإنسان خالق لآفعاله ؛ لأن الله لو خلقها ثم نسبها إليه ؛ ولأنه لو فعالها مع أنه لم يفعلها  وعذبه عليها مع أنه يوجدها ؛ لكان ظالما له والظلم نقصان . وكيف يصح أن يفعل شيئأ ثم يلوم غيره عليه ويقول له: كيف فعلته ولم فعلته؟ وأهل السنة يقولون : وجدنا كمال الإله فى التفرد ونفى القدرة عيب ونقصان،وليس تعذيب الرب على ما خلقه بظلم بدليل تعذيب البهائم والمجانين والأطفال ،لأنه يتصرف فى ملكه كيف يشاء(لا يسأل عما يفعل) (الآنبياء:23) والقول بالتحسين والتقبيح باطل فرأوا أن يكون هو الخالق لآفعال العباد ورأوا تعذيبهم على ما لا يخلقون جائزاً من أفعاله غير قبيح.

رسائل الامام  الغزالى—————————————-              ص117

المثال الثانى: اختلاف المجسمة مع المنزهة. قالت المجسمة: لو لم يكن جسماّ لكان معدوماّ ولا عيب اقبح من العدم. وكذا النفى عن الجهات قول بعدمه لآن من لا جهة له لا يتصور وجوده. وقالت المنزهة: لو كان جسماّ لكان حادثاّ ولقاتة كمال الآزلية والنفى عن الجهات كلها انما يوجب عدم من كان محدوداّ منحصراّ فى الجهات. فأما ما كان موجوداّ قديماّ لم يزل ولا جهة فلا ينصرف اليه النفى.

المثال الثالث: ايجاد المعتزلى على الله ان يثبت الطائعين كيلا يظلمه والظلم نقصان، وقول الاشعرى: ليس ذلك بظلم اذ لا يجب علية حق لغيره اذ لو وجب عليه حق غيره لكان فى قيده والتقييد بالاغيار نقصان.

المثال الرابع: قول المعتزلة ان الله تعالى يريد الطاعات وان لم تقع، لان ارادتها كمال ويكره المعاصى و ان وقعت ، لان ارادتها نقصان. وقول الاشعرى: لو اردا ما يقع لكان ذلك نقصاّ فى ارادته لكلالها عن النفوز فيما تعلقت به ولو كره المعاصى مع وقوعها لكان ذلك كلالاّ فى كراهته. وكذلك نقصان.

المثال الخامس: ايجاب المعتزلى على الله تعالى رعاية الاصلح لعباده لما فى تركه من النقصان. وقول الاشعرى: لا يلزمه ذلك لان الإلزام نقصان وكمال الإله ان لا يكون فيه قيد المتألهين. وبالله التوفيق.

فصل

اعلم: أن من نسب المشيئه، والكسب إلى نفسه فهو قدرة، ومن نفاهما عن نفسة فهو جبرى. ومن نسب المشيئة إلى الله تعالى والكسب الى العبد فهو سنى صوفى رشيد، فقدرة العبد وحركته خلق للرب تعالى وهما وصف للعبد وكسب ليه: والقدر اسم لما صدر مقدراّ عن فعل القادر والقضاء هو الخلق ، والفرق بين القضاء والقدر هو أن القدر أعم والقضاء أخص، فتدبير الأوليات قدر وسوق تلك الأقدار بمقاديرها وهيئاتها إلى مقتضياتيها هو القضاء، فالقدر إذاّ تقدير الامر بدءاّ والقضاء فصله وقطع ذلك الامر كما يقال قضى القاضى.

رسائل الامام  الغزالى—————————————-             

ص118

فصل فى الاهواء

إعلم أن أهل الأهواء المختلفه ست فرق، وكل إثنين منها ضدان وهى: التشبيه والتعطيل والجبر والقدر، والرفض والنصب، وكل واحده منها تفترق الى اثنتى عشرة فرقه، فالتشبيهه والتعطيل ضدان والجبر والقدر ضدان، والرفض والنصب ضدان، وكل من هؤلاء منحرفون عن الصراط المستقيم، والفرقة الناجية الوسط وهم أهل السنة والجماعه. فأما الفرقه المشبهه بالغوا وغلوا فى إثبات الصفات حتى شبهوا وجوزوا الإنتقال والحلول والإستقرار والجلوس وما أشبه ذلك، وأما الفرقة المعطلة: فإنهم بالغوا وغلوا  وبالغو فى نفى التشبيه حتى وقعوا فى التعطيل ، وأما أهل السنة والجماعة : فإنهم سلكو الطريق الوسط وأثبتوا صفات الله تعالى  كما وردت من غير تشبيه أو تعطيل ،فعلمت بذلك سبيل  الشيطان ما عليه  المشبة والمعطلة ،وأما الجبرية والقدرية : فكل منهم بعيد عن الصراط  المستقيم ، فمن نفى المشيئة والكسب عن نفسه فهو جبرى ، ومن نسبها إلى نفسه فهو قدرى ، ومن نسب المشيئة إلى الله تعالى والكسب إلى العبد فهو سنى ، وأما الرافضة والناصبة : فكل منهما بعيدعن الصراط . فالرافضى :ادعى محبة أهل البيت وبالغ فى سب الصحابة وبغضهم ، والناصبى : بالغ فى التعصب من جهة الصحابة  حتى وقع فى عداوة أهل البيت ونسب عليا رضى الله عنه إلى الظلم والكفر ، وأما أهل السنة : فإنهم سلكوا الطريق

الوسط فأحبوا أهل البيت وأحبوا الصحابة وحفظ الله تعالى ألسنتهم من الوقيعة فى أحد منهم إلا بالحمد  والثناء عليهم فلله الحمد والمنة والشكر.

فصل فى القضاء

القضاء يطلق تارة على الأمر المبرم نحو قوله تعالى (فإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون )(غافر :68) وتارة يراد به الإعلام بوجوب الحكم الواجب لله تعالى كقوله تعالى (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه)(الإسراء:23) إذ لو كان  هذا من القضاء المبرم لما عبد غيره تعالى إذ يستحيل تخلف الأثر عن مؤثره ، وكذا قوله تعالى (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)(الذاريات:56) والمراد به الإعلام إذ لو كان قضاء وحكما مبرما لعبده الكل فنشأ الخلاف لعدم الفرقان.

رسائل الامام  الغزالى—————————————-              ص119

فصل

إعلم أن الله تعالى قضى فيما قضاه أزلاً أن الأمور يكون منوطا بالعبد موقوفا عليه فى أفعاله وأقواله ما قضاه فقد أمضاه فلا يجوز تغيره ولا يقال :إن الله تعالى يغير ما قضاه لأنه تعالى لا يعارض نفسه فيما قضاه ، إذ لم يكن عبثا ولا تبعا للشهوات تعالى عن ذلكح ، وإنما قضى بمقتضى الحكمة  وما صدر عن الحكمة فلا مغير له ، فما قضاه منوطا بفعل العبد ، ف كالحرث والنسل ، وما قضاه موقوفا على فعل العبد كالدعاء والاستغفار .

واعلم:أن الله تعالى أثبت فعل العبد فى مواضع نحو قوله تعالى (جزاءا بما كانو يعملون)(الواقعة:23) وقوله تعالى: ( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) (التوبة: 5) ومحاه فى مواضع أخر نحو قوله تعالى : ( فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم  وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) (الأنفال:17) والحكمة فيه أنه تعالى خالق الأفعال ومقدرها والعبد كاسبها ومسببها ، فالعبد يعمل العبادة والله تعالى يجازى عليها ولولا نسبة هذه الافعال خلقا وكسبا لما سمى عابدا ومعبودا فثبت أن العبد عابد كاسب وأن الله تعالى معبود خالق ، واعلم أن الافعال قسمان :

أحدهما : قوله ما يقع من العبد وهو الكسب المنسوب اليه ولهذا أنزلت الكتب وأرسلت الرسل وثبتت الحاجة إالى العقول لتقوم  بها الحجة وتتضح بها لاحجة .

الثانى : ما يقع على العبد جزاء وهو ما بيد الله تعالى ويد العبد وكلاهما لا يكون إلا بما كسبت يد العبد لقوله تعالى 🙁 وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير ) ( الشورى: 30) وما ناسب هذه الأية ، فمن فهم هذه الجملة أمكنه أن يفقه المراد من كلام الله تعالى فيما هو المضاف الى العباد ، زمثال ذلك : قطع الجلاد يد السارق . يصح أن يقول : القاطع هو الجلاد لأنه كاسب ، ويصح أن يقال : إن الله تعالى هو القاطع بيد الجلاد لأنه تعالى هو المجازى للمقطوع لما بدا منه ، ويصح أن يقال إن السارق هو القاطع ليده لأنه هو المبتدئ لما جناه فلا يقع عليه  إلا لما كسبت يداه ، فيكون الفعل الواجد من الرب تعالى جزءا من المقطوع ابتداء ومن القاطع كسبا ولا يناقض أحد أحدا وأدلته واضحة فى الكتاب، ومن فهم هذه الجملة حق فهمها لم يخف إلا من نفسه ولم يرج إلا رحمة الله سبحانه وتعالى . قال: أين عبد الله كلنا فى ذات الله تعالى ، يعنى إن نظرنا إالى قضائه نتوهم أن العبد معذور لا يفعل، وإن نظرنا إالى الأمر والنهى وإالى اختيار العبد ربما يظن أن العبد مستبد بما يفعل ، بل الحق فيه أن يعتقد أن  العبد غير مستغن عن الله تعالى فى سائر احواله.

ص 120

أفعاله وأقواله ، وأحواله ، بل هو متقلب فى مشيئته وأنه غير مجبور ولا مسخر كالحيوانات والجمادات ، بل هو موقف فى ضمن أسباب السعادة ومخذول أو مطرود فى ضمن أسباب الشقاوة.

فصل

لو قيل : إن كان القدرة الحادثة أثر فى المقدور فهو شرك خفى ، وإن لم يكن لها أثر فهو جبر. يقال : إنما شركاً إذا كان لها فى التخلق أثر، وإنما أثرها فى الكسب والله تعالى ليس بكاسب حتى يكون شركاً ولو لم يكن لها أثر فى المقدور لزم أن يكون وجودها كعدمها فهو إذاً قدير بلا قدرة وهو محال.

وأعلم أن من ظن الله تعالى أنزل الكتب وأرسل الرسل وأمر ونهى ووعظ وتواعد لغير قادر محتار، فهو مختل المزاج يحتاج إلى علاج ولسبب اختلاف الناس فى الاستدلال بالقرآن قبل فهمه وقعوا فى الجبر والقدر ،لأنهم لم يفرقوا بين قدرة الخالق القديمة وبين قدرة المخلوق الحادثة والفرق بينهما أن القدرة القديمة مستقلة بالخلق ولا مدخل لها فى الكسب ، وأن القدرة الحادثة مستقلة بالكسب ولا مدخل لها فى الخلق والظلم إنما ينسب إلى الحادثة ، وأما القديمة فمبرأة عنه لقوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)

[يونس :44]

فصل الفرق وبين العلم والمعرفة

وأما المعرفة : فهى نفس القرب وهو ما أخذ القلب وأثر فيه أثراً يوثرفى الجوارح. فالعلم : كرؤية النار مثلاً . والمعرفة : كالاصطلاء بها، والمعرفة فى اللغة: هو العلم الذى لا يقبل الشك  وفى العرف اسم العلم تقدمه نكره، وفى عبارة الصوفية المعرفة هو العلم الذى لا يقبل الشك إذا كان المعلوم ذات الله تعالى وصفاته . فإن قيل: ما معرفة الذات وما معرفة  الصفات؟ يقال : معرفة الذات أن يعلم أن الله تعالى موجود واحد فرد وذات وشئ عظيم قائم بنفسه ولا يشبهه شئ وأما معرفة الصفات: فأن تعرف أن الله تعالى حى عالم قادر سميع بصير إلى غير ذلك من الصفات .  فإن قيل : ما سر المعرفة؟ يقال: سرها وروحها التوحيد، وذلك بأن تنزه حياته وعلمه وقدرته وإرادته وسمعه وبصره وكلامه عن التشبيه بصفات الخلق: ليس كمثله شئ.

فإن قيل : ما علامة  المعرفة ؟ يقال : حياة القلب مع الله تعالى، أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام أتدى ما معرفتى ؟ قال: لا. قال: حياة القلب  فى مشاهدتى.

ص 121

فإن قيل : ففى أى مقال تصح المعرفة الحقيقية؟ يقال: فى مقام الرؤية والمشاهدة بسر القلب ، وإنما يرى ليعرف ، لأن المعرفة الحقيقية فى باطن الإدارة فيرفع الله تعالى بعض الحجب قيريهم نور ذاته وصفاته عز وجل من وراء حجاب ليعرفوه تعالى، ولا يرفع الحجب بالكلية لكيلا يحترق الرائى. قال بعضهم بلسان الحال:

ولو أنى ظهرت بلا حجاب                  ليتمت الخلائق أجمعينا

ولكن الحجاب لطيف معنى                  به تحيا القلوب العاشقينا

اعلم : أن تجلى العظمة يوجب الخوف والهيبة، وتجلى الحسن والجمال يوجب العشق، وتجلى الصفات يوجب المحبة، وتجلى الذات يوجب التوحيد قال بعض العارفين: والله ما نال رجل الدنيا إلا أعمى الله قلبه وبطل عليه عمله إن الله تعالى خلق الدنيا مظلمة، وجعل الشمس فيها ضياء، وجعل لقلوب مظلمة ، وجعل المعرفة فيها ضياء ، فإذا جاءه السحاب ذهب نور الشمس، فكذلك يجئ حب الدنيا فيذهب بنور المعرفة من القلب.

وقيل : حقيقة المعرفة نور يطرح فى قلب المؤمن وليس فى الخزانة شئ أعز من المعرفة. وقال بعضهم: إن شمس قلب العارف آضوأ وأشرف من شمس النهار، لأن شمس النهار قد تكسف وشمس القلوب لا كسوف لهاوشمس النهار تغرب بالليل دون شمس القلوب وأنشدوا فى ذلك:

إن شمس النهار تغرب ليلا                  غير شمس القلوب لن تغيب

من أحب الحبيب طار إليه                   إشياقا إلى لقاء الحبيب

وقال ذو النون : حقيقة المعرفة اطلاع الحق على أسرار بمواصلة لطائف الأنوار وأنشدوا فيه

للعارفين قلوب يعرفون بها                  نور الإله بسر السر فى الحجب

صم عن الخلق عمى عن مناظرهم         بكم عن النطق فى دعواه بالكذب

وسئل بعضهم : متى يعرف العبد أنه على تحقيق المعرفة؟ فقال: إذا لم يجد لى قلبه مكاناُ لغير ربع، وقال بعضهم : حقيقة المعرفة مشاهدة الحق بلا واسطة ولا كيف ولا سبهة،

ص 122

كما سئل أمير المؤمنين على بن أبى طالب رضى الله عنه فقيل: يا أمير المؤمنين أتعبد من ترى أو من لا ترى؟ فقال: لا بل أعبد من أرى لا رؤية عيان، ولكن رؤية القلب. وقيل لجعفر الصادق رضى الله عنه: هل رأيت الله عز وجل؟: لم أكن لأعبد رباً لم أراه. قيل: وكيف رأيته وهو الذى لا تدركه الأبصارظ قال: لم تره الأبصار بمشاهدة العيان، ولكن تراه القلوب بحقائق الإيمان ، ولا يدرك ولا يقاس بالناس؟

وسئل بعض العارفين عن حقيقة المعرفة. فقال: تخيله السر عن كل إرادة وترك ما عليه العادة وسكون القلب إلى الله تعالى بلا علاقة وترك الألتفات منه إلى ما سواه، ولا يمكن معرفة منه ذاته ولا معرفة صفاته عز وجل، ولا يعرف من هو إلا هو تبارك وتعالى والمجد لله وحده.

فصل وأما البصيرة والمكاشفة والمشاهدة والمعاينة

فهى أسماء مرادفة على معنى واحد ، وإنما تحصل التفرقة فى كمال الوضوح لا فى أصله، فمنزلة البصيرة من العقل منزلة نور العين من العين ، والمعرفة من البصيرة منزلة قرص الشمس من العين فتدرك بذلك الجليات والخفيات. وأما الحياة : فهى نفس التوحيد قال تعالى : (أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ) [ الأنعام :122] . وأما اليقين: فأعلم أن الاعتقاد والعلم إذا استوليا على القلب ولم يكن لهما معارض أثمرا فى القلب المعرفة ، فسميت هذه المعرفة يقيناً ، لأن حقيقة صفاء العلم المكتسب حتى كالعلم الضرورى ويصير القلب مشاهداً لجميع ما أخبر عنه الشرع من أمر الدنيا والآخرة. يقال: أيقن الماء إذا صفا من كدورته.

وأما االإلهام: فهو حصول هذه المعرفة بغير سبب ولا اكتساب ، بل بإلهام من الله تعالى بعد طهارة القلب عن استحسان ما فى الكونين.

وأما الفراسة: فهى التوسم بعلامة من الله تعالى بينه وبين العبد يستدل بها على أحكام باطنه، وذلك لا يكون إلا فى درجة التقريب وهو دون الإلهام، لأن الإلهام لا يفتقر إلى علامة والفراسة تفتقر إلى علامة ، وهو عام وخاص، والله سبحانه وتعالى أعلم.

الباب السادس

فى بيان معنى النفس والروح والقلب والعقل

أعلم أن هذه الأسامى مشتركة بين مسميات مختلفة ونحن نشرح من معانيها ما يتعلق بغرضنا.

ص 123

الأول: لفظ القلب وهو يطلق لمعنيين:

أحدهما : اللحم الصنبورى الشكل المودع فى الجانب الأيسر من الصدر وفى باطنه تجويف فيه دم أسود وهو منبع الروح الحيوانى ومعدتى.

والمعنى الثانى: هى لطيفة ربانية روحانية لها بهذا القلب الجسمانى تعلق يضاهى تعلق الأعراض بالأجسام والأوصاف بالموصفات، وتلك اللطيفة هى حقيقة الإنسان المدرك العالم المخاطب المطالب المثاب المعاقب.

اللفظ الثانى: الروح وهو أيضاً يتعلق بغرضنا لمعنيين:

أحدهما : جسم لطيف بخارى حامله دم أسود منبعه تجويف القلب الجسمانى ، وينشر بواسطة العروق الضوارب إلى سائر أجزاء البدن وجريانها فى البدن وفيضان أنوار الحياة، والحس والبصر والسمع والشم منها على أعضائها يضاهى فيضان النور من السراج فى زوايا البيت. فالحياة : مثالها النور الحاصل فى الحيطان والروح مثاله السراج، وسريان الروح وحركته فى الباطن مثال حركة السراج فى جوانب البيت بتحرك محركه فالأطباء إذا أطلقوا لفظ الروح أرادوا به هذا المعنى وهو بخار لطيف أنضجته حرارة القلب.

والمعنى الثانى: هو اللطيفة العالمة المدركة من الإنسان الذى هو أحد معنى القلب وهو الذى أراده الله تعالى بقوله (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) [ الإسراء: 85]. وهو أمر عجيب ربانى أكثر العقول والأفهام عن درك فهم حقيقته.

اللفظ الثالث : النفس وهو أيضاً مشترك بين معنيين:

أحدهما : أنه يراد به المعنى الجامع لقوتى الغضب والشهوة فى الإنسان وهذا الاستعمال هو الغالب على الصوفية فهم يريدون بالنفس الأصل الجامع للصفات المذمومة من الإنسان فيقولون: لا بد من مجاهدة النفس وكسر شهوتها ، وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم: ” أعدى عدوك نفسك التى بين جنبيك”

والمعنى الثانى: اللطيفة التى ذكرناها وهى حقيقة الإنسان ونفسه وذاته، ولكنها توصف بأوصاف مختلفة بحسب اختلاف أحوالها ، فإذا سكنت تحت الأمر وزايلها الاضطراب بسبب معارضة الشهوات سميت النفس المطمئنة قال تعالى: “(يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ . ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً) [ الفجر: 27.28] والنفس بالمعنى الأول لا يتصور رجوعها إلى الله تعالى ، فإنها مبعدة عن الله سبحانه وتعالى  وهى حزب الشيطان ، وإذا لم يتم سكونها ولكنها صارت مدافعة للنفس الشهوانية سميت النفس اللوامة ، فإذا تركت الاعتراض وأذعنت لمقتضى الشهوات ودواعى الشيطان سميت النفس الأمارة بالسوء.

اللفظ الرابع: العقل والمتعلق بغرضننا منه معنيان:

ص 124

أحدهما : أنه يطلق ويراد به العلم بحقائق الأمور . فيكون عبارة عن صفة العلم الذى محله  خزانة القلب.

والثانى : قد يطلق ويراد به المدرك للعلوم، فيكزن القلب أعنى تلك اللطيفة التى هى حقيقة الإنسان وحيث ورد فى القرآن والسنة ذكر القلب فالمراد به المعنى الذى يفقهه من الإنسان ويعرف حقيقة الأشياء، وقد يكنى عنه بالقلب الجسمانى الذى فى الص

ر لأن بينه وبين تلك اللطيفة العالمة التى هى حقيقة الإنسان علاقة خاصة لأن تعلقها بسائر البدن إنما هو بوسطتها فهو ممتلكها ومطيتها والمجرى الأول لتدبيرها وتصرفها . فالقلب الجسمانى والصدر بالنسبة إلى الإنسان كالعرش الكرسى بالنسبة إلى الله تعالى من وجه.

فصل فى بيان جنود القلب

اعلم: أن الله تعالى فى القلب والأرواح وغيرها من العوالم جنوداً مجندة لا يعلم حقيقتها وتفصيل عددها إلا الله تعالى. ونحن الآن نشير إلى بعض جنود القلب وهو الذى يتعلق بغرضنا . فاعلم أن له جندين جند يرى بالإبصار وجنج لا يرى إلا بالبصائر، فالقلب فى حكم الملك ، والجنود فى حكم الخدم والأعوان.

فأما جنوده المشاهدة بالبصر فهى اليد والرجل والأذن والعين واللسان فجملة جنود القلب تحصره ثلاثة أصناف:

الصنف الأول: باعث مستحث إلى جلب الموافق النافع كالشهورة وإما إلى دفع المخالف الضار كالغضب وقد يعبر عن هذا الباعث بالإرادة.

الصنف الثانى: هو المحرك للأعضاء إلى تحصيل هذه المقاصد وقد يعبر عنه بالقدرة وهى جنود مبثوثة فى سائر الأعضاء.

الصنف الثالث: هو المدرك المعرف بهذه الأشياء كالجواسيس وهو قوة السمع والبصر والشم والذوق واللمس  وهى مبثوثة فى الأعضاء الظاهرة المركبة من اللحم والشحم والعصب والدم والعظم التى أعدت آلات لهذه الجنود. ويعبر عن العمل هذا الصنف بالعلم والإدراك، وهذا الصنف الثالث هو المدرك من هذه الجملة، وينقسم إلىما أسكن المنازل الظاهرة وهى الحواس الخمس. أعنى السمع والبصر والشم والذوق واللمس، وإلى ما أسكن منازل باطنة وهى تجاويف الدماغ وهى أيضاً خمسة: حس مشترك وتخيل وتفكر وتذكر وحفظ.

فأما الحس المشترك فيرسم فيها صورة ما أدته إليها الحواس الظاهرة مما أدركته كما ترسم الصورة فى المرآة ومحل تصرفها مقدم البطن الأول من الدماغ.

ص 125

القوة الثانية: الخيال وهى خزانة الحس المشترك يخزن فيها ما ارتسم فيه لتحفظها له إلأى وقت حاجته إليه، فإن له قوة القبول وليس له قوة الحفظ والخيال له قوة الحفظ وليس له قوة القبول ومحل تصرف الخيال مؤخر البطن من الدماغ.

القوة الثالثة: الوهم موضع تصرفه مقدم البطن المؤخر من الدماغ، لأن تصرفه هو المعانى الجزئية المتنوعة من الصور المخزونة فى الخيال فكانت بعدها فى الرتبة لتقليبها منه.

القوة الرابعة: الحافظ ومحل تصرفها مؤخر البطن المؤخر من الدماغ يلى محل تصرف الوهم لأنها خزانتهز

القوة الخامسة: المتصرفة ومحل تصرفها فى وسك الدماغ، لأنها أشرف القوى ولأنها تأخذ من الخيال فى حال دون حال وتعطيه أيضاً فى حال دون حال فى النوم واليقظة، وتعطى الحافظة وتطلب منها عند النسيان فكان الأليق بها أن تكون بين الحرارتين ليسهل عليها أخذها منهما وإعطاؤها إياهما والله أعلم.

وإنما افتقر القلب إلى هذه الجنود من حيث افتقار إلى المركب والزاد لسفره إلى الله تعالى وقطع المنازل إلى لقائه الذى لأجله خلق وإنما مركبه البدن ، وإنما زاده العلم والعمل وليس يمكن أن يصل العبد إلى الله تعالى ما لم يسكن البدن وتجاوز الدنيا ليتزود منها للمنزل الأقصى فافتقر إلى تعهد بدنه بأن يجلب إليه ما يوافقه من الغذاء وغيره وأن يدفع عنه ما يؤذيه، ويمكن من أسباب الهلاك فافتقر لأجل الغذاء إلى جندين: باطن وهو الشهوة ، وظاهر وهو الأعضاء الحالبة للغذاء فخلق فى القلب من الشهوات ما احتاج إليه وخلقت الأعضاء التى هى الآت الشهوة وافتقر لأجل دفع المهلكات إلى جندين: باطن ، وهو الغضب، الذى يدفع المهلكات وينتقم من الأعداء، وظاهر وهى اليد والرجل والأسلحة التى بها تعمل بمقتضى الغضب ثم المحتاج إلى الغذاء إذا لم يعرف الغذاء، لا تنفهى شهوة معرفة الغذاء وأليه فافتقر فى المعرفة إلى جندين باطن : وهو إدارك السمع والبصر والشم والمذاق واللمس ، وظاهر : وهو العين والأذن والنف وغيرها وتفصيل الحاجة إليها ووجه الحكمة فيها يطول ولا تحويه مجلدات كثيرة ، فسبحان الكريم الحليم.

فصل

اعلم : أن القسمة ثلاثة : الجسم والعرض والجوهر الفرد. فالروح الحيوانى جسم لطيف كأنه سراج مشعل، والحياة هو السراج والدم دهنه والحس والحركة نوره، والشهوة حرارته ، والغضب دخانه ، والقوة الطالبة للغذاء الساكنة فى الكبد خادمه وحارسه ووكيله. وهذا الروح يوجد عند جميع الحيوانات، لأنه مشترك بين البهائم وسائر الحيوانات والإنسان

ص 126

هو جسم وأثاره أعراض، وهذا الروح لا يهتدى إلى العلم. ولا يعرف طريق الصنوع ولاحق الصانع، وإنما هو خادم أسير يموت البدن لو يزيد دهن الدم وينطفئ لزيادة الحرارة ولو ينقص ينطفئ بزيادة البرودة ، وأنطفاؤه سبب موت البدن وليس خطاب البارئ جلت عظمته وتكليف الشارع عليه الصلاة والسلام لهذا الروح، لأن البهائم وسائر الحيوانات غير مكلفين ولا مخاطبين بأحكام الشرع، والإنسانإنما يكلف ويخاطب لأجل معنى آخر وجد عنده زائد خاصاً وذلك المعنى هو النفس الناطقة والروح اللطيفة ، وهذا الروح ليس بسم ولا عرض ، لأنه من أمر الله تعالى كما أخبر بقوله تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً) [ الإسراء: 85] . وأمر الله تعالى ليس بجسم ولا عرض، بل هو جوهر ثابت دائم لا يقبل الفساد ولا يضمحل ولا يفنى ولا يموت ، بل يفارق البدن وينتظر العود إليه يوم القيامة كما ورد به الشرع، وهذا الروح يتولد منه صلاح البدن وفساده والروح الحيوانى وجميع القوى كلها من جنوده، فإذا فارق الروح الحيوانى البدن، تعطل أحوال القوى الحيوانية فيسكن المتحرك  ، فيقال لذلك السكزن موت، وإن كان الروح من أمر الله تعالى فى البدن كالغريب، فاعلم أنه لا يحل فى محل ولا يسكن فى مكان وليس البدن مكان الروح ولا محل القلب ، بل البدن آلة الروح والله أعلم.

فصل

فى بيان المعنى المراد من قوله تعالى (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ) [ سورة الحجر : 29] . قال رحمة الله تعالى ورضى عنه:

أما التسوية : فهى عبارة عن فعل فى المحل القابل للروح وهو الطين فى حق آدم عليه السلام ، والنطفة فى حق أولاده بالتصفية وتعديل المزاج زالتردد فى أطوار الخلقة إلى الغاية حتى ينتهى فى الصفاء ومناسبة الأجزاء إلى الغابة فيستعد لقبول الروح وإمساكها كاستعداد الفتيلة بعد شرب الدهن لقبول النار وإمساكها.

وأما النفخ: فهو عبارة عن اشتعال نور الروح فى المحل القابل، فالنفخ سبب الاشتعال وصورة النفخ فى حق الله تعالى محال ، والسبب غير محال فعبر عن نتيجة النفخ وهو الاشتعال فى فتيلة النطفة، وللنفخ صورة ونتيجة.

وأما صورته : فهو إخراج هواء من جوف لنافخ إلى جوف المنفوخ فيه . وهو فتيلة النطفة. فيشتغل فيها. وأما الذى شتعل به نور الروح فهو صفة فى الفاعل وصفة فى المحل القابل، وأما صفة الفاعل فالجود الذى ينبوع الوجود وهو فياض بذاته على كل موجود حقيقة وجوده ويعبر عن تلك الصفة بالقدرة، ومثالها فيضان نور الشمس على

ص 127

كل قابل الاستنارة عند ارتفاع الحجاب بينهما ، والقابل هو الملونات دون الهواء الذى لا لون له. وأما صفة القابل فالاستواء واعتدال الحاصل فى التسوية كما قال تعالى: (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ) .

ومثال صفة القابل : صفات المرآة قبل صقالتها لا تقبل الصورة وإن كانت محاذية لها، فإذا صقلت حدثت فيها صورة من ذى الصورة المحاذية لها فكذلك إذا حصل على الاستواء فى النطفة حدث فيها الروح من خالق الروح من غير تغير فى الخالق تعالى الآن لا بل إنما حدث الروح قبله لتغير المحل بحصول الاستواء الآن لا قبله.

وأما فيضان الجود، فالمراد به أن الجود الإلهى سبب لحددوث أنوار الوجود فى كل ماهية قابلة للجود فعبر عنه بالفيض لا كما يفهم من فيض الماء من الإناء على اليد فإن ذلك عبارة عن انفصال جزء مما فى اإناء واتصاله باليد ، فإن ذلك عبارة عن انفصال جزء مما فى الإناء واتصاله باليد، فإن الله سبحانه يتعالى عن مثل هذا.

وأما كشف معنى ماهية الروح ومعرفة حقيقتها فهو من سر الذى لم يؤذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم فى كشفه لمن ليس من أهله فإن كنت من أهله فاسمع. واعلم أن الروح ليس بجسم يحل فى البدن حلول الماء فى الإناء، ولا هو عرض يحل فى القلب أو الدماغ حلول الواد فى الأسود والعلم فى العالم، بل هو جوهر لا يتجزأ باتفاق أهل البصائر، لأنه لو انقسم لجاز أن يقوم بجزء منه العلم بالشئ ويجزء آخر منه الجهل بذلك الشئ بعينه فيكون فى حالة واحدة عالماً بشئ وجاهلاً به وذلك محال، فدل بذلك على أنه واحد لا ينقسم.

فإن قيل : لم منع رسول الله صلى الله عليه وسلم إفشاء الروحوكشف حقيقةتهظ فيقال : لأنه يتصف بصفات لا تحملها الأفهام إذا الناس قسمان عوام وخواص أما من غلب على طبعه العامية فإن لا يصدق بما هو وصف الروح أن يكون وصفاً لله تعالى ، فكيف يصدق به فى وصف الروح الإنسانى؟ وكذلك أنكرت الكرامة والحنبلية وغيرهم ممن غلبت عليهم العامية بتنزيه الإله تعالى عن الجسمية وعوارضها إذا لا يعقلون موجوداً إلا متجسماً مشار إليه.

 من ترقى عن العامية قليلاً نفى الجسمية عن الإله تعالى. وما أطلق أن ينفى عوارض الجسمية عنه، فأثبت الجهة وترقى عن هذه العامية الأشعرية والمعتزلة فنزهوا الإله تعالى عن الجسمية والجهة.

فإن قيل : لم لا يجوز كشف هذا السر مع هؤلاء؟ فيقال: لأنهم أحالوا أن تكون هذه الصفة لغير الله تعالى، فإذا ذكرت هذا معهم كفروك، وقالوا : هذا تشبيه لأنك تصف نفسك بما هو صفة الإله تعالى على الخصوص وذلك جهل بأخص أوصاف الله تعالى.

فإن قيل : إن الإنسان حى عالم قادر مريد سميع بصير متكلم والله تعالى كذلك ليس فيه تشبيه لأن هذه الصفات ليست أخص أوصاف الله تعالى، فكذلك البراءة عن المكان

ص 128

والجهة ليست أخص وصف الإله تعالى، بل أخص وصفه تعالى أنه قيوم أى قائم بذلته وكل ما سواه قائم به وهو موجود بذاته لا بغيره وليس للأشياء من أنفسها إلا العدم، وإنما لها الوجود من غيرها على سبيل العارية فالوجود لله تعالى ذاتى ليس بمستعار وما سواه فوجوده منه تعالى لا من نفسه وهذه القيومية ليست إلا لله تعالى.

فإن قيل : ما معنى نسبة الروح إلأى الله تعالى فى قوله (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي) ) [ سورة الحجر : 29]. فأعلم أن الروح منزهة عن الجهة والمكان وفى قوتها العلم بجميع المعلومات والاطلاع عليها ، فهذه مضاهاة ومناسبة ليست لغيره من الجسمانيات ، فلذلك اختصت بالإضافة إلى الله تعالى.

فإن قيل : فما معنى قوله (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) ) [ الإسراء: 85]. وما معنى عالم الأمر وعالم الخلق؟ فيقال: إن كل ما يقع عليه مساحة وتقدير فهو الأجسام وعوارضها. فهذا هو عام الخلق والخلق ها هنا بمعنى التقدير لا بمعنى الإيجاد والإحداث. يقال : خلق الشئ أى قدره وكل ما لا كمية له ولا تقدير. يقال: إنه أمر ربانى وتلك المضاهاة التى ذكرناها ، فكل ما هو من خذا الجنس من أرواح البشرية وأرواح الملائكة يقال : إنه من عالم الأمر وعالم الأمر عبارة عن الموجودات الخارجية عن الحس والخيال والجهة والمكان والتحيز والدخول تحت المساحة والتقدير لانتقاء الكمية منه.

فإن قيل : ما معنى قول النبى صلى الله عليه وسلم: ” إن الله خلق آدم على صورة” وروى ” على صورة لرحمن” فيقال:إن الصورة اسم مشترك قد يطلق على ترتيب الأشكال ووضع بعضها على بعض واختلاف تركيبها وهى الصورة المحسوسة. وقد يطلق على ترتيب المعانى التى ليست محسوسة وللمعانى أيضاً تركيب وترتيب وتناسب يسمى ذلك صورة. يقال: صورة المسألة كذا وصورة الواقعة كذا وصورة العلوم الجسمانية والعقلية كذا ، فالمسألة بالصورة المذكورة هى الصورة المعقولة وحقيقة ذات الروح أنه قائم بنفسه ليس بعرض ولا جسم ولا جوهر متحيز ولا بحل المكان والجهة ، ولا هو متصل بالبدن والعالم، ولا هو منفصل، ولا هو داخ البدن والعالم ولا من الخارج . وهذا كله صفات ذات الله تعالى.

ص 129

وأما الصفات : فقد خلق حياُ عالماً مريداً بصيراً متكلماً والله تعالى كذلك وأما الأفعال : فمبدأ الآدمى إرادة يظهر أثرها أزلاً فى القلب فبنتشر منه أثر بواسطة الروح الحيوانى الذى هو بخار لطيف فى تجويف ويتصاعد إلى الدماغ، ثم يسرى منه أثر إلى الأعضاء إلأى أن تصل الآثار إلى الأصايع مثلاً فتتحرك بالأصابع القلم وبالقلم المداد، فيحدث منه صورة ما يريد كتبه على القرطاس فى خزانة التخيل، فإنه ما لم يتصور فى خياله صورة المكتوب أولاًلا يمكن لإحداثه على البياض. ُانياً فمن استقرأ أفعال الله تعالى وكيفية إحداث الحيوان والنبات على الأرض بواسطة تحريك الكواكب والسموات بواسطة الملائكة عم أن تصرف الآدمى فى عالمه يشبه تصرف الخالق سبحانه فى العالم الأكبر ، فحينئذ يعرف قوله صلى الله عليه وسلم ” إن الله خلق آدم عليه السلام على صورته”.

لإغن قيل : فإذا كانت الأرواح حادثة مع الأجسام فما معنى قوله عليه الصلاة والسلام :” خلق الله تعالى الأرواح قبل خلق الأجسام بألفى عام” ، وقوله ” أنا أول الأنبياء خلقا وآخرهم بعثا وكنت نبيا وآدم بين الماء والطين”. فاعلم أن شيئا من ذلك لا يدل على قدم الروح لكن قوله : ” أنا أول الأنبياء خلقا”. ربما دل بظاهره على تقدم وجوده عى حده وغير الظاهر متعين. فإن تأويله يمكن والبرهان القاطع لا يدرأ بالظاهر بل ليسلط على تأويل الظاهر، كما فى ظواهر التشبيه فى حق الله تعالى.

فأما قوله : ” خلق الله تعالى الأرواح قبل الأجساد بالأفى عام” أراد بالأرواح أرواح الملائكة ، والأجسام أجسام العالم من العرش والكرسى والسموات والكواكب والهواء والماء والرض.

وأما قوله ” أنا أول الأنبياء خلقاً” فالحخلق هما هنا بمعنى التقدير دون الإيجاد ، فإنه صلى الله عليه وسلم قبل أن تلده أمه لم يكن موجوداً مخلوقاُ ، ولكن الغايات والكمالات سابقة فى التقدير لآحقة فى الوجود ، فإن الله تعالى يقدر أولاً أى يرسم فى اللوح المحفوظ الأمور الإلهية على وفق علمه تعالى، فإذا فهمت نوعى الوجود الحسى العينى. هذا آخر الكلام فى معنى الروح والله أعلم.

صفحة 130

الباب السابع

في بيان معنى المحبة

اعلم : أن المحبة ميراث التوحيد والمعرفة وكل مقام وحال قبلها فلها يرد ومنها يستفاد . و أما المعرفة الخالصة بها : فكل ما يتعلق بذات الله تعالى وصفاته من سلب نقص واثبات كمال وهي واجبة بالكتاب والسنة و إجماع الأمة ، وإنما وقع الخلاف في حقيقتها ومعناها وليس للمحبة معنى غير الميل الى اللذيذ الموافق ، واعلم أن معرفة الله تعالى بنفسها ذكر الله تعالى ، لأنها حضور معه وشهود له ومن علامته في بدايته اللوائح والطوالع واللوامع والبروق ، وهذه ألفاظ متقاربة المعاني والفرق بين البرق والوجد أن البرق ‘ذن في دخول طريق التوحيد والوجد يصحبك فيها فإذا دام صار ذوقا.

وأما الذوق : فهو استحلاء وشرب لما شاهد من ضياء البرق. وأما اللحظ  : فهو اسم يعبر به عن رؤية الحق تعالى بالقبل ، كما قال عليه الصلاة والسلام : ” اعبد الله كأنك تراه ” . وأما الوقت : فهو اسم ظرف للكائن فيه من الأحوال فوقت العبد ما هو فيه. وأما الصفاء : فهو اسم للبراءة من الكدر . وأما النفس : فهو تنفس العبد لعجزه عن حمل الأحوال الواردة عليه إما صعدا وإما تلفظا بكلام أو إشارة مما هو فيه ، لأن العبد مادام حيا لابد أن يروح بدخول النفس وخروجه فإذا قوى النفس أدى الى الغرق. وأما الغرق : فهو عدم القدرة على النفس لكظمه فهو غير متنفس ولا غائب فإذا قوى عليه دخل في الغيبة. وأما الغيبة: فهي اسم للذهول عن المهمات بما هو أهم منها . وأما السكر : فهو اسم يشار به الى سقول التمالك في الطرب فإذا لحقته العناية أصحاه ليزيده علما ، لأن السكران لا يرتقى بالمسكر في الحق والصحو إنما هو بالحق . أما السكر في الحق : فهو أن يتبرأ من نفسه ومن التذاذه وأحواله فإذا منح بعد ذلك بشهود الذات كوصف بالقيومية وهي صفات الألوهية فأفتنه عما  سوى معبوده ثم فنى عن فنائه . وأما الفناء : فحقيقته في الحس تلاشي الأجسام والأعراض وذهابها بالكلية .

ولما كان ما سوى الله تعالى موجودا بالله وقائما به لا بنفسه كان وجوده مجازا وكان القائم بنفسه المقيم لغيره وجوده ثابتا حقيقيا استعير لمن أكرم بهذه المعرفة لفظ الفناء لتلاشي الموجودات في عين قلبه حيث شهد الكل مع القدرة ، كالطفل لا حكم له في الفعل ، فإذا أيد هذا العبد وكمل رقاه الى مقام البقاء . لأنه إذا لم يبق في القلب التفات الى غير الله تعالى لدوام الشغل به عبر عن هذه الحالة بالبقاء مع الله بالله تعالى ، والوجود والبقاء اسمان

صفحة 131

 مترادفان على معنى واحد، فالوجود اسم للظفر بحقيقة الشيء والبقاء هو أجل الحقائق التي يقصد الظفر بها. وكذلك مقام الجمع . قال بعض السادة : الجمع ما أسقط التفرقة وقطع الإشارة ومعناه أن يكون مذكورا بالله تعالى ومذكورا منه تعالى والحمد لله وحده .

الباب الثامن

في بيان معنى الأنس بالله تعالى

اعلم : أن من أجل مواريث المحبة الأنس. أما حقيقة الأنس : فهو استبشار القلب وفرحه لما انكشف له من قرب الله تعالى وجماله وكماله . وقال بعضهم : حقيقة القرب فقد جس الأشياء من القلب وهدوء الضمير الى الله تعالى.

قلت : وهذا هو الوسيلة لنيل القرب لا نفس القرب ، لأن هذا طهور القلب عما سوى الله تعالى وإذا تطهر القلب عما سوى الله تعالى كان حاضرا مع العبد ، لأنه ليس بين العبد وبين الله إلا حجاب نفسه وعوارضها. فإذا فني عنها وعن عوارضها وعلم قيام العالم كله بقدرة الله تعالى عرف قرب الله تعالى بها كشفا وإرادته تخصيصا وقدرته إيجادا وإبقاء و الصفات التي لا تفارق الموصوف بل صفاته قائمة بالموصوف، فإذا نطق العارف فلا ينطق بنفسه، وإذا سمع بنفسه ، وهكذا ورد في الحديث فالعارفون تنشأ أحوالهم عن قرب الله تعالى . وأما الأبرار : فتنشأ أحوالهم عن ملاحظة علمهم بوجود الرب مطلقا مع العلم باقتداره على المنع والعطاء والاسعاد والاشقاء ، والعارفون يرون ربهم في الدنيا بعين الإيقان والبصائر، وفي الأخرى بالإبصار أي بالعين قريب منهم في الدارين وليس قربه منهم في الأخرى مخالفا لقربه في الدنيا الا بمزيد اللطف والعطف ، وإلا فقد ارتفع هنا وهناك قرب المسافة ولم يكن بينه وبين مخلوق إضافة لا في الدنيا وفي الآخرة البتة، وهذه المعرفة مثمرة الأنس بشرط الصفاء والأنس يثمر السكينة فهي صولة تعدل طغيان القلب وتثبته وتوقفه على حد الاعتدال في آداب الحضرة ، لأن لذة القرب في الأنس تطير ألباب العارفين وتوجب لهم الطغيان ، لأن الانسان يطغى عند الغنى.

وأما الطمأنينة : فهي وجود من بعد اعتدال بفرح واستبشار لمعرفة القلب بالمزيد وهو مستصحبة مع الأنس لأنها مقصودة في ذاتها ، والسكينة وسيلة تحثها على الأدب والاعتدال ، ومن ثمرات المحبة : الانبساط والإدلال ذلك أن الأسن إذا دام أنسه واستحكم ولم يشوشه قلق القلب لقصور نظره على طيب حاله ثمر ذلك انبساطا في الأقوال والأفعال والمناجاة ، فلا يليق ذلك بحال التعظيم والإجلال الموجبان للمهابة ، فإنه يليق بالمستأنس المنبسط ما لا يليق بالهائب ، وذلك أن من أفعال الله الجائزة له أن يرضى على قوم بفعلهم

صفحة 132

 ويغضب به على آخرين أحوالهم وللحكمة السابقة فيهم ، ولذلك يغار على كلامه أن يسمعه إلا لأهل خاصته . قال الله تعالى : ” وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه  وفي آذنهم وقرا” الاسراء 46 . وعبر عن السر في ذلك فقال : ” ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم” الأنفال 23. وهذا حجاب الغيرة فحقيقتها حفظ الوقت مع الحق أن يشوشه مشوش شحا عليه ، ومن ثمرات المحبة الشوق وهو أفضل من الإنس ، لأن الإنس قصر نظره على ما انكشف له جمال المحبوب ولم يمتد نظره الى ما غاب عنه والمشتاق كالعطشان الذي لا ترويه البحار لمعرفته بأن الذي انكشف لهم من الأمور الإلهية بالنسبة لما غاب عنه كالذرة بالنسبة إلى سعة الوجود ولله المثل الأعلى. وهذه املعرفة توجب الانزعاج والقلق والتعطش الدائم ، لأن حقيقة القلق سرعة الحركة لنيل المطلوب مع اسقاط الصبر ، وحقيقة التعطش شدة الطلب لما تأكدت الحاجة إليه ، ومن اشتد قلقه وتعطشه وجد وحقيقة الوجد هو الشوق الغالب على قلب الطالب ، وهذا الوجد بعد حصوله له أحوال :

الأول : الدهش . قال تعالى : ” فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن” يوسف 31 . وحقيقة الدهش غيبة القلب عن إحساسه لما فاجأه من الأمر العظيم .

الثاني : الهيمان إذا سكن قليلا وتكرر طروقه صار القلب متعجبا متحيرا من حسنه وبهائه وهذا هو الهيمان، لأن حقيقة الهيمان ذهاب التماسك تعجبا وتحيرا وهو أثبت دواما .

الثالث : أنسه وتمكينه منه حتى كأنه لم يدخل عليه داخل ولم يطرقه طارق وهذا هو التمكين.

قال الشيخ رحمه الله : التمكين إشارة الى غاية الاستقرار ، وذلك أن أي حالة وجدها المحب مع الله مرة تقوى عليه ، ومرة يقوى عليها ، ومرة يتلون ، ومرة يثبت إلى أن يتمكن فيستقر، وهذا جار في كل حال ، فإذا استقر ارتقى إلى غيره ليكون المرتقى إليه حالا والمرتقى عنه مقاما والله أعلم.

واعلم : أن هذه الأحوال إن وجدها العبد في الملآ دون الخلاء فهو معول يجب عليه المحاسبة ومطالبة نفسه بالعلامات ، وإن وجدها في

الخلاء دون الملاء فهو حسن ولكنه ناقص عن ذروة الكمال إذ الكمال استواء الحالات خلاء وملاء حضرا وسفرا وفراغا وشغلا، لأن الفراغ شرط في البداية لا في النهاية. وأما حد الواجب من المحبة : فهو الميل المسبب عن نفس الاعتقاد بأصول الإيمان فيما يتعلق بذات الله وصفات ه، فإن جهل أصلا من الأصول نقصت المحبة بقدره وكان عليه إثمان : إثم الجهل وإثم فقد ثمرته. وأما حقيقة الإيمان فهو حضور القلب مع الله تعالى وشهوده الآثار الدالة على وجوده ، والله تعالى أعلم وقد قيل :

صفحة 133

الأنس بالله لا يحويه بطال                             وليس يدركه بالحول محتال

والآنسون رجال كلهم نجب                            وكلهم صفوة لله عمال

ومن غلب عليه حال الأنس ولم تكن شهوة إلا الانفراد والخلوة . وقال الواسطي : لا يصل إلى محل الإنس من لم يستوحش من الأكوان كلها . وقال أبو الحسين الوراق : لا يكون الأنس بالله إلا ومعه التعظيم. لأن من استأنست به سقط عن قلبك تعظيمه إلا الله تعالى ، فإنك لن تزيد به أنسا إلا ازددت منه هيبة وتعظيما.

وقد يكون الأنس ، الأنس بطاعة الله وذكره وتلاوة كلامه وسائر أبواب القربات . وهذا القدر من الأنس نعمة من الله تعالى ومنحة، ولكن ليس هو حال الأنس الذي يكون للمحبين، والأنس حال شريف عند طهارة الباطن وكنسه بصدق الزهد وكمال التقوى وقطع الأسباب والعلائق ومحو الخواطر والهواجس . وحقيقته عندي كنس الوجود بثقل لائح العظمة وانتشار الروح في ميادين الفتوح وله استقلال بنفسه يشتمل على القرب فيجمعه به عن الهيبة في الهيبة اجتماع الروح وهذا الوصف الذات. وهيبة الذات يكون في مقام البقاء بعد العبور على ممر الفناء وهما غير الأنس والهيبة اللذان يذهبان بوجود الفناء ، لأن الهيبة والأنس قبل الفناء ظهرا من مطالعة الصفات من الجلال والجمال وذاك مقام التلوين ، وما ذكرنا بعد الفناء في مقام التمكين والبقاء من مطالعة الذات ومن الأنس خضوع النفس المطمئنة ومن الهيبة خشوعها ، والخضوع والخشوع يتقاربان ويفترقان بفرق لطيف يدرك بإيماء الروح والله تعالى أعلم.

الباب التاسع

في بيان معنى الحياء والمراقبة ويضاف إليهما الإحسان لأنه غايتهما وكذلك الرعاية والحرمة والأدب لأنهن من ثمراتهما

اعلم : أن الحياء أول مقام من مقامات المقربين كما أن التوبة أول مقام من مقامات المتقين . أما العلم الحامل على الحياء : فهو علم العبد باطلاع الله تعالى عليه. وهذا واجب ، لأنه من الإيمان بالله وبالله تعالى. وكذا معرفته بعيوب نفسه وقصورها عن القيام بحق ربه سبحانه وتعالى وهذا أيضا واجب لأنه من الإيمان بالله تعالى فينفتح من هاتين المعرفتين حال يسمى الحياء ، وهو إطراق عين القلب خجلا من الله تعالى كتقصيره في واجب حقه تعالى، والقدر الواجب من هذه الحالة ما يحث على ترك المحظورات وفعل الواجبات . وأما المراقبة والإحسان : فهما لفظان متداخلان على معنى واحد . فأما ثمرة بداية المراقبة فهو

صفحة 134

 رعاية الخواطر وكشف ما التبس منها والأدب مع الله تعالى بحرمة مراقبته والحياء على الوصف العام والخاص ، وأما الوصف العام ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله : ” استحيوا من الله حق الحياء ” قالوا : إنا نستحيي يا رسول الله قال : “ليس ذلك ولكن من استحيا من الله حق الحياء فليحفظ الرأس وما وعى والبطن وما حوى وليذكر الموت والبلى . ومن أراد الآخرة وترك زينة الدنيا فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء ” .

وهذا الحياء من المقامات ، وأما الحياء الخاص من الأحوال وهو ما نقل عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قال : إني لأغتسل في البيت المظلم فأنطوي حياء من الله عزوجل . وعن أحمد بن صالح قال : سمعت محمد بن عبدون يقول : سمعت أبا العباس المؤذن يقول : قال لي سرى : احفظ عني ما أقول لك إن الحياء والأنس يطوفان بالقلوب ، فإذا وجدا قلبا فيه الزهد والورع حطا وإلا رحلا ، والحياء إطراق الروح إجلالا لتعظيم الجلال والأنس التذاذ الروح بكمال الجمال ، فإذا اجتمعا فهو الغاية في المنى والنهاية العظمى.

قال بعض الحكماء : من تكلم في الحياء ولايستحيي من الله عزوجل فيما يتكلم فهو مستدرج. وقال ذو النون : الحياء وجود الهيبة في القلب مع حشمة ما سبق منك إلى ربك.

قال ابن عطاء : العلم الأكبر : الهيبة والحياء فإذا ذهب عنه الهيبة والحياء فلا خير فيه. قال سليمان : إن العباد عملوا على أربع درجات على الخوف والرجاء والتعظيم والحياء ، وأشرفهم منزلة من عمل على الحياء لما أيقن أن الله تعالى يراه على كل حال استحيا من حسناته أكثر مما استحيا العاصون من سيئاتهم. وقال بعضهم : الغالب على قلوب المستحبين الإجلال والتعظيم دائما عند نظر الله تعالى إليهم. وأنشد الشيخ أبو النجيب السهروردي:

أشتاقه فإذا بدا                    أطرقت من إجلاله

لا خيفة بل هيبة                  وصيانة لجماله

الموت في إدباره                والعيش في إقباله

وأصد عنه تجلدا                وأروم طيف خياله

والمراقبة على درجتين مراقبة الصديقين و مراقبة أصحاب اليمين.

أما الدرجة الأولى : فهي مراقبة المقربين من الصديقين وهي مراقبة التعظيم

صفحة 135

والإجلال، وهو أن يكون القلب مستغرقا بملاحظة ذلك الجلال ومنكسرا تحت الهيبة فلا يبقى له متسع للالتفاتات إلى الغير أصلا، وهذه المراقبة لايطول النظر في تفصيل ثوابها فإنها مقصورة على القلب . أما الجوارح : فإنها تتعطل عن الالتفات إلى المناجاة فضلا عن المنظورات ، فإذا تحركت بالطاعات كانت كالمستعملة فلا يحتاج إلى تدبير وتسبب في حفظها عن الانحرف عن سنن السداد.

وأما الدرجة الثانية : فهي مراقبة الورعين من أصحاب اليمين ، وهم قوم غلب اطلاع الله تعالى على ظاهرهم وباطنهم ولكن لم تدهشهم ملاحظة الجلال، بل بقيت قلوبهم على حد الاعتدال متسعة للتلفت إلى الأحوال والأعمال إلا أنها مع ممارسة الأعمال لا تخلو عن المراقبة. نعم غلب عليهم الحياء من الله تعالى فلا يقدمون ولا يحجمون إلا بدع التثبت فيه ويمتنعون من كل ما يفتضحون به في القيامة فإنهم يرون الله تعالى في الدنيا مطلعا عليهم فلا يحتاجون الى انتظار القيامة ، وتعرف اختلاف الدرجتين بالمشاهدات والله أعلم.

الباب العاشر

في بيان معنى القرب

قال الله تعالى للرسول عليه الصلاة والسلام : ” واسجد واقترب” العلق 19

وقد ورد أقرب ما يكون العبد من ربه في سجوده ، فالساجد إذا أذيق طهم السجود يقرب ، لأنه يسجد ويطوى بسجوده بساط الكون ما كان وما يكون ويسجد على طرف رداء العظمة فيقرب .

قال بعضهم : إني لا أجد الحضور ، فأقول : يا الله أو يارب فأجد ذلك أثقل عليّ من الجبال . قيل : ولم ذلك ؟ قال : لأن النداء يكون من وراء حجاب ، وهل رأيت جليسا ينادي جليسه؟ وإنما هي إشارات وملاحظات ومناغاة وملاطفات ، وهذا الذي وصفه مقام عزيز يتحقق فيه القرب ولكنه مشعر بمحو مؤذن بسكر يكون ذلك لمن غابت نفسه في نور روحه لغلبة سكره وقوه محوه ، فإذا صحا وأفاق تتخلص الروح من النفس والنفس من الروح ويعود كل من العبد إلى محله ومقامه . فيقول : يا الله ويارب بلسان النفس المطمئنة العائدة إلى مقام حاجتها ومحل عبوديتها والروح يشتغل بفتوحه بكمال الحال عن الأقوال ، وهذا أتم وأقرب من الأول ، لأنه في حق القرب باستقلال الروح بالفتوح وأقام رسم العبودية بعود حكم النفس إلى محل الافتقار وحظ القرب لايزال يتوفر للروح بإقامة رسم العبودية من النفس.

وقال الجنيد : إن الله تعالى يقرب من قلوب عباده على قدر قربهم منه ، فانظر ماذا

صفحة 136

تقرب من قلبك . وقال أبو يعقوب السوسي : مادام العبد يكون بالقرب لم يكن قريبا حتى يغيب عن القرب بالقرب فإذا ذهب عن رؤية القرب بالقرب فذلك قرب وقد قال قائلهم:

قد تحققتك في السر فناجاك لساني

فاجتماعنا لمعان وافترقنا لمعاني

إن لم يكن عيبك التعظيم عن لحظ عياني

فلقد صيرك الوجد من الأحشاء داني

وقال ذو النون : ما ازداد أحد من الله قربة إلا ازداد هيبة . وقال سهل : أدنى مقام من مقامات القرب الحياء. وقال النصر آبادي : باتباع السنة تنال المعرفة ، وبأداء الفرائض تنال القرب، وبالمواظبة على النوافل تنال المحبة ، والحمدلله وحده.

الباب الحادي عشر

في بيان شرف العلم ووجوب طلبه والقدر الواجب منه

اعلم : أن العلم والعمل لأجلهما خلقت السموات والأرض ومافيهما.

قال الله تعالى : ” الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما ” الطلاق 12 وكفى بهذه الآية دليلا على شرف العلم ووجوب طلبه لا سيما علم التوحيد.

قال الله تعالى : ” وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون” الذاريات 56 . وكفى بهذه الآية دليلا على شرف العبادة ولزوم الإقبال عليها فأعظم بأمرين هما المقصود من خلق الدارين فحق العبد أن لايشتغل إلا بهما وأن لا يتعب إلا لهما ثم العلم هو أشرف الجوهرين ، ولكن لابد من العبادة مع العلم و إلا كان العلم هباء منثورا .

واعلم : أنه يجب تقديم العلم على العبادة لأمرين : أحدهما : لتصح لك العبادة وتسلم . والثاني : هو أن العلم النافع يثمر الخشية والمهابة لله تعالى في قلب العبد وهما يثمران طاعة ويحجزان عن المعصية بعون الله تعالى وتوفيقه ، وليس وراء هذين مقصد للعبد في عبادة ربه سبحانه وتعالى. فعليك بالعلم النافع فيجب عليك أولا أن تعرف المعبود ثم تعبده وكيف تعبد من لاتعرفه بأسمائه وصفات ذاته وما يجب له وما يستحيل عليه في

صفحة 137

نعته فربما تعتقد اعتقادا في صفاته شيئا مما يخالف الحق فتكون عبادتك هباء منثورا . ثم عليك أن تعلم ما يلزمك فعله من الواجبات الشرعية لتفعله على ما أمرت به وما يلزمك تركه من المناهي الشرعية لتتركه.

واعلم : أن العلم الذي طلبه فرض لازم لكل مكلف ثلاثة أنواع :

الأول : علم التوحيد والذي يتعين عليك منه هو مقدار ما تعرف به أصول الدين وقواعد العقائد كافية فيه.

الثاني : علم السر وهو ما يتعلق بالقبل ومساعيه من مواجبه ومناهيه .

الثالث : علم العبادات الظاهرة  المتعلقة بالأبدان والأموال ، ثم إن من الله عليك بعلم ما وجب عليك علمه وعمل ما وجب عليك عمله وترك ما وجب عليك تركه فقد أديت ما أوجبه الله تعالى عليك وصرت من العلماء العالمين ، وبالله التوفيق .

الباب الثاتي عشر

في بيان معاني الأسماء الحسنى

اعلم :أن جملة الأسماء الحسنى ترجع إلى ذات و سبع صفات على مذهب أهل السنة خلافا للمعتزلة و الفلاسفة , ثم إن الاسم غير المسمى و هذا هو الحق,فحد الاسم أنه اللفظ الموضوع للدلالة على المسمى .

و اعلم أن كمال العبد و سعادته إنما هو في التخلق بأخلاق الله تعالى و التحلى بمعاني أسمائه و صفاته بقدر ما يتصور في حقه , و لا تظنن أن المشاركة بكل وصف يوجب المماثلة.

هيهات ألم تعلم أن الله موجود لا في محل , و أن الله تعالى حي عالم قادر مريد سميع بصير متكلم فاعل و الإنسان كذلك ايضا . أفترى أن مثبت هذه الأوصاف للإنسان يكون مشبها ممثلا .

هيهات ليس الأمر كذلك , بل المماثلة عبارة عن المشاركة في النوع و الماهية و الخاصية الإلهية أنه الموجود الواجب الوجود بذاته الذي بقدرته يوجد كل ما في الإمكان و جود على أحسن وجوه النظام و الكمال ,وهذه الخاصية لا يتصور فيها مشاركة و لا مماثلة البتة بل لا يعرفها إلا الله تعالى و تقدس , فالخالق كلهم لم يعرفوا إلا احتياج هذا العالم المنظوم المحكم إلى صانع حى عالم قادر , و هذه المعرفة لها طريقتان : أحدهما : يتعلق بالعالم و معلومه يحتاج إلى مدبر و الآخر : يتعلق بالله تعالى معلومه أسام مشتقة من صفات غير داخله في حقيقة الذات وماهيتها , فإن قلنا حى عالم قادر معناه شئ مبهم له وصف الحياة و القدرة فما عرف أحد إلا تقسه أولا ثم قايس بين صفات الله تعالى و بين صفات نفسه و تتعالى صفات الله تعالى عن أن تشبه صفاتنا , فإذا يستحيل أن يعرف الله تعالى بالحقيقة 

صفحة 138

غير الله تعالى , بل يستحيل أن يعرف النبوة غير النبي . و أما من ليس بنبى فلا يعرف من النبوة إلا اسمها .

فإن قيل : فما نهاية معرفة العارفين بالله تعالى ؟ فنقول نهاية معرفتهم هو أن ينكشف لهم استحالة معرفة حقيقة ذات الله تعالى لغير الله تعالى و إنما اتساع معرفة العارفين بالله تعالى و انما تكون في معرفة أسمائه وصفاته فبقدر ما ينكشف لهم من معلوماته و عجائب مقدوراته و بدائع آياته في الدنيا و الآخرة يكون تفاوتهم في معرفته سبحانه و تعالى و الله أعلم

فصل

اعلم : ان جملة معاني أسماء الله تعالى الحسنى ترجع إلى عشرة أقسام :

الأول : ما يدل على الذات فقط . كقولك : الله ويقرب منه اسم الحق تعالى إذا أريد به الذات من حيث هي واجبة الوجود.

الثاني : ما يرجع إلى الذات مع سلب مثل القدوس و السلام و الغني و الأحد ونظائرها, فإن القدوس هو المسلوب عنه كل ما يخطر بالبال و يدخل في الوهم , و السلام هو المسلوب عنه كل عيب ونقص , و الغني هو المسلوب عنه كل حاجة , و الأحد هو المسلوب عنه النظير و القسمة .

الثالث : ما يرجع إلى الذات مع إضافة كالعلى و العظيم . و الأول و الآخر , و الظاهر و الباطن ونظائرها . فإن العلى هو الذات الذى هو فوق سائر الذوات في الرتبة فهي إضافة , و العظيم ما يدل على الذان من حيث تجاوز حدود الإدراكات , و الأول هو السابق على دليل العقل , و الباطن هو الذات بالإضافة الى إدراك الحس و الوهم.

الرابع : ما يرجع الى الذات مع سلب و إضافة كالملك و العزيز , فإن الملك هو الذات التى لا تحتاج الى إليها كل شئ : و العزيز هو الذي لا نظير له وهو ما تشتد الحاجة إليه و يصعب نيله و الوصول إليه .

الخامس : مايرجع الى الذات مع صفه ثبوته كالحى و العالم و القادر و المريد والسميع و البصير و المتكلم .

السادس : مايرجع الى العلم مع إضافة كالحكيم و الخبير و الشهيد و المحصى . فإن الحكيم يدل على العلم مضافا إلى أشرف المعلومات , و الخبير يدل على العلم مضافا إلى الأمور الباطنة , و الشهيد يدل على العالم مضافا إلى ما يشاهد و المحصى يدل على العلم الذي يحيط بمعلومات محصورات معدودة التفصيل .

صفحة 139

السابع : ما يرجع إلى القدرة مع زيادة إضافة كالقوى والمتين والقهار فإن القوة هي تمام القدرة ، والمتانة شدتها والقهر تأثيرها في المقدورة بالغلبة .

الثامن : ما يرجع إلى الإرادة مع فعل وإضافة كالرحمن والرحيم والرءوف والودود. فإن الرحمة ترجع إلى الإرادة مضافة إلى قضاء حاجة المحتاج الضعيف ، والرأفة شدة الرحمة وهي المبالغة في الرحمة ، والودود يرجع إلى الإرادة مضافا إلى الإحسان والإنعام وفعل الرحمة يستدعي محتاجا وفعل الود لا يستدعي ذلك بالإنعام على سبيل الإبتداء.

التاسع : ما يرجع إلى الذات مع صفة إضافية كالخالق والبارئ والمصور والوهاب والرزاق والفتاح والباسط والقابض والخافض والرافع والمعز والمذل والعدل والمقيت والمغيث والمجيب والواسع والباحث والمبدي والمعيد والمحيي والمميت والمقدم والمؤخر والولي والبر والتواب والمنتقم والمقسط والجامع والمعطي والمانع والمغني والهادي ونظائرها .

العاشر : ما يرجع إلى الدلالة على الفعل مع إضافة كالمجيد والكريم واللطيف. فإن المجيد يدل على سعة الإكرام مع شرف الذات. والكريم كذلك ، واللطيف يدل على الفعل مع الرفق ، ولا تخرج هذه الأسامي وغيرها من مجموع هذه الأسامي عن الترادف مع رجوعها إلى هذه الصفات المشهورة والمحصورة والله تعالى أعلم.

اعلم : أن معاني أسماء الله الحسنى مندرجة في أربع كلمات وهن الباقيات الصالحات (سبجان الله والحمدلله ولا إله إلا الله والله أكبر).

الكلمة الأولى : سبحان الله ومعناها في كلام العرب التنزيه والسلب فهي مشتملة على سلب النقص والعيب عن ذات الله تعالى وصفاته فما كان من أسمائه سلبا فهو مندرج تحت هذه الكلمة كالقدوس وهو الطاهر من كل عيب ، والسلام هو الذي سلم من كل آفة.

الكلمة الثانية : قول الحمدلله وهي مشتملة على إثبات ضروب الكمال لذاته وصفاته سبحانه وتعالى ، فما كان من أسمائه متضمنا الإثبات كالعليم والقدير والسميع والبصير فهو مندرج تحتها فنفينا بسبحان الله كل عيب عقلناه وكل نقص فهمناه ، وأثبتنا بالحمدلله كل كمال عرفناه وكل جلال أدركناه وراء ما نفيناه وأثبتناه شأن عظيم قد غاب عنا وجهلناه فنحققه من جهة الإجمال بقولنا الله أكبر.

وهي الكلمة الثالثة ومعناها : إنه أجل مما نفيناه ومما أثبتناه وذلك معنى قوله عليه الصلاة والسلام : ” لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ” ، فما كان من أسمائه متضمنا فوق ما عرفناه وأدركناه كالأعلى والمتعالي فهو مندرج تحت قولنا : الله أكبر في الوجود من هذا شأنه نفينا أن يكون في الموجودين من يشاكله أو يناظره فحققنا ذلك بقولنا لا إله إلا الله.

صفحة 140

وهي الكلمة الرابعة : إذ الألوهية ترجع إلى استحقاق العبودية ولا يستحق العبودية إلا من اتصف بجميع ما ذكرناه، فما كان من أسمائه متضمناً للجميع على الإجمال كالواحد الأحد وذو الجلال والإكرام فهو مندرج تحت قولنا لا إله إلا الله. وإنما استحق العبودية لما وجب له من أوصاف الجمال ونعوت الكمال التى لا يصفها الواصفون ولا يعدها العادون ولو أدرجت الباقيات الصالحات في كلمة على سبيل الإجمالى وهى : الحمد لله لاندرجت فيها كما قال السيد الجليل والإمام الحفيل على بن أبي طالب رضي الله عنه : ( لو شئت أن أوقر بعيراً من قول الحمد لله لفعلت). فإن الحمد لله هو الثناء والثناء يكون بإثبات الكمال تارة وسلب النقص أخرى، وتارة بالاعتراف بالعجز عن إدراك الإدراك تارة بإثبات التفرد بالكمال والتفرد والكمال من أعلى مراتب المدح والكمال. وقد اشتملت هذه الكلمة على ما ذكرناه في الباقيات الصالحات لأن الألف واللام فيها لاستغراق جنس المدح والحمد ما عملناه وجهلناه ولا خروج للمدح عن شئ مما ذكرناه . ولا يستحق الإلهية إلا من اتصف بجميع ما ذكرناه، ولا يخرج عن هذا الاعتقاد ملك مقرب ولا نبى مرسل ولا أحد من أهل الملك إلا من خذله الله واتبع هواه وكان أمره  فرطاً وعصى مولاه أولئك قوم قد غمرهم ذل الحجاب وطردوا عن الباب وأبعدوا عن ذلك الجناب، وحق لمن حجب في الدنيا عن إجلاله ومعرفته أن يحجب فى الآخرة عن إكرامه ورؤيته.

الباب الثالث عشر

فى الاعتقاد والتمسك بعقيدة صحيحة ومعنى الاعتقاد اتخاذ عقد صورة علم أو ظن في القلب بوجود المغيبات والعلم الاعتقاد الجازم الثابت المطابق للواقع

وقال بعض الكبار: العلم نور إذا نزل في القلب ينقذ شعاعه إلى حيث المعلوم ويتعلق به كما يتعلق نور العين بالمرئى الاعتقاد الصحيح هو الخالى عن التعطيل والإلحاد والتشبيه والتجسم والتكييف والنقص والحلول والاتحاد والإباحة

و غير ذلك ، وأن يكون معه التنزيه والعظمة والكبرياء كما كانت الصحابة رضى الله عنهم . ودليله الكتاب والسنة واجتماع الأمة، ثم قال : على العبد أن يتعلم أن الله تعالى واحد فرد صمد فى ذاته وصفاته، لا مثل له في ذاته ولا نظير له فى صفاته، لا شريك له فى ملكه، ولا حدوث في صفاته، ولا زوال ولا بداية لقدمه ولا نهاية لبقائه دائم الوجود ولا آخر له قيوم الموجودات لا انقطاع له لم يزل ولا يزال موصوفا بصفات الجلال والجمال لا نهاية لكبريائه ولا غاية لعظمته وجلاله. ليس بجسم ولا جسمانى ولا بروح ولا روحانى ولا بجوهر محدود ولا

صفحة 141

تحله الجواهر ، بل هو خالق الأشياء أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد منزه عن الحركة والانتقال والجهة والمكان وأنه تعالى قريب من كل موجود وهو أقرب إلى العبد من حبل الوريد . قربه من الخلق ليس كقرب الخلق بعضهم من بعض، بل هو قريب يليق به تعالى.

سئل الجنيد – قدس الله تعالى روحه – عن القرب فقال : قريب لا بالتزاق وبعيد لا بافتراق ولا كيفية لقربه معيته، كما أنه ليس كمثله شىء كذلك قربه ومعيته ليس كمعية أحد وقربه وأنه تعالى كان ولم يكن معه شىء وهو الآن على ما هو عليه.

فصل

اعلم : أن من أجرى الاستواء على العرش على ما ينبئ عنه ظاهر اللفظ وهو الاستقرار على العرش . فقد التزم التجسيم وإن تشكك في ذلك كان فى حكم المصمم على التجسيم أيضاً، وإن قطع باستحالة الاستقرار على العرش فقد تأول الظاهر وهو اعتقاد أهل الحق. وكذلك من أجرى النزول على ما ينبئ عنه ظاهر اللفظ وهو الحركة والانتقال، فقد التزم التجسيم أيضاً، وإن قطع باستحالة الحركة والانتقال فقد تأول الظاهر وهو اعتقاد أهل الحق.

واعلم: أن الإعراض عن تأويل المتشاب خوفاُ من الوقوع في محظور من الاعتقاد يجر إلى الشك والإيهام واستزلال العوام وتطريق الشبهات إلى أصول الدين وتعريض بعض آيات كتاب الله العزيز إلى رجم الظنون والحمد لله وحده وهذه العقيدة الصحيحة السليمة لصاحب قلب سليم سلم من البدعة ومن استيلاء وساوس الشيطان و هواجس النفس وزين بالتقوى وأيد بالهدى وهذب بالورع وغذى بالذكر والله تعالى أعلم.

الباب الرابع عشر

في بيان صفات الله تعالى

الصفات الثبوتية سبعة وهى: الحياة والعلم والإرادة والقدرة والسمع والبصر والكلام، وكل صفة من هذه الصفات لها تعلق إلا الحياة فإنها ينبوع الكمالات ، فالعلم يتعلق بكل واجب وجائز ومستحيل ، فالواجب هو ذات الله تعالى وصفاته ، والجائز هو جميع الممكنات، والمستحيل هو الذى لا يمكن وجوده، والإرادة تعلقها تخصيص والتخصيص

صفحة 142

ترجيح أحد الممكنات من العدم إلى الوجود على ما يريد أن يبرزه ، والقدرة تعلقها تأثير والتأثير هو إبراز معدوم أو إعدام موجود ، فلولا سبق العلم لم يحصل

تخصيص الإرادة ، ولولا تخصيص الإرادة لم يحصل تأثير القدرة، والسمع يتعلق بكل مسموع قديم أو حادث، والكلام يتعلق بجميع ما يتعلق به العلم، وهذه الصفات كلها قائمة بذات الله تعالى وهى منقسمة إلى ما يتعلق بغيره كشفاً كالعلم والسمع والبصر ، وإلى ما يتعلق بغيره من غير كشف ولا تأثير : كالكلام ، وأعمها تعلقاً: العلم والكلام وأخصها السمع ومتوسطها البصر، والبقاء هو استمرار الوجود وليس هو وصفاً زائداً على مفهوم الذات، فالأشعرية يقولون الحق سبحانه وتعالى حى بحياة ، عالم بعلم، قادر بقدرة، مريد بإرادة سميع بسمع ، بصير ببصر متكلم بكلام.

ومذهب القدرية: أنه حى بذاته ، قادر بذاته مريد بذاته، سميع بذاته ، يصير بذاته، متكلم بذاته وهو خطأ.

ومذهب الطبائعية: أن النار محرقة بطبعها، والماء مرو بطبعه، والعيش مشبع بطبعه، والأفلاك والكواكب مؤثرة بطبعها وقس عليه جميع الأسباب.

ومذهب أهل الحق أن المؤثر هو قدرة الله تعالى وأن الأسباب لا اثر لها ، والله أعلم.

واعلم: أن الصفات السبع عند الأشاعرة معان زائدة على مفهوم الذات وهى ثابتة الأعيان والأحكام، ومعنى ثبوت الاعيان أنها ليست نفس الذات . وقال غيرهم من السادة: اعلم أن الأسماء والصفات نسب وإضافات ترجع إلى عين واحدة إذ لا كثرة هناك بوجود أعيان زائدة على الذات المقدسة، كما زعم من لاعلم له بالله تعالى من بعض النظار. فلو كانت أعياناً زائدة وما هو إله إلا بها لكان معلولا لها فلا يخلو أن تكون هى عينه. فالشىء لا يكون معلولا لنفسه. أو لا تكون فالإله لا يكون معلولاً لعلة ليست عينه. لأن ذلك يقتضى افتقاره وافتقار الإله محال فكون الأسماء والصفات أعياناً زائدة محال، فافهم جيداً والحمد لله وحده.

الباب الخامس عشر

في بيان حقيقة الإخلاص والرياء وحكمهما وتأثيرهما

اعلم: أن الإخلاص عند علمائنا إخلاصان: إخلاص العمل وإخلاص طلب الأجر.

صفحة 143

فأما إخلاص العمل: فهو إرادة التقرب إلى الله تعالى وتعظيم أمره وإجابة دعوته والباعث عليه الاعتقاد الصحيح وضد هذا الإخلاص النفاق. وهو التقرب إلى من دون الله تعالى. وأما إخلاص طلب الأجر: فهو إرادة نفع الآخرة بعمل الخير وضد هذا الإخلاص: الرياء وهو إرادة نفع الدنيا بعمل الآخرة سواء أراده الله تعالى أو من الناس ، لأن

الاعتبار في الرياء بالمراد لا بالمراد منه، وأما تأثيرهما : فهو أن إخلاص العمل يجعل الفعل قربة وإخلاص طلب الأجر يجعله مقبولاً وافر الأجر.

وأما النفاق: فإنه يحبط العمل ويخرجه عن كونه قربة والرياء يوجب رده، وأما موضع الإخلاص وفي اى طاعة يقع ويجب، فاعلم أن الأعمال عند بعض العلماء ثلاثة أقسام: قسم يقع فيه إخلاصان جميعاً وهو العبادة الظاهرة الأصلية، وقسم لا يقع فيه إخلاص طلب الأجر دون إخلاص العمل وهو المباحات المأخوذة للعدة. وقال شيخنا: إن كل عمل يحتمل الصرف إلى غير الله تعالى من العبادات الأصلية يقع فيه إخلاص العمل والعبادات الباطنة أكثرها يقع فيها إخلاص العمل . وأما الإخلاص في طلب الأجر: فكان شيخنا يقول : إذا أراد العامل من الله تعالى بالعبادات الباطنة نفع الدنيا فهو أيضاً رياء. قلت : فلا يبعد إذا أن يقع في كثير من العبادات الباطنة الإخلاصان، وكذلك النوافل. يجب عليها الإخلاصان جميعا ً عند الشروع فيها. وأما المباحات المأخوذة للعدة : فإنه يقع إخلاص طلب الأجر دون إخلاص العمل إذ هى لا تصلح بنفسها أن تكون قربة، بل هى عدة على القربة وهذا مواضعها، وأما وقتها: فهو أن إخلاص العمل يكون مع الفعل يقارنه لا محالة ويتأخر عنه، وإخلاص طلب الأجر ربما يتأخر عنه. وعند بعض العلماء ربما يعتبر فيه وقت الفراغ من العمل، فإذا فرغ العمل على إخلاص ورياء فقد انقضى الأمر ولا يمكن استدراكه بعد، والله أعلم.

فصل

اعلم: أنه يجب على العبد أن يتحفظ في العمل من عشرة أشياء: النفاق والرياء والتخليط والمن والندامة والعجب والحسرة والتهاون وخوف ملامة الناس. ثم ذكر شيخنا رحمة الله تعالى ضد كل خصلة منها وإضرارها بالعمل، فضد النفاق إخلاص العمل لله تعالى، وضد الرياء إخلاص طلب الأجر، وضد التخليط التقوى، وضد المن تسليم العمل لله تعالى، وضد الأذى تحصين العمل، وضد الندامة تثبيت النفس، وضد العجب ذكر المنة لله تعالى، وضد الحسرة اغتنام الخير، وضد التهاون تعظيم التوفيق، وضد خوف ملامة الناس خشية الله تعالى.

صفحة 144

ثم اعلم أن النفاق يحبط العمل والرياء يوجب رده، والمن والأذى يحبطان الصدقة في الوقت. وعند بعض المشايخ يذهبان أضعافها، وأما الندامة فإنها تحبط العمل في قولهم جميعاً، والعجب يذهب أضعاف العمل والحسرة والتهاون يخففان العمل. فعليك يقطع هذه العقبة المخوفة الخطرة وبالله التوفيق.

مجموعة رسائل الامام الغزالي:

صفحة 144

الباب السادس عشر

في الرد على من أجاز الصغائر على الأنبياء صلى الله عليهم وسلم

قال القاضي عياض رحمه الله تعالى في كتابة الشفا:

اعلم ان المجوزين للصغائر على الأنبياء صلى الله عليهم وسلم من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين احتجوا على ذلك بظواهر كثيرة من القران والحديث ان التزموا ظواهرها افضت بهم الى تجويز الكبائر وخرق الاجماع ما لا يقول به مسلم, فكيف وكل ما احتجوا به مما اختلفوا المفسرون في معناه وتقابلت الاحتمالات في مقتضاه وجاءت اقاويل فقهاء السلف بخلاف ما التزموه من ذلك فاذا لم يكن مذهبهم اجماعا وكان الخلاف فيما احتجوا به قديماً وقامت الدلالة على خطأ قولهم  وصحة غيره وجب تركه والمصير الى ما صح والله تعالى اعلم.

فصل فيما يجب على الأنام من حقوق النبي عليه أفضل الصلاة والسلام

أولها: تصديقه في كل ما جاء به وما قاله ومطابقة تصديق القلب بذلك شهادة اللسان أنه رسول الله الى كل الناس كافة واتباعه في جميع ماأمر به أو نهى عنه, وكذلك محبته ومناصحته وتوقيره وبره والصلاة عليه كل ذلك واجب , لأنه مما جاء به صلى الله عليه وسلم.

واعلم ان  الامة مجتمعة على عصمة النبي صلى الله عليه وسلم من الشيطان وكفايته منه فلا يصل الى ظاهره بشيء من أنواع الأذى ولا الى باطنه بشيء من الوساوس, وكذا عصمته عن الجهل بالله تعالى وصفاته او كونه على حالة تنافي العلم بشيء من ذلك كله جملة بعد النبوة عقلا واجماعا وقبلها سمعا ونقلا, ولا بشيء مما قرره من أمور الشرع واداه عن ربه عز وجل من الوحي قطعا وعقلا وشرعا, وكذا عصمته من الكذب وخلف القول من نبأه الله تعلاى وأرسله قصداً او غير قصد واستحالته عليه عقلاً واجماعاً لمناقضته للمعجزة وتنزيهه عنه قبل النبوة قطعاً, وكذا عصمته في جميع حالاته من رضى وغضب وجد وهزل وصحة ومرض وكذا استحالة السهو والنسيان والغفلة والغلط عليه في الاخبار والاقوال لابلاغية اجماعاً لمناقضته وجواز السهو عليه في الافعال البلاغية بشرط ان لا يقر عليه بل ينسبه عليه على الفور لتظهر فائدة النسيان من معرفة الحكم والاتباع له فيما

صفحة 145

يشرعه , وفرقوا بين السهو في الأفعال البلاغية والأقوال البلاغية المعجزة على الصدق في القول ومخالفة ذلك يناقض المعجزة واما السهو في الأفعال : فغير مناقض للمعجزة ولا قادح في النبوة , نعم بل حالة النسيان هنا في حقه صلى الله عليه وسلم سبب افادة علم وتقرير شرع كما قال صلى الله عليه وسلم: اني(( لست انسى ولكني انسى لأسن)). وهذه الحالة بعيدة عن سمات النقص بل هو زيادة في التبليغ وتمام عليه في النعمة وأما ما ليس طريقة البلاغ ولا بيان الأحكام من افعاله صلى الله عليه وسلم وما يختص من امور دينه واذكار قلبه فالذي ذهب اليه جماعة الصوفية واصحاب علم القلوب استحالة السهو والنسيان والغفلات والفترات عليه في جملة , وأجاز ذلك  الاكثر من طبقات علماء الامة وذلك بما كلفه من سياسة الامة ومقاساة الخلق ومعاناة الاهل وملاحظة الأعداء ولكن ليس على سبيل التكرار ولا الاتصال بل على سبيل الندور وليس هذا في شيء يحط من مرتبته او يناقض معجزته صلى الله عليه وسلم.

واعلم انه يجوز طريان الالام والاوجاع على ظاهر جسم النبي ليتحقق بشريته ولا لا يصل شيئ من ذلك الى باطنه لتعلقه بمشاهدة ربه عز وجل والانس به ثم اعلم ان المصير في جميع ما ذكرنا في حق الانبياء والملائكة كالمصير في حق نبينا محمد وعليهم اجمعين.

فصل في بيان ما يجب على النبي وما يحرم عليه  وما يباح له وما خص به الفضائل دون غيره

فأما ما يجب عليه فهو التهجد والوتر والضحى والأضحية والمشاورة وتخيير الزوجات والسواك ومصابرة العدو وان كثروا وتغيير المنكر.

وأما ما يحرم عليه دون غيره فهو الخط والشعر والصدقة والزكاة ومد عينيه الى ما متع به غيره والمخادعة في الحرب ومسك الزوجة المكارهة وفي طلاق الرغبة واكل الكراث والثوم والبصل والاكل متكئا وفيه خلاف والاصح الكراهية لا التحريم ونكاح الحرة الكتابية والامة المسلمة وغيرها والصلاة على المدين على خلاف فيه ولااصلح انه صلى بعد ذلك ونزعه لامة الحرب قبل القتال.

واما ما يباح له صلى الله عليه وسلم فهو حكمه لنفسه ولفرعه وشهادته وقبوله ايضا لهما وخمس الخمس وحل الغنائم ومن ارادها لزم زوجها طلاقها , وله النكاح بلا مهر لمن شاء ويصح نكاحه بلفظ الهبة ويجوز اخذخ طعام المحتاج ويلزم المضطر بذله ويحيي ما شاء من موات ويقتضى بعلمه ابداَ ويجب على خاطره دفع قاصده بسوء ولا ينتقض وضوءه بالنوم ولا باللمس على الاصح ولا يورث ماله ويلزم الخلية اجابته ويعقد نكاحه بلا ولي ولا

صفحة 146

شهود وله الزيادة على اربع وعلى وتسع في الاصح وله النكاح في الاحرام ويصح نكاحه من نفسه وممن شاء.

وانا ما خص به من الفضائل فهو ان ازواجه الائي  مات عنهم حرام على غيره قطعاً وكذا اللاتي فارقهن بعد الدخول في الأصح وهن امهات المؤمنين وشرعه صلى الله عليه وسلم ناسخ لما قبله يستمر الى انقضاء الأبد وكتابة المعجز المستمر السالم من التبديل والتحريف وهو حجة الله تعالى على عباده وجعلت له الارض مسجداً وطهوراَ وأعطى خمسة شفاعات وخص بالشفاعة العظمى وهو اول من يقرع باب الجنة وامته خير امة ولا تجتمع على ضلال وهو اول شافع مشفع واول من تنشق عليه الارض وتصف امته كالملائكة يوم القيامة وفضلاته طاهرة على الاصح يتبرك بها ويشفى بها ويرى من ورائه كما يرى امامه ولا يحل مناداته من وراء حجرته وصلاته في النقل قاعداَ في اجره كصلاته في الوقوف ولا يجوز ندائه باسمه واعطى جوامع الكلم.

فصل

اعلم ان الله تعالى قد حرم اذى النبي صلى الله عليه وسلم في القران ولعن مؤذيه واجتمعت الامة على قتل مستقصيه وسابه من الملسمين تصريحاً كان او تعريضاً واما ما هو حقه سب او نقص.

فاعلم انه من سبه او عابه او الحق به نقصاً في خلقه او خلقه  او دينه او خصلة من خصاله او نسبه او عرض به او سبهه بشيء على طريق السب له او الازراء عليه او التصغير بلسانه فهو ساب له وسابه بقتل وكذا حكم من غيره بما جرى من الابتلاء والمحنة عليه او غمضه ببعض العوارض البشرية الجائزة عليه وهكذا كله باجماع من العلماء من لدن الصحابة الى الان.

قال ابن المنذر رحمه الله تعالى: أجمع عوام اهل العلم على ان من سب رسول الله صلى الله عليه ويسلم يقتل وممن قال بذلك مالك والليث واحمد واسحاق ومذهب الشافعي وهو مقتضى مذهب ابي بكر الصديق رضي الله عنه وعنهم فلا تقبل توبته عند هؤلاء وبمثله قال ابو حنيفة واصحابه والثورى واهل الكوفة والأوزاعي في المسلم لكنهم قالوا : هي ردة, والله أعلم.

صفحة 147

الباب السابع عشر

في معرفة الخواطر واقسامها ومحاربة الشيطان وقهره والتدبير في دفع شره وان يستعيذ بالله تعالى منه اولا ثم يحاربه بثلاثا اشياء

احدهما : ان تعرف مكائده وحيله ومخادعاته.

والثاني ان تستخف بدعوته فلا تعلق قلبك بها.

والثالث ان تديم ذكر الله تعالى بقلبك ولسانك فان ذكر الله تعالى في جنب الشيطان كالاكلة في جنب ادم , فأما معرفة مكائده فانه يستبين لك بمعرفة الخواطر واقسامها , فاعلم ان الخواطر اثار تحدث في قلب العبد تبعثه على الفعل او الترك وحدوث جميعها في القلب من الله تعالى  اذ هو خالق كل شيء لكنها اربعة اقسام: فقسم منها يحدثه الله تعالى في قلب العيد ابتداء فيقال له الخاطر فقط, وقسم يحدثه موافقاَ لطبع الانسان فيقال له هو النفس, وقسم يحدثه عقب دعوة الشيطان فينسب اليه ويقال له الوسواس وقسم يحدثه الله ويقال له الالهام , ثم اعلم ان الخاطر الذي من قبل الله تعالى ابتداء قد يكون خيراٌ اكراماً والزاماً للحجة. وقد يكون شراُ امتحاناُ , والخاطر الذي يكون من قبل الملهم لا يكون الا بخير اذ هو ناصح مرشد لا يرسل الا لذلك, والخاطر الذي يكون من قبل هوى النفس لا يكون الا بالشر وقد يكون بالخير لا لذاته فهذه انواعها:

ثم اعلم انك محتاج الى ثلاثة فصول:

فاما الفصل الأول قال العلماء رضي الله عنهم اجمعين اذا اردت ان تعرف خاطر الخير من خاطر الشر وتفرق بينهما فزنه باحد الموازين الثلاثة يبين لك حاله:

فالأول هو ان تعرضه على الشرع فان وافق جنسه فهو خير وان كان بالضد اما برخصة او بشبهة فهو شر , فان لم يبين لك بهذا الميزان فاعرضه على الاقتداء بالصالحين, فان كان فيه اقتداؤهم فهو خير ولا فهو شر, وان لم يبين لك بهذا الميزان, فاعرضه على النفس والهوى , فان كان مما تميل النفس ميل طبع لا ميل رجاء الى الله تعالى فهو شر.

واما الفصل الثاني: اذا اردت ان تفرق بين خاطر شر ابتداء من قبل الشيطان او من قبل النفس او من الله تعالى , فانظر فيه ثلاثة اوجه:

صفحة 148  مجموعه رسائل الإمام الغزالي

أحدها : إن وجدته ثابتا راتبا مصمما على حاله واحد فهو من الله تعالي او من هوى نفسه، و إن وجدته مترددا مظطربا فهو من الشطان.

وثانيا : إن وجدته عقب ذنت احدثته فهو من الله تعالي ولا يزول فهمو من هوى النفس ، وإن وجدته يضعف من ذكر الله فهو من الشيطان .

وثالثها : إن وجدته لا يضعف ولا يقل من ذكر الله تعالى ولا يزول فهوى من هوى النفس , وإن وجدته يضعف من ذكر الله فهو شيطان.

وأما الفصل الثالث : إذا أردت ان تفرق بين خاطر خير يكون من الله تعالى او من الملك فانظر فى ذلك من ثلاثة أوجه :

أحدها:إن كان مصمما على حاله واحده فهو من الله تعالي ، وإن كان مترددا فهو من الملك إذا هو بمنزلة ناصح .

والثاني : إن كان عقب اجتهاد منك وطاعه فهو من الله تعالى، وإلا فهو من الملك .

والثالث : إن كان فى الأصول والأعمال الباطنه فهو من الله تعالى وإن كان في الفروع والأعمال الظاهرة فهو من الملك فى الأكثر ، إذا الملك لا سبيل له إلى معرفه باطن العبد في قول أكثرهم ، وأما خاطر الخير الذي يكون من قبل الشيطان استدراجا إلى شر يربو عليه عليه ، فانظر فإن وجدن نفسك فى ذلك الفعل الذي يخطر بقلبك مع نشاط لا مع خشيه ، ومع عجلة لا مع تأن ، ومه آمن لا مع خوف ، ومع عمى العاقبه لا مع بصيره ، فاعلن انه من الشيطان فاجتنبته ، وإن وجدت نفسك على ضد ذلك فاعلم انه من الله تعالي او من الملك قلت انا وكان النشاط خفة فى الأنسان للفعل من غير بصيره وذكر ثواب ينشط فى ذلك . واما التأني فمحمود إلا فى مواضع معدوده ، وإما الخوف : فيحتمل أن يكون فى أتمامه وأدائه على حقه وقبول الله تعالى إياه.

وأما بضارة العاقبه : فبأن تتبصر وتتيقن أنه رشد وخير ، ويحتمل ان يكون لرؤيه الثواب فى العقبى ورجائه . فهذه الفصول الثلاثه التى لزمتك معرفتها فارعا فإنها من العلوم اللطيفه والأسرار الشريفه فى هذا الأمر ، وبالله التوفيق ولي الهدايه.

الباب الثامن عشر

في بيان معنى آفات اللسان وهى عشرون آفة

أولها: الكلام فيها لا يعني ، ثم فضول الكلام ، ثم الخوض فى الباطل ، ثم الراي والمجادله ، ثم الخصومه ، ثم التقعير فى الكلام ، ثم الفحش والسب واللعن ، ثم الشعر، ثم المزاح ، ثم السخريه والإستهزاء ، ثم إفشاء سر الغير ، ثم الوعد الكاذب ، ثم الكذب فى

صفحة 149

القول واليمين ، ثم الغيبه والنميمه ذو اللسانين ، ثم المدح ، ثم الخطأ فى فحوى الكلام ، ثم سؤال العوام عم لا يبلغه فهمهم من صفات الله تعالي . فأما حد الكلام فيما لا يعني : فهو ان يتكلم بما لو سكت عنه لم يأثم ولم يتضرر فى حال ولا مآال . وأما فضول الكلام : فهو من الزيادة على قدر الحاجه فيما يغني .

وأما الخوض فى الباطل : فهو الكلام فى المعاصي كحكايه أحوال الوقاع ومجالس الخمور وتجبر الظلمه وكحكايه مذاب اهل الأهواء . وكذا حكايه ماجرة بين الصحابه

رضى الله عنهم آجمعين على وجه الغستنقاص ببعضهم ام الراء : فهو الاعتراض على الغير بإظهار خلل فى لفظه او معناه او قصده به . وأما المجادله : فهو من مراء يتعلق بالمذاهب وتقريرها . واما الخصومه : فهى لجاج فى الكلام بإظهاره اللدد على قصد الإيذاء ومزج الخصومه بكلمات مؤذيه لا يحتاج إليها فى نصر الحجه . وأما التعقرفى الكلام فهو تكلف الفصاحه بالتشدق . وأما الفحش: فهو التعبير عم الأمور المستقبحه بالعبارات الصريحه. وأما اللعن : فهو مايكون لجماد أو لحيوان أو لإنسان وكل ذلك منهى عنه لأن اللعن هو الإبعاد عن الله ، ولايجوز  اللعن إلا على من بتصف بصفه تبعده عن الله تعالى والصفات المقتضيه للعن ثلاثه : الكفر والبدعه والفسق فيجوز لعن كل صنه من هذه الثلاثة فأما لعن شخصيه بعينه من هذه الأصناف فلا يجوز غلا على من علم موته على الكفر كفرعون وابي جهل وابي لهب لا حتمال موته على الإسلام اما الشعر : فحسنه حسن وقبيحه قبيح كالكلام . وأما المزاح : فهو منهى عنه إلا عن سيسر لا كذب فيه ولا أذى – واما السخريه :  فهى التنيه على العلوم والنقائض على وجه الضحك منه ومهما كان مؤذيا حرم وإلا فلا . واما إفشاء السر : فهو حرام وإذا كان فيه إضرار وإم لك يكن فيه إضرار فهو لوم . وأما الوعد الكاذب : فهو من علامات النفاق وذلك إنه إذا كان حال الوعد عازما على الخلف وإذا أخلف من غير عذر . وأنا من عزم على الوفاء وطرا له عذر منعه من الوفاء فذلك ليس بنفاق ،ولكن ينبقى ان يحرز من صورة النفاق أيضا . وأما الكذب في القول واليمين : فهو من قبائح الذنوب . أما ما رخص فيه من الكذب : فاعلم ان الكلام وسيله إلى القاصد فكل مقصود محمود يمكن التوسل إليه بالصدق والكذب جميعا ، فالكذب فيه حرام وإن أمكن التوسل إليه بالكذب دون الصدق فالكذب فيه مباح ، وإن كان تحصيل ذلك المقصود واجبا فهذا ظابطه ، وإما حكم الغيبه : فأعلم انها محرمه بالكتاب والسنه وإجماع الأمه إلا ما يستثنى منها . وأما حدها : فهو ان ذكر اخاك المسلم فى حال غيبته بما فيه مما يكرهه لو بلغه وسواء ذكر بنقص فى دينه او دنياه او قوله او فعله والغمز والرمز و الإشاره والإيماء والتعريض والكتابه ، فكل ذلك حرام .

الصفحة  رقم 150

مجموعة رسائل الإمام الغزالي

أما الأسباب الباعثة على الغيبة فمنها : ما يتخص بأهل الدين والخاصة من العلماء . فأما ما يخص بالعامة فهو الغضب والحقد والحسد وموافقة الرفقاء في الهزل واللعب والإستهانة والإستحقار والتصنع والمباهاة والترفع على الغير وإرادة التبرؤ من غيب نسب إليه ينسبه إلى فعله والمبادرة بتقبيح حال من يخشى أن يستقبح حاله عند كبير أو محتشم.

وأما ما يختص بأهل الدين والخاصة من العلماء : فهو الغضب لله تعالى على فاعل المنكر والتعجب من فعله والشفقة عليه والرحمة . فهذه من أمغض  الأسباب وأخفاها ، لأن الشيطان يخيل للجهلة من العلماء أن الغضب والتخيل إذا كانت لله تعالي كانت عذراً مرخصاً في ذكر الإسم بالغيبة حاجات مخصوصة لا مندرجة عنها في ذكر الإسم بالغيبة وهي التظلم إلى الحكام والإستفتاء والإستعانة على إزالة المنكر والتحذير والنصيحة ولاتعريف باللقب. فهذه ثلاثة أمور هي المستثناة فب الشرع من الغيبة للضرورة.

وأما معالجة مرضها: فهو أن تعلم إنك متعرض لسخط الله تعالى بغيبة أخيك المسلم ومحبط لحسناتك على صحائف من إستغبته.

وأما أركان التربة منها: فهي العلم والندم والإقلاع والعزم وإستحلال من إستغتبته بذكر ما إغتبته به إلا أن يتعذر عليك فتدعو له.

وأما حكم النميمة: فاعلم ،ها محمرمة بالكتاب والسنة وإجماع الأمة ، وأما حدها : فهو نقل كلام بعض الناس إلى بعض على قصد الإفساد، وسواء كرهه المنقول عنه أو المنقول إليه أو غيرهما. وأما سببها : فهو إما إدارة السوء بالمنقول عنه أو التحبب إلى المنقول إليه والخوض في الباطل .وأما معالجة مرضها: فهو أن تكف لسانك عنها حذراً من ضررها.

وأما أ{كان التوبة منها : فهي العلم والندم والإقلاع والعزم . وأما ماذا يجب على من نقلت إليه نميمة فهو ستة أمور وهي : أن لا يصدقه وأن ينهاه ، وأن يبغضه في الله تعالى لإنه بغيض عند الله تعالى ، ويجب بغض من يبغضه الله تعالى ، وأن لا ينم عليه ، وأن لا  يتجسس عن المنقول عنه ، وأن لا يسئ  الظن.

وأعلم أن سوء الظن بالمسلم كسوء القول . وحده أن تحكم على أخيك المسلم بالسوء بما لا تعلمه، أما ذو اللسانين : فهو الذي ينقل كلام المتعادين بعضهم إلى بعض على جهة الإفساد ، فإن لم ينقل كلاناً ولكن حسن لكل واحد منهما ما هو عليه من العداوة أو وعد كلاهما بأن يضره أو أثنى عليهما في معاداداتهما أو أثنى على أحدهما ، وكان إن خرجمن عنده يذمه فهو ذو لسانين في ذلك كله ، بل ينبغي له أن يسكت أو يثني على المحق

صفحة 151

منهما في حضوره وغيبته وعند عدوه . وأما المدح : فهو منهى عنه بعض المواضع ، وفيه ست آفات أربع في المادح وإثنان في الممدوح . فأما المادح التي في المادح.

فالأولى : إنه قد يفرط في المدح حتى ينتهي إلى الكذب.

وثانيها: إنه قد يدخله الرياء فإنه بالمدح مظهر للحب وقد لا يكون كذلك ، أو إنه قد لا يكون معتقداً لجميع ما يقوله فيصير به مرائياً منافقاً.

وثالثهما : أنه قد يقول ما لا يتحققه فيكون كاذباً مزكياً من لم يزكه الله تعالى وهذا هلاك.

ورابهما : إنه قد يفرح الممدوح وهو ظالم أو فاسق وذلك غير جائز لأن الله تعالى يغضب إذا مدح الفاسق ، وأما الممدوح فيضره بالمدح من وجهين :

أحدهما : أنه يحدث فيه كبراً وعجباً وهما مهلكان.

والثاني : أنه إذا أثنى عليه بالخير فرح به وفتر ورضى عن نفسه وقل تشمره لأر آخرته. ولهذا  قال الرسول الله صلى الله عليه وسلم ” قطعت  عنق صاحبك” فإن سلم المدح عن هذه  ألافات لم يكن به بأس ، بل ربما كان مندوباً إليه . ولذلك أثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصحابة رضي الله عنهم أجمعين حتى قال ” لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان العالمين لرجح” وقال

” لو لم أبعث لبعثت يا عمر “. وأي ثناء يزيد على هذا ولكنه عن صدق وبصيرة وكان أجل رتبة من أن يورثهما ذلك كبراً وإعجاباً ، بل مدح الإنسان قبيح لما فيه من الكبر والتفاخر إلا أن يكون مما لم يورثه ذلك  كبراً وإعجاباً . كما قال  صلى الله عليه وسلم” أنا سيد ولد أدم ولا فخر ” أي لست أقوله تفاخراً كما يقوله الناس بالثناء على أنفسهم وذلك أن أفتخاره صلى الله عليه وسلم إنما كان بالله تعالى وبقربه لا بكونه  مقدما على غيره من ولد آدم عليه الصلاة والسلام ، وأما الغفلة عن دقائق الخطأ في فحوى الكلام: فهو مثل أن يقول : مطرنا بنوء كذا وكذا أو يقول للعنب كرماً  أو نحو ذلك مما نهى عنه من الألفاظ . وأما سؤال العوام عما لا يبلغه فهمهم من صفات الله تعالى فهو مثل أن يسأل عن بعض صفات الله تعالى أو عن كلامه أو عن الحروف هل هي حادثة أو قديمة فكل ذلك مذموم سؤالهم عنه لعدم فهمهم عنه لئلا يلتبس عليهم الحق بالباطل والله تعالى أعلم .

الباب التاسع

في بيان البطن وحفظه

في البطن وحفظه ، لأن المعدن ومنه تهيج الأمور في الأعضاء من خير وشر ، فعليك

صفحة 152

بصيانته عن الحرام . وكذا عن الشبهة ثم فضول أن كانت لك همة في عبادة الله تعالى فأما الحرام أو الشبهة : فإنما يلزمك التحفظ عنها لثلاثة أمور:

الأةل: حذراً من نار جهنم.

والثاني : أن آكل الحرام والشبهة مطرود لا يوفق للعبادة إذا لا يصلح لخدمة الله تعالى تعالى إلا كل قلب طاهر . قلت : أليس قد منع الله تعالى الجنب من دخول بيته والمحدث من  كتابه مع إنهما أثر مباح ؟ فكيف بمن هو منغمس في قذر الحرام والشبهة متى يدعو إلى خدمة الله تعالى وذكره الشريف ( كلا فلا يكون ذلك ) .

والثالث :أن آكل الحرام والشبهة محروم ، وإن اتفق له فعل خير فهو مردود عليه وليس له منه إلا العناء والكد.

وأما حكم الحرام والشبهة وحدهما : فاعلم أن الأولى في حدهما أن ما يتقينت كونه ملكاً للغير منهياً عنه في الشرع أو غلب على ظنك فهو حرام وأما ما تياوت فيه الأماراتان فهو شبهة بشبهة إنه حرام ويشبه أنه حلال ثم اتلأمتناع من الذي هو حرام محض حتم واجب ، والإمتناع من الذي شبهة تقوى وورع . وأما حكمه : فإعلم ما هو الأصل في هذا الكتاب ، وهو أن هنأ شيئين : أحدهما : حكم الشرع وظاهره . والثاني : حكم الورع وحقه . فحكم الشرع أن تأخذ مما آتاك الله ممن ظاهره صلاح ، ولا تسأل إلا أن يتبيين لك أنه عصب أو حرام بعينه ، وحكم الورع أن تأخذ من أحد شيئاً حتى تبحث عنه غاية البحث فتتيقن أن لا شبهة بحال وإلا فترده .فإن قلت : فكان الورع يخالف الشرع وحكمه فأعلم أن الورع من الشرع أيضاً وكلاهما واحد في الأصل ، ولكن للشرع حكمان حكم الجواز وحكم الأفضل الأحوط فالجائز نقول له حكم الشرع والأفضل والأحوط نقول له ورع واللع تعالى أعلم .

وأما حد فضول الحلال : فإعلم أن أحوال المباح في الجملة أقسام :

القسم الأل : أن يأخذ العبد مفاخراً مكاثراً مرائياً فهذا يستوجب على ظاهرة فعله اللوم وعلى باطنه عذاب النار ، لأن ذلك القصد منه معصية وقد وقع الوعيد لمن قصده .

القسم الثاني : أن يأخذ الحلال لشهوة نفسه فذلك منه شيء يوجب الحبس والحساب.

القسم الثالث : أن يأخذ من الحلال في حال العذرقدراً يستعيين به على عبادة ربه سبحانه وتعالى ويقتصر عليه فذلك منه حسنه وأدب ، ولا حساب عليه ولا عتاب بل يستوجب به الأجر والمدح ، والله تعالى أعلم .

صفحة 153

الباب العشرون

في بيان معرفة حيل الشيطان ومخادعاته

قال رحمه الله تعالى ورضى عنه : أما معرفة الحيل والمخادعات من الشيطان مع إبن آدم في الطاعات فهي من سبعة أوجه:

أحدهما: أنه ينهاه عن الطاعات فإن عصمه الله منه أمره بالتسويف فإن سلمه الله  منه أمره بالعجلة فإن نجاه الله منه أمره بإتمام العمل  مراءاة فإن حفظه الله تعالى منه أدخل عليه لاعجب، فإن رأس منه الله تعالى عليه أمره بالإجتهاد في السر وقال له إن الله تعالى سيظهره عليك يريد بذلك جريان الرياء فإن أكتفى بعلم الله تعالى نجا منه ، فإن لم يطعمه في شيئ من ذلك كله وعجز عنه وقال له  لا حاجة لك إلى هذا العمل لأنك إن خلقت سعيداً لم يضرك ترك العمل، وإن خلقت شقياً لم ينفعك فعله ، فإن عصمه الله تعالى منه ، وقال له : أنا عبدوعلى العبد إمتثال أمر سيده ويفعل  ما يشاء ويحكم ما يريد نجا منه بتوفيق الله تعالى وإلا هلك .

فصل في الحذر من النفس

قال رحمه الله تعالى ورضى عنه: العائق الرابع النفس ثم عليك بالحذر من هذه ا لنفس فإنها أضر الأعداء وعلاجها أعسر الأشياء لأنها عدو من داخل ، واللص إذا كان من أهل البيت عزت الحيلة فيه وعظم ضرره ولإنها أيضاً عدو محبوب والإنسان عم عن  عيب محبوبه لا يكاد يرى عيبه ولا يبصره ، ثم الحيلة في أمرها أن تلجمها بالجام التقوى  ولاورع ليحصل لك الفائدة الإمتثال والإنتهاء وأعلم أنه لا يذل النفس ويكسر هواها إلا ثلاثة أشياء :

الأول : منعها عن شهوتها .

الثاني : حمل أثقال العبادات عليها .

الثالث : الإستعانة بالله تعالى والتضرع إليه وإلا فلا يخلص من شرها إلا بها سبحانه وتعالى.

فصل في بيان ما يواخذ العبد به من أعمال القلب

وما لا يؤاخذ به

أعلم: أن ها هنا أربعة أحوال للقلب قبل العمل بالجوارح .

صفحة 154

أحدهما : الخاطر وهو حديث النفس ثم الميل ثم الإعتقاد ثم الهم . فأما الخاطر : فلا يواخذ به لأنه لا يدخل تحت الإختيار ، وكذلك الميل وهيجان شهوة النفس ، لأنهما لا  يدخلان تحت الإختبار ، أيضاً وهما المراد بقوله صلى الله عليه وسلم ” عفا الله لأمتي ما حدثت به أنفسها” فحديث النفس عبارة عن الخواطر التي تهجس في النفس ولا يتبعها عزم على الفعل . فأما  الهم والعزم فلا يسميان حديث النفس.

وأما الثالث : وهو لإعتقاد، وحكم القلب بأنه ينبغي أن يفعل فهذا مردد بين أن يكون إضطرارياً أو إختباراً والأحوال تختلف فيه .فالإختياري منه يواخذ به والإضطراري لا يواخذ به .

وأما الرابع : وهو الهم بالفعل ، فإنه يواخذ به إلا إن لم يفعل نظر فإن تركه خوفاً من الله تعالى زندماً على همه كنب له حسنة ، وإن تعوق الفعل بعائق أو تركه لا خوفاً من الله تعالى كتب عليه سيئة ، فإن همه فعل من القلب إختياري والدليل القاطع فيه : ما روىعن سيدنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ” إذا ألتقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار” قيل : يا رسول الله هذا القاتل فما المقتول ؟ قال ” لأنه أراد قتل صاحبه”  وهذا نص في إنه صار من أهل النار بمجرد الإرادة مع قتل مظلوماً فكيف يظن أنه لا يواخذ بالنية والهم كلما دخل تحت إختيار القلب فإنه مواخذ به إلا أن يكفره بحسنة ونقض العزم بالندم  حسنة ، فلذلك كتبت حسنة وأما فوات المراد بعائق فليس بحسنة.

الباب الحادي والعشرون

في بيان ما يجب رعايته من حقوق الله تعالى وهو ضربان

الأول : فعل الواجبات

والثاني : ترك المحرمات ففعل كل واجب تقوى وترك كل محرم تقوى فمن لأتى بخصلة منها فقد وفى في نفسه بها ما رتب على تركها من شر الدنيا والآخرة مع ما يحصل له من نعيم الجنان ورضا الرحمن.

وأعلم : أنه لا يتقرب إلى الله تعالى إلا بطاعته وطاعته فعل واجب أو مندوب وترك محرم أو مكروه، فمن تقواه تقديم ما قدم الله تعالى من الواجبات على المندوبات ، وتقديم ما قدمه من إجتناب المحارم المحرامات على ترك المكروهات ما يفعله الجاهلون الذين يظنون أنهم إلى الله متقربون وهم منه متباعدون فيضع أحدهم الوجبات حفظاً للمندوبات ، ويرتكب المحرمات تصوناً على ترك المكروهات . فكم من مقيم على صور  الطاعات مع إنطواء قلبه على الرياء والغل والحسد والكبر والإعجاب بالعمل والإدلال على الله تعالى بالطاعات ، والتقوى قسمان أحدهما متعلق بالقلوب وهو قسمان : 

صفحة 155

الاول : واجب كأخلاص  العمل و الايمان.

و الثاني : محرم كالرياء و تعظيم الأوثان . والثاني منها: متعلق بالاعضاء الظاهرة كنظر العين . وبطش الأيدي ومشى الأرجل ونطق اللسان . واعلم أنه أذا صحت التقوى أثمر الورع و الورع ترك ما لا بأس به خوفا من الوقوع فيما به بأس ، والله تعالى أعلم.

فصل

اعلم: ان خيرات الدنيا و الاخرة قد جمعت تحت خصلة واحدة وهى التقوى، وتأمل مافي القرآن من ذكرها كم علق بها من خير وكم وعد عليها من ثواب وكم أضاف اليها من سعادة. ثم أعلم أن الذي يختص به هذا الشأن من أمر العبادة ثلاثة أصول :

الاول: التوفيق و التأييد أولا حتى تعمل وهو للمتقين ، كما قال الله تعالى: (( أنا الله مع الذين اتقوا )) .

و الثاني : أصلاح العمل و اتمام التقصير حتى يتم وهو للمتقين ، كما قال الله تعالى : (( يصلح لكم أعمالكم )) . الاحزاب :81 .

و الثالث: قبول العمل اذا تم وهو للمتقين ، كما قال الله تعالى : (( انما يتقبل الله من المتقين )) المائدة :27.  ومدار العبادة على هذه الاصول الثلاثة التوفيق و الاصلاح والقبول . وقد وعد الله تعالى ذللك كله على التقوى و أ:رم به المتقى سأل أو لم يسأل فالتقوى هي الغاية التي لا متجاوز عنها و لا مقصد دونها .

ثم أعلم ان حد التقوى في قول شيوخنا : هو تنزيه القلب عن ذنب لم يسبق عنهك مثله حتى يجعل العبد من قوة العزم على تركها وقاية بينه وبين العاصي . فأذا وطن قلبه على ذلك فيحنئذ يوصف بأنه متق ، ويقال لذللك التوبة و العزم تقوى .

ثم أعلم أن منازل التقوى ثلاثة : تقوى عن الشرك ، وتقوى عن البدع ، وتقوى عن المعاصي الفرعية ، ثم شرور ضربان أصلى وهو مانهى عنه تأديبا كالمعاصي المحضة ، وشيء غير أصلى وهو ما نهى عنه تأديبا وهي فضول الحلال كالمباحات المأخوذة بالشهوات. فالاولى : تقوى فرض يلزم بتركها عذاب . والثانية : تقوى خير وادب يلزوم بتركها الحبس و الحساب و اللوم . فمن أتى الاولى فهو في الدرجة الاولى من التقوى وتلك منزلة مستقيم الطاعة ، ومن أتى الثانية : فهو الدرجة العليا من التقوى فأذا جمع العبد اجتناب كل معصية وفضول ، فقد استكمل معنى التقوى و هو الورع الكامل الذي هو ملاك أمر الدين. وأما الذي لا بد منه هاهنا فهو مراعاة الأعضاء الخمسة فإنهن الأصول وهي: العين والأذن واللسان والبطن والقلب. فليحرص عليها بالصيانة لها عن كل ما يخاف منه ضرراً

صفحة 156

من حرام و فضول و اسراف من حلال ، فأذا حصلت صيانة هذه الاعضاء فترجو أن تكفى سائر أركانه وتكون قد قمت بحق التقوى بجميع بدنك الله تعالى .

واعلم أن علماء الاخرة رضى الله عنهم أجمعين قد ذكروا فيما يحتاج اليه العبد من هذا الامر سبعين خصلة محمودة في اضدادها المذمومة ، ثم الافعال و المساعي الواجبة المحظورة نحو ذلك فنظرنا في الاصول التي لا بد من ذكرها في علاج القلب ، و لا غنية عنها البتة في شأن العبادة فرأينا أربعة أمور وهو أفات المجتهدين وفتن القلوب تعوق وتشين وتفسد ، وأربعة في مقابلتها فيها قوام العباد و انتظام العبادة واصلاح القلوب . والافات الابع  الاول : الامل و الاستعجال و الحسد والكبر . و المناقب الاربع : قصر الامل و التأني في الامور و النصيحة للخلق و التواضع و الخشوع . فهذه هي الاصول في علاج القلوب وفسادها ، فابذل المجهود في التحرز من هذه الافات و التحصيل لهذه المتاقب تكفى المؤنة و تظفر بالمقصود ان شاء الله تعالى .

فاما طول الامل

Related posts